متى يُحاكم بوش وبلير وتشيني لجريمة غزوهم العراق بذرائع ملفقة؟
ميشيل حنا الحاج
لا أعلم لماذا لم يقدّم جورج بوش الابن وتوني بلير ومساعدي بوش للمحاكمة حتى الآن، على جريمة الحرب التي ارتكبوها بغزوهم العراق من دون مبرر، وأيضاً، على جرائمهم ضد الانسانية نتيجة عمليات التعذيب التي عانى البعض منها، إضافة لاستخدام أسلحة محظورة تسببت بكوارث وآثار غير صحية للبعض الآخر. والأهم من ذلك، قيام جورج بوش الابن، بتصوير حربه تلك، على أنها حرب بدعوة الهية خاطبته من السماء، والهمته بوجوب غزو العراق لمحاربة الشياطين والجن من يأجوج ومأجوج الذين تجمعوا في بابل، كخطوة أولى تهدف لمحاربة «اسرائيل ومن ثم العالم المسيحي. وهي الأفكار والطروحات التي سخر منها الكثير من سياسيي العالم، خصوصا الرئيس الفرنسي جاك شيراك، الذي تعجب من رئيس دولة كبرى، يتبنى أفكارا غريبة كهذه.
حاول الرئيس بوش أن يقدّم الحرب بأنها ضرورية ولا مفر منها، لكون العراق يمتلك أسلحة كيماوية، وأسلحة دمار شامل، إضافة الى وجود علاقات له بتنظيم «القاعدة . وكلها كانت اتهامات ثبت لاحقا عدم صحتها، بعد قيام الأميركيين بعد الاحتلال، بـ 700 جولة تفتيشية شملت أكثر من 500 موقع افترضت التقارير الكاذبة وجود أسلحة الدمار الشامل فيها. كما لم توجد أدلة اطلاقا على أي علاقة له، ولو هشة، بتنظيم «القاعدة أو بأي تنظيم ارهابي آخر.
الأسباب الأخرى لمحاكمتهم
ثلاثة أسباب تستدعي اعادة التذكير بغزو العراق، وتفرض وجوب محاكمة المسؤولين عنها، أحدثها ذاك التفجير الوحشي الذي وقع في الثالث من تموز يوليو 2016 في ضاحية الكرادة، وذهب بأرواح أكثر من 300 قتيل معترف بهم رسميا، مع احتمال وجود آخرين لم يكشف بعد عن وفاتهم، يعتبرون الى الآن في عداد المفقودين.
هذه العملية الوحشية الكبرى وغير المسبوقة في حجمها ونوعية السلاح المستخدم فيها، الذي تمت نسبته الى عائلة أسلحة الدمار الشامل، نفذتها «الدولة الاسلامية التي أسست وأعلن عن تشكيلها عام 2006 تحت بصر وسمع قوات الاحتلال. فهي إذاً واحدة من آثار ونتائج ذاك الاحتلال الغاشم غير المبرر.
وثانيها، الكشف حديثا عن تقرير السير جون شيلكوت الذي تلازم، أو صدر، في وقت متقارب مع عملية التفجير تلك، وكشف بأن الغزو لم يراع مقتضيات القانون الدولي، اذ أنه لم يتم استنادا لقرار من مجلس الأمن الدولي، ولم يستوف منفذوه الجهد الكافي قبل المباشرة به، للاستقصاء عن مدى صحة مضمون التقارير الاستخبارية التي اتهمت العراق بحيازة أسلحة دمار شامل، وهي الاتهامات التي ثبت لاحقا عدم صحتها كما سبق وذكرت.
وثالث تلك الأسباب، صدور مذكرات الرئيس جورج دبليو بوش مؤخرا، التي اعترف فيها، بما سبق أن اعترف به قبله توني بلير، وهو كونه ارتكب خطأ في غزوه العراق. لكن الرئيس بوش الابن، كان أكثر وضوحا من توني بلير، اذ أنه اضاف الى وصف الخطأ، بأنه كان خطأ فادحاً.
بعض القوانين في العالم قد تعفي من المسؤولية من يرتكب خطأ بسيطاً أو عفويا، أو تقضي عليه بعقوبة مخففة، الا أنها … أي المحاكم في العالم، لا تستطيع أن تغضّ الطرف عن الخطأ الفادح، خصوصاً أن تقرير السير جون شيلكوت، أكد عدم الاستناد للمشروعية الدولية، وعدم اجراء الاستقصاء الضروري الكافي، إضافة الى ثبوت عدم صحة التقارير الاستخبارية، بل وترجيح البعض كونها تقارير ملفقة. فهذه كلها وغيرها، تعزّز القول بوقوع لا مجرد خطىء عادي، بل خطىء فادح، علما أن الخطأ الفادح لا يستدعي العقاب فحسب، بل يستوجب العقاب الشديد، خصوصا اذا تسبب بضرر كبير للآخرين. وهل هناك ضرر أبلغ من الضرر الذي لحق بالعراقيين نتيجة عملية الغزو تلك، وذهب ضحيته نصف مليون انسان، في أحد التقارير، ومليون انسان في تقرير آخر.
ويورد رقم النصف مليون ضحية، تقرير أعده باحثون من جامعات أميركية عدّة، منها جامعة واشنطن وجامعتي جون هوبكنز وسيمون فريزر، بمشاركة جامعة المستنصرية العراقية ومركزها بغداد. وشمل العدد المذكور، ليس فقط من ماتوا نتيجة القتال والعمليات العسكرية، سواء خلال الشروع بالغزو أو خلال ملاحقة من قاوم الغزو الذي استمر ثماني سنوات، بل شمل أيضا حالات الوفيات نتيجة ظروف الغزو والاضطراب، كمن قضوا بالسكتة القلبية بسبب تعثر امكانية وصولهم الى المستشفى نظرا لحالتي القتال أو الاضطراب. ومثلهم حالة بعض الحوامل اللواتي جاءهن مخاض الولادة، في ظروف أمنية منعتهم من الوصول الى المستوصف، او الموقع الصحي، الذي يتعامل مع حالات كهذه.
لكن مجلة «لانس الطبية ذكرت بأن حصاد الحرب وماتبعها، بلغ مليون قتيل وليس نصف مليون . وهناك العديد من العراقيين الذين شهدوا الحرب وما بعدها، وأنا أعرف بعضهم جيدا، وأرجح مصداقيتهم، قدروا عدد ضحايا الحرب وما تبعها من اضطراب، بما تجاوز المليون ضحية. وفي تقرير نشرته في نهايات عام 2013 وكالة الصحافة الفرنسية، واعده كيري شاريدان Kerry Sheridan … ورد اقتباس من أقوال للدكتور سلمان رواف، مدير منظمة الصحة العالمية والمتعاون مع Imperial College بلندن، يشكك في صحة الارقام التي وردت في التقرير الصادر عن الجامعات الأربع سابقة الذكر، التي بدت له متدنية، مرجحا أن يكون وراء تدنيها دوافع سياسية. مؤكدا بأنها مخالفة لأرقام أخرى أمامه.
لماذا لم يُحاكم بوش الابن ومشاركوه أمام محكمة دولية؟
أثير هذا الموضوع من قبل مرارا، وجرت فعلا بعض المحاولات لتحقيق ذلك، لكنها غالباً ما تعثرت وتبعثرت في الطريق، رغم أنها تركت مخاوف لدى الرئيس السابق جورج دبليو بوش، بأن بعض الشكاوى التي رفعت ضده أمام المحاكم الدولية، من قبل جماعات حقوق الانسان وغيرها من المنظمات الانسانية غير الحكومية، ربما تدفع بعضها منظمة «الانتربول لاصدار مذكرة توقيف دولية بحقه، مما جعله يتجنب مؤخرا السفر الى خارج الولايات المتحدة خوفا من مواجهة حرج الاعتقال، مدركا أن بقاءه داخل الولايات المتحدة فيه ضمانه بأن شيئا كهذا لن يتحقق في داخل بلاده، التي ظلت منظماتها عاجزة عن تقديمه لمحكمة ما.. بأي درجة أو صفة كانت.
بوش سجيناً في أراضي بلاده الواسعة
وفي مقال كتبه فرانسيس بويل Francis Boyle ونشر في 30 أيار- مايو 2013 على صفحات «جلوبال ريسرتش Global Research ، ذكر الكاتب أن الرئيس السابق جورج دبليو بوش أضطر في 11 شباط -فبراير 2011، الى الغاء رحلة مقررة الى سويسرا، تطلبت منه ظهورا علنياً في جنيف في مناسبة ما، وذلك لعلمه بأنه بات شخصا متهماً وملاحقاً، بعد أن أقيمت ضده بعض الدعاوى أمام محكمة الجنايات الدولية في لاهاي. وبذا لم تكن لديه شجاعة الفريق عمر البشير، رئيس السودان، الذي تجول بطائرته الخاصة في أفريقيا والشرق الأوسط، طولا وعرضا، من دون أن يخشى الاعتقال، رغم وجود مذكرات اعتقال فعلية بحقه أصدرتها دوائر «الانتربول ، بناء على طلب من محكمة الجنايات الدولية في لاهاي، إثر دعاوى أقيمت ضده.
إحدى القضايا التي رفعت فعلاً ضد الرئيس بوش الابن، ونائبه ديك تشيني، ورامسفيلد وزير دفاعه وآخرين من مساعديهم، كانت قضية أقيمت عام 2015 أمام محكمة ماليزية في كوالا لامبور. وقد رفعها بعض المتضررين الذين عانوا من التعذيب المبرح على يد المحققين الأميركيين. ويقول الكاتب تشارلس بيرس charles Pierce في مقال له نشر في موقع اسكواير Esquire في الأول من حزيران 2015 ، أن قرارات المحكمة الماليزية التي أجرت المحاكمة في غياب المدعى عليهم، وقررت في نهايتها بكامل أعضائها الخمسة، وبعد جلسات استماع استمرت أسبوعاً كاملا، ادانة كل المتهمين…هذه القرارات الصادرة عن تلك المحكمة، سوف ترسل الى رئيس المدعين العامين في محكمة الجرائم الدولية في لاهاي، كما سترسل الى الأمم المتحدة.
وهناك منظمات ألمانية معنية بحقوق الانسان، وأخرى معنية بحماية الحقوق الدستورية وحقوق الانسان، تدرس منذ عام 2015، امكانية اقامة دعوى كهذه على بوش الابن ووزرائه ومساعديه، ولكن لأسباب أخرى غير قضية غزو العراق، وتتعلق باختطاف وتعذيب مواطن ألماني على يد رجال «سي آي ايه في عام 2004، بذريعة الاشتباه بكونه منتمياً لتنظيم «القاعدة التي تقاتلها أميركا في حرب أخرى في أفغانستان. ويتابع هذا الأمر وولف جالنج كاليك Wolfgang Kaleck الأمين العام للمنظمة المذكورة. وربما كانت هناك قضايا أخرى رفعت أو يجري الاعداد لرفعها أمام محاكم دولية ضد الرئيس بوش وأعوانه. وهناك احتمالات بأن تقوم أسر بعض ضحايا الحرب من الجنود البريطانيين وعددهم 189، باقامة دعاوى قضائية على توني بلير مطالبة اياه بتعويض أسر ضحايا تلك الحرب.
كل ما في الأمر، أن معظم تلك القضايا التي اقيمت حتى الآن، أو ستقام، تتعلق بحالات التعذيب التي مارسها الغزاة سواء على الشعب العراقي أو على مواطنين من أفغانستان، أو آخرين اتهموا ربما زورا وبهتانا، بالمشاركة في تفجيرات الحادي عشر من أيلول 2001 ، التي تسببت بتفجيرات البرجين في نيويورك والبنتاغون في واشنطن. فلم يرد بعد الى السمع حتى الآن، قضايا رفعت أمام محاكم دولية أو غيرها كالمحاكم الأميركية مثلا، تطالب بمعاقبة جورج بوش الابن ورفاقه، على غزو العراق إستنادا الى إدعاءات ثبت لاحقا عدم صحتها، بل والأرجح تلفيقها، مما يجعل الجريمة المذكورة أكثر ضرراً، وتعكس سبق التصميم والاصرار بالنسبة للنوايا الجرمية.
الجرائم الأخرى غير جريمة الغزو
لم يقتصر عدد الضحايا إذاً على من سقطوا خلال عملية الغزو، فهناك ضحايا سقطوا أيضاً تحت عمليات التعذيب المريعة التي مورست من قبل الأميركيين في سجن أبو غريب، القريب من بغداد وتلك التي مارسها البريطانيون في سجن أقاموه في البصرة. ويورد الباحث جاسم محمد في دراسة له نشرت في صحيفة «الراية» قبل عامين، تفاصيل عن بعض عمليات التعذيب التي جرت في سجن البصره الذي كان تحت اشراف الجيش البريطاني. واستقى جاسم محمد الكثير من المعلومات الواردة في دراسته، من تقرير نشرته صحيفة»زود دويتش» الألمانية كانت قد أجرته بالتعاون مع قناة NDR الألمانية، وتضمّن دراسة مستفيضة عن عمليات التعذيب البريطانية في سجن البصرة. وعندما اطلع مانفرد نوفاك، المقرر السابق للأمم المتحدة المختص بدراسة قضايا التعذيب، على ذاك التقرير، أضاف إليه أدلة ووثائق هامة. وقد رفع عدد من المحامين دعوى ضد القوات البريطانية أمام محكمة الجزاء الدولية في العاصمة الهولندية لاهاي. وتضمّن التقرير شهادات قدّمها المعتقلون. وقالت الصحيفة الألمانية زود دويتش : إنه إذا ما صحّت أقوالهم، سيحل العار على بريطانيا.
فرئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، الذي شاركت قواته بخمسين ألف جندي في غزو العراق عام 2003، المشاركون الآخرون بالحرب كانوا: استراليا الفي جندي وبولندا 179 جنديا ، رغم اعترافه بأنه قد إرتكب خطأ في خطوته تلك، إلا أنه لم يقدم اعتذارا عمّا حدث، كما لم يشر الى حجم الخطأ الذي ارتكبه، علماً أن الاعتذار اذا صدر، ما كان سيعفيه من المسؤولية القانونية والجنائية. وعلماً أن 179 جنديا بريطانيا قتلوا، وثلاثين ألف جندي بريطاني من أصل الخمسين ألف جندي الذين شاركوا في تلك الحرب، ما زالوا يترددون، كما يقول أحدالتقارير، على أطباء نفسيين وغيرهم من الدوائر الطبية، بسبب ما عانوه من آثار تلك الحرب البغيضة، خصوصا بعض العمليات الوحشية التي مورست ضد العراقيين ومنها عمليات التعذيب التي لا تحصى. وهل بيننا من هو قادر على أن ينسى صورة المجندة الأميركية، التي ذاع انتشارها، وهي تجر وراءها في سجن أبو غريب، جندياً عراقيا وقد ربطته من رقبته، كما يربط الكلب ليجر وراء صاحبه؟
التمييز بين جرائم الحرب والجرائم المقترفة ضد الإنسانية
عرف التاريخ الحديث، خصوصا في القرن الماضي، محكمة جرائم الحرب الأولى في عام 1921، بعد سنوات على انقضاء الحرب العالمية الأولى. وقدعقدت جلسات تلك المحكمة في مدينة لايبزغ الألمانية، لكنها لم تحظ بالشهرة التي حصلت عليها المحاكمات التي أجريت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، والتي عقدت في نورمبرج اعتبارا من 20 تشرين الثاني – نوفمبر 1945 ، واستمرت عاما كاملا. وكان أبرز المتهمين فيها الذي واجه القضاء الدولي اثر انتهاء الحرب، هو هيرمان غورنغ، أعلى المسؤولين النازيين موقعا بعد وفاة هتلر.
وفي بداية محاكمات نورمبرج الشهيرة، لم يكن هناك تمييز بين جرائم الحرب والجرئم ضد الانسانية. اذ كان يتم الخلط بينهما. وغالبا ما يجتمعا في بند واحد وفي قائمة واحدة وكأن لا فرق بين هذا وذاك. فالجرائم ضد الانسانية، كانت ترى حينذاك باعتبارها من نتائج الحرب، وهي كما كان يراها القانون الدولي حينه، جزءا من جرائم الحرب. ولكن تدريجيا، أخذ القضاء وفقهاء القانون الدولي، يلاحظون الفارق بين ألأمرين، وأخذوا يميزون بينهما في محاكمات لاحقة. وباتت أهمية التمييز بين الأمرين، أن الجرائم ضد الانسانية يمكن ارتكابها حتى من دون وقوع حروب، أي خلال مراحل السلم. فهي تشمل الإبادة الجماعية، التمييز العنصري والعرقي والديني بما فيها التمييز الطائفي ، والتعامل مع الانسان بأساليب تتنافى مع حقوق الانسان ومبادىء عالمية أخرى كثيرة. ولذا، يمكن أن تشمل عمليات التعذيب الجسدي أوالنفسي أو كلاهما معا. وكانت أكثر الدول حماسا لايجاد التمييز بين هذه الجريمة وتلك، ههي دول العالم الثالث كالهند وكوبا ومصر وبنما والصين. وقد اتخذ قرار في نهاية الأمر في الجمعية العامة للأمم المتحدة اطلق عليه القرار 96 /1 ، اصبحت بعده الجرائم المقترفة ضد الانسانية، جرائم مصنفة وخاضعة لقانون دولي.
سوابق محاكمات دولية لمجرمي حرب
ومن أبرزمن واجه محكمة الجنايات الدولية في العصر الحديث، الزعيمان اليوغوسلافيان الصربيان : Patko Mladic ، الذي نقل من صربيا الى لاهاي ليواجه محكمة الجنايات الدولية، رغم كونه أصيب بنوبتين قلبيتين، وكذلك Radovan Karadzic ذو السبعين عاما، الذي أصدرت عليه محكة لاهاي قراراً بالسجن أربعين عاما.
وتورد «الويكيبيديا» قائمة طويلة تتضمن أسماء قيادات سياسية وعسكرية من دول عدة في العالم، إما أنهم حوكموا أمام محاكم دولية، أو هم مطلوبون لهذه المحكمة، لمواجهة تهم تتفاوت بين جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية، أو جريمة احتقار المحكمة الدولية. ويبلغ عدد هؤلاء 32 متهماً أو مطلوباً، ورد بينهم اسم الفريق عمر البشير رئيس السودان، واسم معمر القذافي، واسم Uhuru Kenyatta، رئيس جمهورية كينيا، وأسماء أخرى عديدة، بعضها حوكم، والبعض ينتظر. وآخر حكم قضائي صدر بحق رئيس دولة سابق، هو ذاك الحكم الذي صدر بالسجن المؤبد على حسين حبري الرئيس السابق لجمهورية تشاد، علما أن الحكم صدر قبل أسابيع فقط عن محكمة الجنايات الدولية الأفريقية، حيث قررت أفريقيا ضرورة أن يكون لديها محكمتها الدولية الافريقية الخاصة، لتحاكم الرؤساء والسياسيين الأفريقيين المتهمين، أو المشتبه بهم، بارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الانسانية.
كل ما في الأمر، أن القائمة المذكورة تضمنت أسماء من دول مختلفة، منها دول أفريقية وأخرى من دول أميركا اللاتينية، لكنها لم تورد أسماء متهمين من بريطانيا أو الولايات المتحدة. فكأني بهؤلاء لديهم عصمة عن مواجهة المحاكم الدولية لتفسير ما رتكبوه من جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية. ولعلّ أبرز من كان يفترض بهم أن يواجهوا تلك المحكمة، كان جورج بوش الابن، نائبه ديك تشيني ووزير دفاعه رامسفيلد، اضافة، بطبيعة الحال، لتوني بلير رئيس وزراء بريطانيا. لكن بما أن بوش الابن، وربما معاونيه أيضا، باتوا يتجنبون السفر الى خارج البلاد جورج دبليو بوش على الأقل ، فإن المفترض أن تقدم بعض الهيئات الأميركية على المطالبة بمحاكمتهم داخل الولايات المتحدة وداخل بريطانيا.
لكن الولايات المتحدة عوضا عن محاكمة بوش الابن على ما ارتكبه من جرائم بحق العراق في عام 2003، قامت باعادة إنتخابة في عام 2004 لدورة رئاسية ثانية، فكأني بها كانت تكافئه على ما ارتكب من جرائم شملت الاقتصاد الأميركي، ألذي شهد ضربة قوية وعانى من خسائر وتراجعات كبرى نتيجة تهور جورج بوش الابن.
والولايات المتحدة التي تقدم الدفع الكبير لوجوب محاكمة رؤساء دول أخرى، لم تقمّ قطّ عبر تاريخها، منذ استقلالها في القرن الثامن عشر، بتوجيه اتهامات لرؤسائها تنتهي بتقديمهم للمحاكمة. وكانت الحالة الوحيدة التي كادت تؤدي لإتهام رئيس أميركي، جرت في ستينيات القرن الثامن عشر، عندما شرع الكونغرس ومجلس الشيوخ، في اجراءات توجيه الاتهام للرئيس Andrew Johnson ، الرئيس السابع عشر للولايات المتحدة 1865-1869 ، بتهم كان من بينها الفساد. لكن توجيه الاتهام Impeachment سقط لعدم حصوله على ثلثي الأصوات التي يقتضيها الدستور، لتوجيه اتهام كهذا لرئيس جمهورية أميركي.
ومن أبرز المحاولات في العصر الحديث، وبالذات في القرن العشرين، لتوجيه الاتهام لرئيس جمهورية أميركي، تلك التي جرت في عام 1974، عندما بدأ مجلسا الكونغرس والشيوخ، مساع لتوجيه اتهام للرئيس ريتشارد نيكسون بسبب تجسسه هاتفيا على خصومه السياسيين، فيما عرف بفضيحة «ووترغيت». لكن الرئيس نيكسون، تجنباً لمواجة تلك التهمة، قام بتقديم استقالته في عام 1974، وبالتالي لم يستطع إكمال دورته الرئاسية الثانية، التي كان انتخب لها في العام السابق. وكذلك أيضا، شروع الحزب الجمهوري، خصوصا قادته من المحافظين الجدد، بابتزار الرئيس بيل كلينتون، مهددين إياه بتوجيه الإتهام له على ضوء فضيحته الأخلاقية مع الشابة مونيكا لوينسكي، التي عملت في البيت الأبيض، ما لم يوقّع على قرار يدعو للحرب على العراق، والذي كانوا يطالبونه باصداره منذ العام الأول لتوليه رئاسة الولايات المتحدة. وكان الرئيس كلينتون يرفض الاستجابة لمطالبهم، إلى أن وجد نفسه يواجه تهديدا بالـ Impeachment على أساس إثارة فضيحته مع لوينسكي اذا لم يستجب لمطالبهم، فاستجاب لهم صاغرا.
وهكذا نلاحظ أن الولايات المتحدة واجهت عبر تاريخها احتمالات تقديم بعض رؤسائها لمحكمة أميركية عليا، مرّة بتهمة الفساد، ومرّة بتهمة عدم إحترام حرية الآخرين والتجسس عليهم، ومرّة ثالثة بتهمة أخلاقية. ومع ذلك، لم تجد حتى الآن المبرر الكافي لتوجيه إتهام لرئيس لم يرتكب فساداً، أوجريمة التجسس على الآخرين، أو مخالفة لأخلاق المجتمع الأميركي، بل إرتكب جريمة أبشع كثيراً، وهي إغتيال مئات الآلاف من الشعب العراقي، إضافة إلى جرائمه ضد الانسانية، عندما أباح إستخدام وسائل التعذيب البشعة، كما أباح إستخدام أسلحة محظورة كسلاح اليورانيوم المنضب، مما تسبب بعاهات دائمة للعديد من العراقيين، إضافة الى إغضائه الطرف عن تشكيل «الدولة الاسلامية» داعش باسم دولة العراق، ومن ثم «دولة العراق الاسلامية»، تحت سمع وبصر جنوده وقوات احتلاله، وهو التنظيم الذي يواصل الى الآن إلحاق الضرر بالشعب العراقي، وبالشعب السوري، بل وبكل شعوب العالم العربي، لا بل وبشعوب العالم كله.
فهل هناك عدالة بعد هذه العدالة؟
وهل هناك حضارة بعد هذه الحضارة؟
مستشار في المركز الأوروبي العربي
لمكافحة الارهاب – برلين.
عضو في مركز الحوار العربي الأميركي – واشنطن.