عشق الصباح
هنا تنحني السماء قليلاً فيتشكّل حول الشمس غيم مسكون بالمطر. ليهطل الندى في الصباحات على ريحان أضرحة الشهداء، ويقبّل الضوء قمم السنديان فيعبق البخور. يا للذكريات، وهذي دمشق، وهذه الكأس والراح. فراقك مرّ يا قبلة الأمكنة والعاشقين، مدينة غارقة بعطر الياسمين، كرسيّان وطاولة عتيقة، ومقهى قديم ونرجيلة وقهوة وأوراق وصحف ووجوه ساعية إلى الحياة. كأنها تُسلّم عليك مع كلّ صباح.
هنا، لا يشعر أيّ زائر بالغربة، كلّما أوجعتني الأيام ونزفت روحي محزونة، أتشوقك فتستعيدني الذاكرة. كلّ الأمكنة بعيدة عنك، خريف وامرأة كالنعناع البرّي تمنحني الدفء في ليل الحكايات. غفا الشوق في عينيها، أشعل ندائي المسكون بلهفة البوح، مع كلّ شمس يتوهّج أو يتجلّى الضوء أو العطر كلاكما عشقي.
كن قمراً أو شمساً، هذه السماء تُغطّي تراب وطني كلّه. «أشيلك جوّا جفن العين يا وطن حيث لا أحد إلاك». العشق أيضاً يحتاج إلى صبر أيوب… يا صبر أيوب. الشام تتوكّأ على كتف قاسيون العرين، مع كل شروق وغروب تغسل وجهها بعطر الياسمين طهراً يا للنقاء. تنفتح الشرفات لفيروز وموسيقى الروح، تنفتح للشمس للحياة. في الشام قمران، قمر يجول في السماء، وقمر على قاسيون. فضاءات ممتلئة بالعطر. نساء الشام، لهوفات كهطل الندى على شرفات الياسمين، ثمة ما هو غامض في جمالهن. لا يُدركه سوى العارفين سرّ الحبّ وفلسفة الحياة وقراءة تاريخ المدن المتجذّرة بالأرض. تشرق الشمس على وجهها البهيّ كي تستعيد ألقها الزماني، أذكر، يا للذكريات، كنت أمشي في الأزقة الضيقة في حارات الشام العتيقة، أنتظر إحداهنّ أن تطلّ من خلال النافذة الخشبية المعشّقة بالزجاج الملوّن، والمنفتحة على شرفة من العناقيد الحانية والياسمين والوردة الشامية. فتمنحني بعداً جمالياً للكتابة. يا للانتظارات! هل يرتقي إليك البوح والإبداع وتبقى الأسئلة في محراب الشوق حائرة؟ كنت أمشي وحيداً في أيام الشتاء حيث يبلّلني المطر. يا للأحلام الشغوفة بتفاصيل الحارات القديمة! مهما كانت الأمكنة جميلة يا دمشق العرين، أنتِ الأجمل يا سرّ التاريخ والحضارة والإنسان. هنا أتوكّأ على كتف بحر الأبجدية متشوّقاً، واثقاً بأن الفجر آتٍ… مهما طال ليل العتم. فكلّ جهات العشق تأخذني إليك.
حسن ابراهيم الناصر