بين شوطَي السرد خَلْفاً وأماماً… «بيلامي» يسجّل بِعبثية هدفه الذهبي!

النمسا ـ طلال مرتضى

بالطبع لستُ مجبراً أن تصدق زعمي، لكنني أسمع ترافد أنفاسك بهو مفاصل السطور.

إن كنت تعتقد أنك ستقرأ شيئاً فريداً فأنت بالتأكيد مخطئ تماماً، تلك هي حشريتك كقارئ، قد تخسر كلّ شيء فقط لترضي غرورك. لكن عليك النظر بتروٍّ، وقبل إصدار أيّ حكم، لأنني بالمطلق حاولت جاهداً أن آخذك معي كي تكون شاهداً لا تابعاً، لتلمس الحكاية عن كثب.

لك كلّ الحق بأن تدلي بدلوك في بئر الخيال، لتقتنع بأنني وإياك للتو كنا تحت سطوة حكاية خيالية، قد تأخذنا خيبة قراءتها في النهاية إلى حدّ القهقهة.

إدوارد بيلامي، الأميركي الاشتراكي، فعل بي كلّ هذا عندما دلفت طوعاً أبواب مرويته الطوبائية ـ المثالية ـ «النظر إلى الماضي»، والتي لم تزل تفتعل جدلاً اجتماعياً وسياسياً في المجتمع الأميركي، على رغم مرور أكثر من مئة سنة على كتابتها. إذ إنّها تصدرت المركز الثالث في نافذة مبيع الكتب في الولايات المتحدة، والتي كان لها الأثر الأهمّ بأن تقلب حياة بيلامي رأساً على عقب عندما قفزت به إلى درب الشهرة، بغضّ النظر عن مروياته السابقة، عندما لاقت بعض الانتقادات. وقد وشى الكثيرون بأنها ليست سوى بيان سياسيّ ماركسيّ، بناه بيلامي بخيال آسر ليسلب تعاطف الجماهير، الذين تأثروا وقاموا بإنشاء ما يسمّى «الأندية القومية» في بوسطن أواخر عام 1888، استجابة لنظرة بيلامي المثالية التي تدعو إلى العيش في بلدٍ خالٍ من العلل الاجتماعية، وذلك من خلال التخلّي عن مبدأ التنافس ومن خلال ملكية الدولة للصناعة، وهو ما نفاه بيلامي بشكل قطعيّ، وأن الحكاية ليست سوى محض قصة، بدأ بروايتها جوليان وست الذي ناهز الثلاثين سنة وهو ابن عائلة أرستقراطية، وقت كانت الفجوة بين الأغنياء والفقراء شاسعة ولا يمكن ردمها ومن المستحيل معالجتها بأيّ وسيلة، وكأيّ شخص أرستقراطي يعتقد بأنه متفوّق على باقي أبناء الجماهير الكادحة، وأنه كان ينظر إلى إضراباتهم المتكرّرة بعين الغضب والاحتقار، والتي كانت سبباً رئيساً في تأخير زواجه لأكثر من سنة من حبيبته إديث، وذلك بسبب عمال البناء المضربين الذين لم ينهوا له مسكن الزوجية.

وتلك إشارة إلى عدم صحّة كلام بيلامي، حيث الصراع جليّ بين الرأسمالية والاشتراكية. ما يجعله ـ أي بيلامي ـ يدير دفّة القارئ نحو مجرى آخر ليوحي له بأن جوليان كان يعاني من أرق شديد يمنعه من النوم، حيث أنه بنى غرفة سرّاً تحت الأرض لحمايته من ضوضاء الشوارع، إضافة إلى أنه لجأ أيضاً إلى طبيب ومنوّم مغناطيسي ماهر يدعى بيلسبري، ليساعده على النوم والغطّ في سبات عميق.

وفي المرّة الأخيرة التي قام بيلسبري بتنويم جوليان قبل مغادرته بوسطن، حصل حريق في منزل جوليان ودمّره تماماً، وهو نائم في غرفته السرّية، حيث أعتُبر من الأموات. وبعد أكثر من مئة سنة، اكتُشفت غرفة جوليان السرّية من قبل طبيب يدعى ليت، الذي كان يجهّز الموقع لبناء مختبر جديد، وقد تمكّن الطبيب من إعادته إلى الحياة وأخذه إلى منزله، ليجد أن كل شيء قد تغيّر تماماً في القرن العشرين الذي يعتمد على الاقتصاد، وعلى رأس المال المملوك من القطاع العام لا القطاع الخاص، كما كان الحال في زمنه. وأن الحكومة تسيطر على وسائل الإنتاج، ويُقسّم الإنتاج القومي على قدم المساواة بين جميع المواطنين. وأنّ كلّ مواطن يتلقّى التعليم على المستوى الجامعي، كما يُمنَح الأفراد قدراً كبيراً من الحرّية في اختيار المهنة المناسبة. والجميع يتقاعدون في سن الخامسة والأربعين، والمساواة تسود كل شيء، إذ إنه من غير المعقول أن يكون هناك أيّ فرد يعاني من شرور الجوع أو الفقر.

إن نقلةً كبيرةً قد حصلت، حيث يستطيع الفرد أن يحصل على كلّ ما يحتاج إليه من المجمّعات التجارية الكبرى. لا بل أنه يستطيع الشراء عبر بطاقات ذكية «The credit cards، حيث تحقق بعد 62 سنة من كتابة المروية، أي استخدام بطاقات الائتمان ـ كما لم يعد من الصعب أن يتسوّق الناس عبر الشابكة الإنترنت أو عبر الهاتف، والاستماع إلى الموسيقى… إلخ.

وكانت صدمته كبيرة عندما تحدّث إلى شركائه في العمل عن ميزات القرن العشرين، ما أدّى إلى طرده من عمله. وهذا ما جعله يتنبّه من نومه العميق، شاكراً أنه كان يعيش كابوساً رهيباً.

وهنا، لا بدّ وضع رؤية شاملة عمّا سلف، بالجزم بأن بيلامي مرّر بسلاسة كل ما يريد من حيث الهدف من المروية. أما فنياً كان مفارقاً عن غيره هذه المرّة من الرواة، إذ جرت العادة أن يستعملوا أسلوب السرد خلفاً ـ فلاش باك ـ للإدلاء بفحوى حكاياتهم، على ألسنة شخصياتهم، على عكس بيلامي الذي ذهب نحو البعيد، حين جعل من جوليان أن يسرد على مسامعنا القصة أماماً، أي قبل مئة سنة من حدوثها، وتلك في ما يقول العوام «ضربة معلّم».

وقفة قارئ: لعلّ كثيرين منّا ينظرون بعين التعجّب لدى تلمّس المروية التي غيّرت مفاهيم كثيرة في حياة المجتمع الأميركي، والتي رفعت بكاتبها نحو مراتب عليا.

ألا تجدون أنّ في الأمر شيئاً كبيراً من المغالاة، فيما قرأنا تواً أو سمعنا؟

ألم تجدوا أن بيلامي بالفعل «لعبها صح» عندما أخذ حكاية «أهل الكهف» من القرآن كما هي وألبسها لَبوساً جديداً يتماشى والعصر مع فارق الشخوص؟

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى