تسعون عاماً تحية إلى الرفيق فيدل
بلال شرارة
لا زال هذا العالم يتّسع لكلمة لا .
هو لا قوية، مكافحة، صامدة حتى مساء العمر.
هو شخصية وصلت إلى كلّ وطن، إلى كلّ بيت، سبقته كوبا الثورة.. أرنستو تشي غيفارا… علامته المميزّة السيكار… هافانا .
هو… لم نسمع عنه إلا خيراً.. ليس عنده امتيازات.. فساد لا سمح الله… لا إيداعات مالية في المصارف الأجنبية.. لا احتكـارات.. لا شرور أو تـوابيت أو جنائز ترافق وقـع أقدامه… لا أضرحة في مكان إقامته.. لا شواهد ولا تشوّهات.
هو ليس حركات معلنة للغة ميتة.. ليس جنوناً قتيلاً ليس غمضة عين، بل تسعون عاماً فيها ما يزيد عن خمسة وستين عاماً منذ الثورة الأولى على النظام الذي جعل بلاده منتزهاً… مصيفاً… كازينو… مكاناً لاستراحة رأسمال، وحيث كان النظام مجرد حارس لتلك السهرة بواب عمارة الزبائن والناس كان النظام خدماً وحشماً فيشة على طاولة البوكر، البلاك جاك.. الروليت .
هم خسروا…
هو ربح…
– 2 –
فشلت 600 ستمـاية محاولة انقلاب عليه… وفشل المرض في هزيمته.. رآه شافيز بأم عينيه يجول في شوارع هافانا… أنا لم أكن ولكني رأيته كان خلفه يمشي طبيبه من أصل لبناني وهو يحمل على وسطه جرابه الممتلئ بمسدسه البكر
هو ابتسم… ضحك… سألني عنكم… أنا جئت لأخذ إليه الجواب ربما وجدته حين عودتي… ربما وجدني… ربما
هو تمرّد وسجن وثار وحكم وتنازل عن السلطة وتأمل ويستمرّ كمتحف حيّ فيما تتساقط في القارات الخمس مختلف أنماط السلطات في العالم.
ربّما المسألة التي أبقت فيدل كاسترو حياً هي وجدانه العالي الأديب الذي تستيقظ في داخله لغة الصباحات… المساءات… الطبيعة… الأشخاص والشهداء والأحباء الذين يقيمون فيه.
ربما هم الأصدقاء أرنستو تشي غيفارا، بول غرسيا ماركيز… ربما هو الشيخ في بحر… محيط روايات فيكتور هيجو… الماء… الماء في كلّ مكان.
لا تبعد الامبريالية الأميركية عن جزيرته كوبا سوى تسعين ميلاً بحرياً… وهي الإدارة الأميركية لم تعدم وسيلة في محاولتها لإزالته منذ العام 1961.
وكان مدهشاً بالاستمرار حياً ويلتمع كنجم يعبّر عن الضوء المتألق في ليالي الحرب القارسة منذ منتصف السبعينات حتى ما بعد مطلع الألفية الثالثة. وهو بعكس الحاكمين الذين جلسوا على صدورنا أربعة عقود ولا زالوا لم يغادروا.. أشباحهم تقطن… تستوطن.. تحتلّ الأقوال والأفعال.
عندنا غيّر كوبا التي يقطنها الغرناطيون – عندنا – الشعوب تريد إسقاط النظام! تريد.. لا تريد إقامة النظام.. عندهم في كوبا هو تمرّد.. سجن.. ثار.. انتصر.. حكم.. رمى السلطة كطفل من خلفه.. تأمّل.. لا زال حياً.
– 3 –
من حوله لم تنهَرْ سلطة، فحسب بل انهارت نظم ومعسكرات وتحالفات وهو أسقط أعتى حصار اقتصادي ونام ملو العين ، مطمئناً الى رفاقه الذين هزموا إنزال خليج الخنازير الى أنهم يحرسون كوبا منذ 42 عاماً عندما انتصرت الثورة وحكم الى أن تنازل طوعاً عن الحكم.
هو… أسطورة لم يعتد على مثلها التاريخ.
فيدل كاسترو الرمز التسعيني قرأ مئات.. آلاف.. الكتب والمجلات وربما التقارير.. لمَ لا؟
هو ارتجل خطباً» لساعات وكتب.. وكتب.. ربما سنجد من آثاره مخطوطات.. كتب.. مفردات.
هو يعرف عن الولايات المتحدة الأميركية أكثر مما يعرف كفّ يده. يعرف تطوّرات أسعار السلع.. اللوازم الكهربائية المنزلية.. دخل الفرد في فرنسا.. أسعار المنازل في لندن. كيف أسقط الخبز والجينز والحلم النظام الاشتراكي.
لمرة واحدة قابلته، رأيته ثلاث مرات.. مرة وهو يلقي أقصر كلمة له في العيد الأربعين للثورة الكوبية، ثم في حفل الاستقبال، حيث طلب منا انتظار اقترابه ولا زلنا ننتظر! استغرق ساعة ساعتين.. ثلاثاً» ليقطع بضعة أمتار.. كانت الناس من كل الجنسيات تتحدّث إليه تفشّ خلقها ثم في اليوم التالي زار هو ضيفه دولة الرئيس بري في مقر الإقامة.. حبست أنفاسي.. تحدّث إلينا عن كوبا.. سأل عن لبنان عن جنوبه.. عن الناس في المنطقة التي تحتلها «إسرائيل»، مصادر رزقهم.. كمية الأمطار التي تهطل سنوياً وشوشني: والتين؟ هل تصدّرون التين؟ .
اليوم.. بالأمس.. استمر كاسترو حياً» يعكس ما توقع هو أنه ربما لن يكون كذلك عندما يجدّد الرئيس أوباما لولاية ثانية، ولكنه عاش ورأى أوباما يأتي إلى كوبا يمدّ لها يده مصافحاً». ونحن عشنا ورأينا .
– 4 –
عاش كاسترو.. وقع كتاب مذكراته فيه محطات طفولته.. شبابه.. ثورته.. قيادته.. سلطته.. تأملاته.
هو مثلنا لا يفرقه عن الشرقيين شيء.. أحب.. تزوّج.. طلّق.. تزوّج.. أنجب.
في حياته.. حياتنا: كوبا لا تزال مكانها رغم كلّ شيء. هم أتوا اليها.. بصموا بأصابعهم العشرة أنهم أخطأوا المكان.. الزمان.. الوقت في حروبهم ضدّها.
ونحن.. أنا.. كلّ شرقي.. يا رفيق فيدل في عيدك التسعين نتطلّع إلى اليوم.. غداً بفرح، فلا زال في سمائنا مجد نجم يلتمع رغم هذا الليل الدامس وموتنا الصامت الفاقع في الشرق… لو أننا جزيرة مثل كوبا… لو أننا.