«الكاولية» في العراق هم الأصل… إبادة واضطهاد وعالم لا يَرى!
كتبت هدية حسين
كأنّ القدر أبى إلاّ أن يكونوا مرتحلين وهائمين في جهات الأرض. الترحال سمتهم، والنظرة الدونية من نصيبهم في كل مجتمع يحطّون فيه. لا يُعرف بالتحديد من أين جاءوا، ثمة فرضيات كثيرة. كأنهم نبتوا في اللامكان، وعاشوا في الزمان واللازمان، يصنعون الفرح أينما حلّوا، لكن نصيبهم منه قليل. لم يندمجوا في المجتمعات التي ارتحلوا إليها، لكنهم تكيّفوا، وإذا كان ثمة شعب أسيء فهمه وظلم على هذه الأرض فهو شعب الغجر. تعرضوا عبر مراحل التاريخ لإبادات منظمة لم يسمع بها العالم، أو سمع ولم يصغِ لاستغاثات من بقي منهم على قيد الحياة القلقة، كأنهم والريح صنوان لا يفترقان، تأخذهم حيثما هبّت وارتحلت وحطّت، وتعود بهم متى شاءت وكيفما رغبت. الدراسات عنهم قليلة، وإن وصلت الى أصحاب القرار لشرح معاناتهم فإنها لا تجد آذاناً صاغية رغم صرخات أصحاب الضمير الإنساني من هنا وهناك وفي أوقات متباعدة.
من البحوث المهمة، الوافية، والدقيقة، ما قدمه الدكتور حميد الهاشمي في كتابه «تكيّف الغجر»، دراسة أنثربولوجية اجتماعية لجماعات الغجر، أو ما يسمون بالكاولية في العراق. صدر الكتاب لدى دار «المدى»، بعشرة فصول، ويضم كل فصل عدداً من المواضيع، بدءاً بالتعريف بالغجر، مروراً بتسمياتهم في العالم وفرضيات أصولهم وعاداتهم ووشائج القرابة بينهم وقبول المجتمع أو رفضه لهم، والخصائص المشتركة للغجر في العالم، وتجارة الجنس، وأمور كثيرة تتعلق بحياتهم أينما وجدوا، وأخيراً وليس آخراً ما حلّ بهم في العراق تحديداً بعد عام 2003 من قتل وتشريد وسلب حقوق. والبحث عميق وشامل وميداني وحياديّ، معزز بالبيانات والأرقام والشهادات، وفيه جهد كبير، خاصة إذا علمنا أن مواضيع كهذه تعصي أي باحث يروم الدقة في المعلومات ويتتبع المصادر العراقية والعربية والعالمية لتقصّي الحقائق، واستخراجها من زخم الحوادث وفوضاها ومحاولات طمسها. وصعوبة البحث عن الحقائق منبعها الإهمال المتعمد في المجتمعات التي لجأوا إليها، والنظرة الدونية لهم، ما جعلهم فئة منعزلة تحاول أن تتلوّن بأكثر من لون لتظل لغزاً يعصي الحل و»سراً مغلقاً لا ينفذ إليه أحد».
بعد أن يستعرض الباحث حياة الغجر في العالم يركز على الغجر الكاولية في العراق، ويأخذنا في جولة ميدانية لندخل معه صلب حياتهم وعاداتهم ومعتقداتهم ومهنهم ونظرتهم الى الدين والطقوس المتعلقة به ومدى التزامهم بأركانه من عدمه، ومكانة المرأة في المجتمع الغجري.
نتتبع في هذا الكتاب ارتحالات الغجر بدءاً من رحلتهم الأولى من الهند فرضية موطنهم الأول الأكثر ترجيحاً بين الفرضيات ، ثم تشردهم وتكيفهم في كل مجتمع يدخلونه، وتكيّفهم لا اندماجهم. يقول الدكتور حميد الهاشمي للتمييز بين التكيف والاندماج: «التكيف الاجتماعي هو غير الاندماج الاجتماعي الذي يقتضي التخلي عن الكثير من العادات والممارسات القيمية من أقلية ما لمصلحة الأغلبية. في مقابل ذلك تحصل هذه الأقلية على المزيد من الفرص والامتيازات لمصلحة أفرادها الذين يشاركون المجتمع الأكبر ويتواصلون معه. أما التكيف فيكاد يكون ظاهرياً ومصطنعاً من أفراد أو جماعات، لتجنّب ردود الفعل التي تواجههم من جراء ممارساتهم الثقافية المتقاطعة مع ثقافة المجتمع الأوسع أو ثقافة الأغلبية».
هكذا نبدأ الرحلة التي لا تنتهي. رحلة الغجر من المكان الأول حتى التشظي في المجتمعات التي وصلوا إليها. البحث الميداني الذي يقوم به الدكتور حميد الهاشمي، يضعنا في صميم المشكلة المستعصية على الحل عبر عقود وعقود. يكتب عن هذه المجموعة بصدقية نادرة، ما لها وما عليها، ويقدم مقترحات للحل، لعلها تصل يوماً الى الضمير الإنساني وتنصف هؤلاء الذين ضلوا الطريق وارتزقوا على مِهن تحط من قيمة البشر ولم يتأهلوا لحياة طبيعية ونظيفة، بفعل السياسات السلبية التي لم تؤهلهم لمِهن تعيد لهم كرامتهم المهدورة.
يستعرض الدكتور حميد الهاشمي تسمياتهم في العالم، يتتبعها من موطنهم الأصلي، ثم يخصص المساحة الأوسع لتسميتهم بالكاولية في العراق. يمر على الآراء، يناقشها ويحاجج أصحابها. ما طرحه العلامة مصطفى جواد والأب أنستاس الكرملي وشاكر الضابط، وخليل الشيخ، وما جاء في القاموس الفارسي، مُقرّباً هذا الرأي ومُبعداً ذاك مع ذكر الأسباب. ثم يطرح الباحث فرضيته في التسمية وفي أصل الغجر، إذ انتسبوا الى الملك «كاول» تشرفاً وتعظيماً لأنفسهم. ويستشهد الباحث بما كتبه وول ديورانت في قصة الحضارة ونلخصها هنا «بأن الزنا في الأعم الأغلب كان مقصوراً على المعابد، وكانت رغبات الرجل الشهواني تشبعها من يطلق عليهن خادمات الله طائعات في ذلك أوامر السماء، وفي كل معبد مجموعة من النساء المقدسات اللائي استخدمهن المعبد أول الأمر في الرقص والغناء أمام الأوثان، ثم من الجائز أن يستخدمن بعد ذلك في إمتاع الكهنة والبراهمة، وبعض هؤلاء النسوة على ما يبدو قصرن حياتهن على عزلة المعابد وكهّانها، وبعضهن الآخر وسع من نطاق خدماته بحيث يشمل كل من يدفع أجراً لمتعته».
بناءً على بحث طويل قام به الدكتور حميد الهاشمي، يتضح أن الغجر تعرضوا لإبادات جماعية منظمة ومُمنهجة، خاصة من حكومة ألمانيا النازية ومن بعض حلفائها للتصفية العرقية، شأنهم في ذلك شأن اليهود. لكن الفرق أن اليهود وجدوا من يدافع عنهم، في حين لم يدافع أحد عن الغجر ولم تسلّط الأضواء على الجرائم التي ارتُكبت في حقهم، وصنّفهم النازيون بأنهم قوم غير مرغوب فيهم، وبالتالي فهم لا يستحقون الحياة، وهكذا قضى الألوف منهم في معسكرات الاعتقال وفي مصانع الموت، وساق النازيون وأفنوا من الغجر 650 ألفاً خلال الحرب العالمية الثانية، إضافة الى التعذيب وسلب الحقوق وتقييد الحريات والزج في المعتقلات، وظل العداء متجذراً ومتجدداً عبر الأزمنة وتعدد الأمكنة. ويكشف الباحث لنا حوادث بالأرقام عما جرى وأعِدّ لهم في الخفاء وفي العلن في أماكن كثيرة من العالم، مورداً أمثلة على ذلك يمكن العودة إليها في الكتاب الذي يُعتبر وثيقة مهمة للدراسة والبحث.
يبين الدكتور حميد الهاشمي أن ثمة موجات متعددة من الغجر أتت الى العراق بعد هجرتهم الأولى، لكن الغجر ظلوا عبر سنوات عيشهم في العراق أجانب وغرباء على الدولة العراقية الحديثة منذ نشأتها عام 1921 حتى اليوم. أما أماكن وجودهم التقليدية قبل التهجير فهي، الكمالية، الفوار، الخضر، الشوملي، الشطرة، كنعان، الزبير، أبو غريب، والسحاجي، لكن البحث الميداني الذي قام به الدكتور حميد الهاشمي يتركز على منطقتي الكمالية والفوار.