الحفاظ على التراث مسؤولية وطنية… والمهرجانات قائمة رغم أنف الإرهاب!
أحمد طيّ
ليس غريباً على مدينة ضهور الشوير أن تكون متألقةً على الدوام، وليس غريباً عليها كلّ هذا الجمال، فهي مدينة الحقّ والخير والجمال كما يحلو لكثيرين من أبنائها ومن مرتاديها أن يسمّوها. وليس غريباً على مدينة ضهور الشوير كلّ هذا الفيض من الثقافة والفنّ، وهي مدينة الشعراء والفلاسفة والمفكّرين والفنانين غناءً وعزفاً ونحتاً ورسماً ومسرحاً. كما أنّه ليس غريباً على مدينة ضهور الشوير كلّ هذا العبق من البطولة، وهي التي احتضنت أبطالاً يخلّدهم التاريخ أنّى ذُكروا.
إلى ضهور الشوير التي تعيش أمجادها هذه الأيام من خلال إحياء مهرجانات عيد المغتربين، توجّهنا منذ يومين ـ السبت، لا لننعم ببرودة الجبل المعتّقة برائحة الصنوبر خلال هذه الأيام الصيفية الخانقة في بيروت، ولا لنسمتع إلى مطرب ما يحْيي حفلاً غنائياً، ولا حتّى لنفي هذه المدينة بعضاً من حقّها علينا في الحبّ.
توجّهنا إلى ضهور الشوير يوم السبت، لعلمنا مسبقاً بمهرجانٍ اعتدنا عليه منذ سنتين، ولنشارك في النسخة الثالثة منه. إنّه مهرجان العودة إلى التراث، مهرجان زرع البسمة على ثغر الطفولة، مهرجان «Shweir.Life»، الذي تنظّمه مديرية ضهور الشوير في الحزب السوري القومي الاجتماعي، بالتعاون الوثيق مع البلدية.
التحضير للمهرجان بدأ قبل أيام، وارتفعت وتيرته قبل يوم واحد وطوال ساعات الليل. الكلّ في حركة دائمة: نَصب خيام هنا، تمديد شبكات الكهرباء والإنارة، تنظيم المداخل والمخارج، وكلّ ما إلى ذلك، حتّى عمّال النظافة كانوا حاضرين باستمرار وتأهب.
السبت صباحاً، بدأ العارضون بالتوافد، ثمّ انصرفوا لتوضيب معروضاتهم التي تنوّعت بين الرسم والنحت والكتاب، إلى المأكولات والمشروبات والمنتوجات البيتية والآرتيزانا والحليّ والجواهر… وللحديث عن كلّ هذا الإبداع تتمّة في متن التقرير.
الافتتاح
عصراً، كان الافتتاح الرسمي، وقصّ شريط الافتتاح عضوا المجلس الأعلى في الحزب السوري القومي الاجتماعي الأمينان غسان الأشقر ونجيب خنيصر، عميد القضاء في الحزب ريشار رياشي، الوزير السابق بشارة مرهج، ناموس مكتب الرئاسة في الحزب الأمينة رندة بعقليني، منفذ عام المتن الشمالي في الحزب سمعان الخراط، مدير مديرية ضهور الشوير نبيل أبو سمرا، رئيس بلدية ضهور الشوير ـ عين السنديانة إيلي صوايا، رئيس البلدية السابق حبيب جوكا مجاعص، إضافةً إلى عددٍ من الشخصيات والفاعليات.
وبعد جولة في أرجاء المكان حيث أقيم المهرجان ـ شارع الاستشهادية سناء محيدلي ـ التقت «البناء» عدداً المسؤولين.
مرهج
يقول الوزير السابق بشارة مرهج تعليقاً على هذا المهرجان: إنّها مناسبة شعبية هامّة للاطلاع على الإنتاج التراثي والإبداع الفنّي والحِرفي والثقافي في ضهور الشوير. هذه المناسبة تعبّر عن قدرة شعبنا وإصراره على الإنتاج والمساهمة في دورة الحياة. شعبنا يأبى أن يكون متفرّجاً ومتلقّياً فقط، ويطمح دائماً لأن يكون فاعلاً ومبدعاً.
ويضيف: إذا نظرنا إلى كلّ ما عُرض في المهرجان الذي نظّمه الحزب بالتعاون مع البلدية، فإنّنا نجد معروضات من جمعيات وأفراد، في نسق متكامل يجسّد روحية التعاون، والصفاء الشعبي.
نهنّئ الفتيات والشباب الذين أخذوا على عاتقهم تنظيم هذا المهرجان المميز، وندعو إلى تنظيم مناسبات ومهرجانات أخرى تحْيي الصناعات الحِرفية، وتعود بنا إلى التراث الجميل، إلى الأرض، إلى الجذور، وتحفّز فينا الاتكال على الذات، خصوصاً في هذه المرحلة، حيث تريد قوى معيّنة تزوير هويتنا، وإلغاء تاريخنا، وطمس حضارتنا.
خنيصر
من ناحيته، أكّد عضو المجلس الأعلى في الحزب السوري القومي الاجتماعي أنّ الحزب الذي تتناول النهضة التي أرساها حياةَ أمّة بأسرها، والذي يتنكّب المهام الصعبة في أكثر من ميدان، هو أيضاً حزب فرح، وهو حياة قائمة بذاتها، إذ إنّ القوميّ الاجتماعيّ من خلال عمله وإبداعه وتفانيه، يساهم مساهمات فعّالة في دورة الحياة، وكثيراً ما تجده يتجرّع المرّ والعلقم، ليقدّم كلّ جميل للناس.
وقال خنيصر: ما نشاهده اليوم ليس إلا مشاهد من مشاهد الحياة الثقافية والفنية والاجتماعية التي تزخر بها مدينة الحق والخير والجمال ضهور الشوير. ما نشاهده اليوم من هذا الدفق من الحياة، ليس إلا صورة مصغّرة عن الحزب المعطاء، الحزب المنتج غلالاً وفكراً وثقافةً وفنّاً وجمالاً.
وردّاً على سؤال حول الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي يقدّم الدماء على الجبهات فداءً للوطن والأرض، ويقدّم البسمة للأطفال في مهرجانات كهذا المهرجان قال خنيصر: باختصار شديد، نحن نكون حيث يجب أن نكون. كلّ ما نفعله ونقدّمه هو للحياة وفي سبيل حياة شعبنا. وهذه الحياة بنظرنا يجب أن تكون حياة عزّ وكرامة وفرح وبسمة وأمل.
وتابع: العدوّ الصهيوني أراد أن يكسر في شعبنا إرادة الحياة، فواجهناه وقاومناه وقاتلناه وكسرنا لديه تلك العنجهية وذلك الكبرياء، وأفهمنا العالم أجمع يوم هزمناه أننا شعب يحبّ الحياة ويعشق الموت متى كان طريقاً للحياة.
واليوم، يحاول العدوّ المتمثل بالتطرّف والرجعية، أن يعيدنا قروناً إلى الوراء، لا إلى الحضارات التي توالت على بلادنا والتي صدّرت للعالم أجمع الحرف والمعارف والاختراعات وما إلى ذلك، إنما إلى جاهلية يؤمن بها هو. جاهلية أشبه بالموت ولا تمتّ إلى الحياة والتطوّر بِصلة. ونحن نواجهه اليوم بالدم والحديد والنار لأنّنا طلّاب حياة لا طلّاب ظلام.
وحول الوضع الإنمائي في المتن الشمالي قال خنيصر: لمناسبة تنظيم هذا المهرجان، وبناءً على هذا المشهد الراقي الذي نشاهده اليوم في ضهور الشوير، ندعو كحزب كافة القوى الصديقة، لا سيما تلك الممثّلة في الحكومة ومجلس النواب، إلى إيلاء منطقة المتن الشمالي الاهتمام اللازم على الصعيد الإنمائي. وإننا كحزب نضع يدنا في أيديهم دائماً لما فيه مصلحة هذه المنطقة التي تشكّل قلب لبنان النابض بتعدّديتها ثقافياً واجتماعياً.
وفي ختام تصريحه، هنّأ خنيصر مديرية ضهور الشوير على هذا النشاط المميّز، وعلى هذه الهِمم الوثّابة دائماً للعطاء والبذل والتميّز. كما هنّأها على التلازم والتلاحم مع أهالي البلدة. وشكر خنيصر أيضاً البلدية رئيساً وأعضاء، والجيش والقوى الأمنية التي سهرت وتعبت لإضفاء جوّ من الأمان بين الأهالي والزوّار.
الخراط
أما منفّذ عام المتن الشمالي في الحزب السوري القومي الاجتماعي سمعان الخراط، فقال عن المهرجان إنّه عمل ذو استهداف معنوي، ويؤكّد أن الحزب هو حزب فرح، وهو حزب ثقافة وعلم وفنّ ومعرفة. لقد دمجنا هذه الأفكار كلّها في هذا المشهد الراقي الذي يستوعب الفئات العمرية كافة، ويستقطب أعمالاً إبداعية مختلفة من فنون كالرسم والنحت، إلى الكتاب، إلى النسيج والمؤونة وما إلى ذلك، وكلّ ذلك من نسيج هذه المنطقة.
وأكّد الخراط أنّ الحزب هو عرّاب هذه الاستحقاقات، وتاريخه يدلّ على أنّه حزب حقّ وخير وجمال، وخرّج في صفوفه فنانين ومفكرين كباراً. واليوم، يكرّس الحزب هذه الرؤية عبر هذا المهرجان بالتعاون مع البلدية التي نتوجّه إليها بجزيل الشكر.
مجاعص
وإذ غادر رئيس البلدية إيلي صوايا بسبب التزاماته، أدلى رئيس بلدية ضهور الشوير ـ عين السنديانة السابق حبيب جوكا مجاعص بتصريح جاء فيه: أمام هذا المشهد الجميل اليوم، لا يسعنا إلا أن نقول إننا في ضهور الشوير نتألق دائماً بسبب التعاون الوثيق والثقة المتجذّرة بين الأهالي والبلدية والحزب السوري القومي الاجتماعي، وبسبب الصفاء والنقاء في التعامل، وبسبب التلاحم الذي لم تنخره سوسة المصالح الشخصية.
هذا المهرجان اليوم نحْيي من خلاله التراث والفولكور اللبنانيين. وإذا كنّا نحبّ الحياة والتطوّر، فهذا لا يعني أنّنا غير معنيين بالحفاظ على تراثنا الجميل، ونقله أمانةً إلى الأجيال الجديدة.
لا شكّ في أنّ ضهور الشوير هي مركز فكر وحضارة، وهي تجسّد اليوم تفاعل الإنسان مع أرضه، من خلال كل هذا الإبداع المرتبط بالأرض، أكان إنتاجاً زراعياً أو نحتاً ورسماً.
مشاهدات
المهرجان كان باستهدافاته ناجحاً بامتياز، العارضون من المناطق القريبة والبعيدة أتوا ليعرضوا منتوجاتهم التي تنوّعت بين كتب ومنحوتات ولوحات ورسوم، إلى أشغال يدوية وحِرفية وخزف ومطرّزات.
الفرح كان السمة الأبرز، ابتساماتٌ تغزو وجوه الأهالي والمصطافين والسيّاح، وضحكات تملأ ثغور الأطفال الذين كانت لهم حصّة الأسد في هذا المهرجان. عند الطرف الشرقيّ من الشارع حيث أقيم المهرجان، تعملقت ألعاب تشبه إلى حدّ بعيد مدن الملاهي. وفيها ينطّ الأطفال ويقفزون ويتسلّقون ثمّ يتزحلقون.
قرب الألعاب، شغلت «دار أصالة» لنشر كتب الأطفال خيمةً عرضت فيها قصصاً للأطفال، وذلك إيماناً منها ومن المنظّمين، أنّ المطالعة متعة وتسلية قبل أن تكون إفادة و«زيادة معرفة». وكالسنة الماضية، حضر الحكواتي مع «دار أصالة» ليروي على الأطفال أجمل الحكايات الخيالية التي تفرحهم وتضحكهم وتثير فضولهم وتحرّك مخيّلاتهم.
خيمة أخرى نُصبت قرب «دار أصالة»، وفيها جلست صبيّةٌ بزيّ المهرّج، وأمامها قوارير ملآنةٌ بالألوان. استقبلت الأطفال مع أهاليهم، ورسمت على أوجههم رسمات تشي بالفرح.
قرب هذه الفرحة، مسرح كبير خُصّص للوصلات الموسيقية والغنائية والفقرات الترفيهية من رقص وألعاب بهلوانية. وإذ أطرب الفنان عمّار الديك الحضور بأغنياته الفولكورية، إلا أنّ لحضور الساحر «ميكي» رونقه الخاص، إذ أذهل الكبار قبل الصغار بألعاب الخفّة التي أتقنها، حتّى راح بعض الحضور يتساءل: «كيف فعل ذلك»، و«يا للروعة»، وما إلى ذلك من العبارات التي تشي بالدهشة والذهول. ولم يتوانَ «ميكي» عن دعوة بعض الحضور، كباراً وصغاراً، ليكونوا شركاء مباشرين في ألعاب الخفة تلك. فتارةً يُخرج بيضةً من جيب فتى، وطوراً يُخفي علماً أو منديلاً في ثياب فتاة.
وقرب «ميكي» ومسرحه الكبير، شُيّد لوقتٍ معيّن مسرح صغير، شاهد عبره الأطفال عرض دمى، ما ألهب فيهم الحماسة كلّ حين، فعلت الصيحات وارتفع صوت التصفيق.
بعد المسرحين الكبير والصغير، توقفت شاحنة كبيرة، تابعة لهيئة صحّية ما، ولدى الاستفسار، علمنا أنّ هذه الشاحنة ليست سوى مستوصف نقال، مهمّته جمع الدم من المتبرّعين به لصالح الأطفال المرضى بالسرطان… خطوة إنسانية إضافية يتألق من خلالها المهرجان هذه السنة.
تبدأ الرحلة بمحاذاة رتل الخيم الذي يطول ويطول حتّى يصل إلى ساحة البلدية. تتابع سيرك بمحاذاة رتل الخيم الذي لا ينتهي، وتتوقّف أمام كلّ عارض. هذه تعرض الحليّ والفوبيجو وكلّ ما يختصّ بجمال المرأة، وتلك تعرض الآرتيزانا وكلّ ما يمكنه أن يضفي إلى المنزل جماليةً ورونقاً. لكن اللافت، الحِرف والأشغال اليدوية التي عُرضت، لا لجمالها فحسب، إنما لأنها تشير إلى أنّ هذه الأعمال ما زالت حيّة في قرانا، ولم تندثر أمام هجمة التطوّر. فإذ بك أمام السلل المصنوعة من القشّ، وأمام النحاسيات والمطرّزات والمنحوتات. ولا ننسى المكانس، والكراسي والطاولات الخشبية، وأشغال الكونفا، والسُّبّحات والدمى وما إلى ذلك. ينشرح القلب أمام هذا المشهد، ويطمئنّ على التراث القرويّ الذي ما زال ينبض حيّاً، ولم تبتلعه موجة التكنولوجيا الطارئة.
وعن ذلك تقول مسؤولة عن أحد الأجنحة، أنّ إحياء التراث القروي ليس عملاً رجعياً البتّة، بل هو تمسّك بالجذور التي إن ماتت مات الوطن، وهو تشبّث بالأصالة التي إن تلاشت اضمحلّ المستقبل وأصبح رتيباً.
في أكثر من خيمة، تلفت نظرك رسوم تشكيلية تنوّعت بين البورتريه واللوحات الزيتية والمناظر الطبيعية، وأخرى تجريدية. ولوهلة، تظنّ أنّك في خضمّ سمبوزيوم ضخم.
تتابع السير مدهوشاً بالمعروضات وبالحركة التي أضفاها المهرجان على الشارع الرئيس في البلدة، لتصل إلى ختام الخيم. وكما شغلت «دار أصالة» لكتب الأطفال الخيمة الأولى، شغلت «دار الفرات» الخيمة الأخيرة ما قبل الأخيرة، وقبلها خيمة لـ«مكتبة التراث»، وبعدها خيمة لعمدة الثقافة في الحزب السوري القومي الاجتماعي. هناك، يكثر الحضور المتهافت على الكتاب، ويضوع في المكان عطر النهضة السورية القومية الاجتماعية، ويحلّ أنطون سعاده حضوراً دائماً. وأمام هذا المشهد الغنيّ بالكتب، تطمئنّ القلوب إلى أنّ القراءة في لبنان ما زالت بخير.