الإمام السيد موسى الصدر: بعض من رحمة الله فينا… فهل تعلّمنا؟
ناصر قنديل
– ربما لا تعرف أجيال كثيرة نشأت على إحياء ذكرى تغييب الإمام السيد موسى الصدر، الكثير مما يجب أن تعرفه عن هذا الرجل الاستثنائي في عبقريته وإقدامه ونبوءاته واستشرافه وإشراقاته ومبادراته، التي يدين كثير من اللبنانيين له بها، ويستخدمون في التعامل مع معطياتها مفرداته من دون أن ينتبهوا، أنه هو من صاغ تلك المعادلات المعقدة التي لا يعرفون، أو لم يحاولوا أن يعرفوا من أين دخلت إلى حياتهم الوطنية. ويعود الفضل في هذه الصياغات إلى عقل استباقي على المستوى الفكري، قادر بتشبيك سابق لزمانه أن يرسم معادلات الخطر، ويرسم مقابلها معادلات الأمان، وأن يتفادى فِخاخ إغراء الانتصارات الزائفة، ويختار مقابلها هزيمة مشرّفة منصفة توزع أعباءها بتوازن على أطراف الصراع بدلاً من التذابح حتى الإنهاك اليائس، وإتعاب الوطن بتضحيات بلا طائل، لتنضج فكرة التسوية وتصير الحلول الوسط مقبولة.
– أول وأهمّ عبقريات عقل الإمام أنه رفض تشكيل حركة سياسية من لون طائفي واحد، واضعاً يده على حقيقة استحالة إنجاز التغيير والإصلاح بالانطلاق من لون طائفي، وهو المعمّم والمتطلع إلى النهضة بجماعته الطائفية التي كانت تقع تحت حرمان مزدوج سياسي واجتماعي، فسار بالتوازي لتشكيل مؤسسة الطائفة، المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، رافضاً تحويلها حركة سياسية، كانت أسهل عليه من السعي إلى حركة عابرة للطوائف، وجد فيها طلبه عبر حركة المحرومين التي شاركه في تأسيسها جمع من نخب لبنانية لا طائفية، منهم شخصيات مثل النائب بيار حلو والمطران جورج خضر، والصحافي غسان تويني، رافعاً لها شعارين من نتاج فكره المجدّد في الفلسفة والسياسة. فوسط انقسام الفكر السياسي حول اليمين الليبرالي الرأسمالي واليسار الاشتراكي والشيوعي، وضع معادلته لنظام العدالة الاجتماعية القائم على تفاصيل قام بصياغتها شخصياً لمفهوم دولة الرعاية واقتصاد الإنتاج، والجامعة الوطنية، والمستشفى الحكومي، والمدرسة الرسمية، والصناعة والزراعة ومشاريع السدود المائية، وحماية الإنتاج الوطني ووضع خطط لتفادي هجرة الأدمغة، والجيل الشاب… ووسط الانقسام بين دعاة لتنظيم الدولة على أساس طائفي وصولاً للفدرالية، ودعاة للعملنة بمفهومها الغربي المتحارب مع الدين، تبنّى الدولة المدنية اللاطائفية القائمة على احترام المعتقد الديني، التي يتساوى فيها المواطنون أمام القانون في الحقوق والواجبات.
– في السياسة امتلك الإمام مشروعه هذا مع نخبة مؤسسي حركة المحرومين، كوصفة خلاص بوجه خطرٍ كان يحذّر منه قائلاً، اعدلوا قبل أن تتدحرج حجارة قصوركم إلى البحر، فخطر الحرب الأهلية كان ماثلاً أمام عينيه. وخلافاً لظنّ الكثيرين أنه أسّس ميليشيا مسلحة للطائفة الشيعية، للمشاركة في الحرب هي ما يعرفه اللبنانيون اليوم بإسم حركة أمل، فقد رفض الإمام أن يشارك أيٌّ من مناصريه في الحرب الأهلية، التي اعتصم طلباً لوقفها وأعلن صيامه لهذا الغرض، وخسر الكثير من مريديه تحت ضغط التحاقهم بالأطر التي نشأت على هامش الحرب الأهلية بسبب موقفه الرافض للانخراط فيها، وأمل لم تكن أبداً ميليشيا الحرب في فكره وممارسته، بل هي أفواج المقاومة اللبنانية التي تأسست قبل الحرب، لتكون واحدة من نتاجات عبقرية الإمام، أول مقاومة سابقة لوقوع الاحتلال، مهمتها الدفاع عن الوطن، الذي تعجز سلطته السياسية عن توفير مقومات القوة لجيشه وتمكينه بقرار وطني جامع من تأدية المسؤوليات الدفاعية بوجه اعتداءات إسرائيلية لا تتوقف. ومعادلة الوظيفة الدفاعية لسلاح المقاومة التي يُطرح حولها النقاش في أندية البحث عن استراتيجية وطنية للدفاع، تنتمي إلى فكر الإمام وليست واحدة من بدع الزمن الراهن. ويُسجَّل للإمام هنا أنه أول من صاغ مثل هذه الوظيفة لمقاومة، كانت تنشأ دائماً في زمن لاحق لزمن الاحتلال.
– يُكتب للإمام الصدر أنه قاد السياسة اللبنانية نحو العلاقة المميّزة مع سورية، صانعاً لهذه المفردة، مثلها مثل إلغاء الطائفية السياسية، ونظام العدالة الاجتماعية. وهي المفردات التي التقى اللبنانيون عليها في اتفاق الطائف لتصير دستورهم الجديد. وفي فهمه للعلاقة المميّزة مع سورية وجدها، منقذاً من استنزاف فكري لمفهوم الهوية بين لبنانية انعزالية، وعروبة اندماجية، داعياً للبنان العربي الهوية والانتماء، ولبنان والوطن النهائي لجميع أبنائه، وترجمة نهائية الكيان وعروبته في آن بعلاقة مميّزة مع سورية، صاغ أبجديتها في زمن الحرب الصعب مع الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد.
– تمسُّك الإمام بوحدة لبنان واللبنانيين لم يكن مجرد سلوك ترجمه في صلواته في الكنائس، أو انفتاحه على كلّ المكونات اللبنانية فقط، بل بإدراكه لضيق أفق دعوات التقسيم وتحذيره منها، وشرحه للفوارق بين الفدرالية الآتية من رحم دمج الكيانات المنقسمة المتحاربة كطريق تدريجي للاندماج، وبين الفدراليات الآتية من رحم تشظي الكيانات الموحدة كطريق تدريجي للتقسيم والحرب المفتوحة.
– ترتفع وتسمو إنجازات الإمام الصدر الفكرية والسياسية، لكون الجماعة التي أسّسها لتحمل بصمته في الحياة الوطنية، نجحت في الحفاظ على أغلب ما أنشأ من أفكار أقرب للمؤسسات، فصارت مفاهيمه لهوية لبنان، الأرضية المشتركة لما يمكن أن يجمع اللبنانيين في تعريف وطنهم، كما هي الحال في دستور ما بعد الطائف، الذي إنْ تناوله التعديل فسينحصر في أحكامه الخاصة بالسلطات، وليس في مقدّمته التي صارت آخر ما يمكن أن يبقي لبنان كياناً سياسياً على قيد الحياة، ومثل مفهوم الهوية، ترجمت الجماعة الصدرية وخصوصاً في حركة أمل التي ورثت حركة المحرومين، والتي لا تزال وصية الإمام باستعادتها مسؤولية لم ولن تغادر الحياة الوطنية التي لن تستقيم بدونها، كحركة إصلاحية مدنية عابرة للطوائف. بينما شق تلامذة الإمام طريق المقاومة وعبّدوه بدمائهم وأجسادهم، ونال الوطن بفضلهم، وبفضل رفاق دربهم المقاومين من كلّ الأطياف والطوائف، حريته وتحرير أرضه، ولا زالوا وهم يُحيون انتصاراتهم يذكرونه كمعلم مؤسّس لهذه المقاومة.
– الإمام السيد موسى الصدر، إمام الوطن والمقاومة بحق، بعضٌ من رحمة الله فينا.