غيداء أبو صالح… شاعرة الغيوم المطر والرحيل

عبد الرحمن الخليفة

الشعر الإنسانيّ عموماً، يعبّر عن ملامح بتجربة المبدع، رؤاه أو حركة سير المجتمعات بما تخلّفه من أثر مادي ومعنوي على دروب الأرض. وخلال سلوكها نهجاً يتبنّى كلّ ما تحمله. وهذا يتطلّب نوعاً من الوعي بالطبيعة في سياق ارتباطاتها وعلاقاتها التي تكاد تكون بلا نهاية. كان هذا مسلّمةً في خلفية التعبير عن موهبة مرتبطة بامتداده وعمقه في زمان أقل ضجيجاً جسّدته عقول منتمية إلى الفضاء البشري داخل إطار قيمة الخير والمحبة التي تتجلّى في امتزاج الروح بالبعد الصوفيّ المتخطّي أسر الذات.

وقد جاء في دراسة للدكتورين مجدي محمد يونس وصبحي شعبان من مصر، عن فلسفة المتصوّف الكبير ابن عربي، في فصل عرّفا فيه المعرفة الصوفية بأنها مباشرة بغير وسائط ومقدّمات أو قضايا أو براهين، إنها معرفة فوق عقلية، ومن هنا تسمى كشفاً. ولا تأتي هذه المعرفة إلا بعد طهارة القلب وتزكيته. هنالك تفيض عليه الأنوار من قبل الواحد الحقّ وإذا وصل المرء إلى هذه الدرجة يسمّى عارفاً. وإن تلك المعرفة تأتي القلب من وجهين: من عين الجود وبذل المجهود.

كثيرٌ من التجارب الإبداعية والإنسانية السودانية المنتمية ارتبطت بفضاء الصوفية، وآثارها المتناثرة كبقع الضؤ على امتداد أرض السودان. فالأثر الصوفيّ عند العملاقين الراحلين محمد المهدي المجذوب ومحمد الفيتوري لا تكاد تخطئه عين قارئ يستشفّ رحيق الكلمات، وتتخلّل وجدانه معانيها. ونحن هنا بصدد قراءة تجربة شعرية فريدة في ارتباطها بذلك الافق الإنساني، البعيد والمتسامي على الرؤى المرتهنة للواقع المادي المحدود، والمعبّرة عن صفاء أمكنها من إزاحة الستارة بشكل كلّي عن معاني هامة ومصيرية في تعريف الوجود الإنساني ورسالته.

حفيف الظل المنثور

يجالسني

يتشرنق في خاصرتي خوف

ومن معراج الروح

أجرجر أغلال

الروح

أرتّلُ

جرحي النازف

من ذاكرتي

أرتّلُ…

اسماً رمزياً

للشمس

افتتحُ

الزمن المائي

أمزّق

كلّ خيول الصمت

دثّرني

يا كسرة وعدي

من رعدة هذا

الليل

زملني

يا حفنة وعدي

من رجفة خوفي

والسيل

واسكنّي

وحدك

من هامة رأسي

حتى عظمي

يا أجمل من مطرٍ

يتكوكب فوق الحلم!

ولدت صاحبة هذه الكلمات المبحرة في سلاسة منقطعة النظير على بحر الزمان بكل أبعاده، ماضٍ، حاضر وما بعد، غير منفصل عن مكان ولادتها في منتصف عقد السبعينات، في ثاني أكبر مدن السودان… مدني، والتي جاءت تسميتها أصلاً على أحد مشايخ متصوّفة السودان مدني السني ، وقد وصفت بمدينة الفنّ والجمال، وتميّزت بطابع اجتماعي مترابط، يعلي قيمة الثقافة والإبداع. فالمعنى لشكل العلاقات الإنسانية التي تميزت بها تلك المدينة في البعد المعرفي هو الامتداد في الآخر وإن كان متشابهاً، نتاج البيئة ذات الأثر القوي. فهو مثل تراكم اكتسابي للوعي بالوجود في إضافة مستمرة لشتّى صوَر الحياة التي يعكسها ذلك الآخر في تجلّياتها الوجدانية والعقلية. فالبعد الصوفي الذي يرتب العلاقة ما بين العقل والروح على إطلاقهما بوصفهما نِعماً إلهية توجب التقديس، يفتح خلال تلك العلاقة أفقاً غير محدود للوجدان الإنساني في تأمل وجوده ومحاولة إدراكه من خلال غاية الإيمان المطلق القائم على المحبة وتنقية النفس من كلّ الشوائب التي يمكن أن تقطع الطريق على تلك التجليات الكشف المتعمقة في فهم الذات والكون.

تقول غيداء في إحدى قصائدها المبهرة:

تجاورنا كفرسَي رهان

أعاند ذخيرة البنفسج التي تستبيح دم حبر غوايتي

وتنثر ضوءاً

يكسر خوف الحرف القادم من عينيك

كشريان مهدور الدفق

يبتهل لموتك المؤجل في دمي

وشهق الروح

إن اقترب!

نورس مهيّأ للعبور

هذه النار تفضح وجيبك

في احتمالات الرماد

والبريق القادم

من عينيك

يقرع أجراس مدينتي

وأنت متسربل

في شقوق الخوف

رنينك يصعد الدم في الجماجم

والمدى حبر غائم يبحث عن هطول

قبل أن تجثو لجسارة الطوفان

سائلاً حمّى المسافات

البقاء

أشرع

للقمر إشراعة من الفضة

وللغيم أرجوحة من زبد البحر

نبوءتي تكشف سرّ الموج بعينيك

وعيناك أسيرتا

احتراقي يا نسل الغيم

في قبة زرقاء

ويا لؤلؤ الطلّ

في أصداف البحر والسماء

تمهّل قليلاً في الحكايا لأراك

جسداً مشظّى… بوعدي

موغلاً في التماس الشظايا

لاجئاً كالدم في بوح شرياني

كم باباً ستطرق في رؤاك؟

وكم حلماً سيحتمل

شغف النخل؟

والمجاورة كأفراس الرهان

تحبس الماء بين أصابعي

وتهديه نكهة الدفق

والهذيان!

فكن في احتمالاتي

رمحاً يثقب الريح

شلّالاً متدفّق الروح

وشماً يقتفي حرّية بوح الموج.

أو جسداً يمتطي حلقة الزلزلة

ويتهيأ في غيوب الطريق

زهيرات تصطبغ بدم كفّي

في احتفالات الحريق

كنت قريباً

تقرأ الهامش وتسجن فيه

صلصالاً له وجه بركان وشرك كأسماء

حافية من الأسماء

تكاتب الأرض

وتغزل من فضة القمر

إرث هذه الروح

هذه الروح

التي تقرع أجراس مدينتك

وترتديك عباءات دم ودفء

وتشعل في صقيع الورق

اتصال الجسد بسطوة الكتابة

أبرق يمتد برقك في هامتي سيفاً؟

يغامر ثانية فأرى عينيك

والجرح مؤتلق

وجيادي جامحة!

أبرق

فالخطوة آتية لا ريب

أشرق ثانية

لأرى صهيل الحبر يلوح طاووساً من الزهوّ

المقدّس

يشهر أشرعتي

فأجفل محاذية شغف الأفق

وأشهق عالياً!

قرأت في أحوال مختلفة ديوان «الطوفان الآخر». محاولاً التعمق في معانيه وما ترمي إليه الكلمات من رؤى، وفي أيّ قوالب يمكن أن توضع في سياق دراسة أو وصف، سواء كان محسوساً أو ملموساً أو تجريداً مطلقاً. فوجدت أنه يجمع هذه الأوصاف الثلاثة ويكون تعريفه مفتقداً عنصراً هاماً وغير مكتمل. ولم أهتدِ إلى سياق عام يمكن وضعه فيه أو قراءته خلاله، مبني على خلفية أدبية ويكون منصفاً. ولكنني كنت كلما قرأت تمازجت مع ذلك البعد الصوفي فيه، ورأيت أمامى بكلّ خلفيات معرفتي المتواضعة بعوالمها الفسيحة خلال كلّ كلمة في قصائد الشاعرة. ووجدت أن وضعها على هذه المعالم المضيئة والمفضية إلى ارتباطات عميقة وشاملة بين المادة والروح، والعقل والوجدان، اللغة وغاية استخدامها هو أكثر إنصافاً، وأكثر ارتباطاً بمدرسة ابن عربي في تعريف الأشياء والمعاني. فهو يرى أن المفاهيم مجردة كالمعاني، ذلك لأنه يستخدم مصطلح الحقيقة بمعنيين في تحديده المعرفة، فهي الحقيقة أو الأمر الكلّي الذي يوجد في كلّ موجود عينيّ، وهو الحقيقة التي تحدث في العقل عن طريق إدراك ذلك الشيء. ففي معرفة شيء ما كالقلم يميّز ابن عربى بين القلمية وهي المعنى الكلّي الذي يوجد في كلّ قلم عينيّ، والحقيقة التي تنطبع في الذهن عن طريق رؤية القلم وهذه الحقيقة الأخيرة هي معرفة مدرك القلم. فالمسافة التي تفصلنا عن إدراك غاية معاني الطوفان الآخر ومصدر إلهامها تظلّ كالفارق ذاته بين المعنى الكلّي له والحقيقة التي ترتبط في أذهاننا عنه. وفي تعريف أشمل لابن عربيّ لمحاولة معرفة أو تعريف شيء يقول: «إنها، أي المعرفة، حقيقة في النفس تتعلّق بالمعدوم والموجود على حقيقته التي هو عليها أو يكون إذا وُجد». ومعنى ذلك أن المعرفة عنده تعني الحقيقة التي توجد في العقل، وتتصل بالموجود وغير الموجود، بمعنى الحقيقة العقلية أو الكلّية ويطلق على الأخرى الحقيقة الكونية «أعلم أن الأمور الكلّية وإن لم يكن لها وجود في عينها معقولة معلومة بلا شك في الذهن، فهي باطنة لا تزول عن الوجود العينيّ ولها الحكم والأثر في كلّ ما له وجود عيني». «فصوص الحكم» ابن عربي .

في هذا السياق يمكننا أن تتكشف كثيراً من معانى الطوفان الآخر وتكون قراءته أكثر فائدة وسلاسة رغم أنها على كلّ حال لا تخلو من استنطاق الدهشة واستشعار البعد الجمالي فيها على أيّ نمط نقرأه به.

قراءة الصفصاف

قراءة مبكرة

تتكسر لغتي أنمو

وقمر يتحولق

في ظلال الصمتِ

مساء يقشّر برتقالة الروح

تستدير كأس قلبك للرحيق

تبدأ الصلوات قدّاس الفتون

المجد للبلوّر والرنين

قراءة أولى

قرص الشمس مال

ليعانق البحر جبهة السماء

والنورسة المشرعة الأجنحة أعلنت الرحيل

مَن قال يشبهكِ الخريف؟

بل الربيع

بل الشتاء؟!

كفوّهة رغبتي

التي تتفجر بذاكرة منهكة

أنتِ الفصول !

قراءة تائهة

بين ما تحبّ وتكره ذاكرة كالحة

وريح تنفض الرماد عن عيون الظلال الهرمة

وتقطر دماً ودفئاً أخذا في التخلّق

هذا الغبار الذي يملأ جوف السماء

إنه يستر لعناتنا

والوجوه المصبوغة التي تسكن المدينة

ستغرق في صوتها المبحوح

وامرأة تائهة

كانت تتبع أثر الرمل

في عينيها

تاريخ مدينة تغرق

ونصف قمر يفنّد مواعيدها

الغامضة!

قراءة متأنيّة

في ألواح العهد

وسيماء الأنواء

أقدّم نفسي قربان دمع

يغسل وجه الأرض

أشهد

أنّ مصابيحي

قرأتْ

في العطر الأكثر رعباً

مَن قال لجرحكِ

أن يلقاني؟

قراءة خائفة

قناديل القدر

اعتقلت أطراف روحي

ثمة غيم

يركض كالقبلة في لغتي

ولا صوت

ولا لون يشابهه

هل يبقى اللؤلؤ مختبئاً؟

قراءة متأخرة جداً

مال قرص الشمس غرباً

في مساحات الجنون

اقترب السنونو من حرائقنا قليلاً

ودندن بلحن يشي بالضوء المهشّم

وتناثر تحت أقدامنا!

قراءة عاجلة

تلك الرائحة

الآتية من النشيد

الذي تسكنهُ

على غير موعد

تملأ روحي

تلك الرائحة

إيقاع فضاء

وخيولٌ ونخيل

ترى… هل كان البحر

يفيض من بين أصابعك؟

أم الحلم شقائق من صهيل النعمان؟

ليس من السهل مطلقاً معايشة الحياة بصفة محايدة. والأصعب إدراك ما يمثّله السقف الكامل لأبعادها الحسّية، العقلية، والروحية. فما نظنّه في محدودية رؤيتنا لتقلّب أحوالها يسفر أحياناً خلال بعد خارج عن أسر النظرة الذاتية له. إنه تمدد لحالتين ليستا إلا في المعنى الكلّي تتبادلان رسم الوجه الذي يتكوّن خلال استشعارنا معطياتهما التي تعود إلى أزليتها في صورة الخير والشر. ومؤكد أنه أكثر صعوبة أن ترسم هذه الصورة الكلّية بتجلّياتها الكامنة فيها إضافة إلى حاجات الوجود الشخصي ومتطلباته من أمل، حبّ ووطن. فلقد كان كلّ هذا عن الشاعرة غيداء أبو صالح في سياق المناجاة الكلّية التي لا يمكن التعبير عنها إلا بمفردات رفيعة. وحدها يمكنها أن تجسّد انصهار اللغة مع الرؤية الوجدانية الخالصة في أبعاد مطلقة.

أسأل غيمة:

هل تذهبين

إلى اتقادك

متناثرة بين الكلام

وبين النهر

كرنين النور

والصدى المسحور؟

نختم ببعض ما سطّره قلم الدكتور أحمد عكاشة أحمد، الناقد والمختصّ المقيم في هولندا، حول قراءته «الطوفان الآخر» إذ يقول: «من صفحات مجموعة أشعارها أدركت بعض حقائق عيش غيداء أبو صالح ورحيلها الباكر والمفجع. وأيضاً وقفت على نظمها الشعري. وهو شعر اعتمد على المجاز على نحوٍ بالغ. وتنوّعت فيه الاستعارات ما بين :

ـ مجاز إدراكي الربط بين البواعث والتجربة .

ـ مجاز متعلّق بالمفاهيم العلاقات الهامة التي ضمن نظم اللغة والفكر .

وساعدت هذه المجازيات في طرح وجهات نظر هامة في شأن الحياة والتجربة الإنسانية. هذا يشكّل بعض ممّا يدعو إلى الاهتمام بشعر غيداء، وهو شعر كان واعداً ومتّجهاً نحو النضوج حينما وافت المنيّة الشاعرة. لقد أدركتها المنيّة قبل أن يتفجّر بالكامل المكنون فيها من مواهب ومقدرات.

وعلى رغم الوقوف فقط على بوادر نبوغ شعريّ، يمكن إدراك ما تميّزت به أشعارها.

فعلى رغم عظم الداء وتربّص الردى بالشاعرة لم تحتوِ الأشعار على سريرة منقبضة ولم يعلُها اليأس. لم تُنبئ تلك الأشعار عن ضعف أو عن شعور بالإحباط.

لقد بحثت في ما بين الأبيات أو في فحوى الشعر عن وجل إزاء الموت، فلم أجد. إذ عمرت جُلّ الأشعار بحبّ الحياة. وإذا وجد تبرّم ما، فإنه كان من جرّاء الوحدة والعزلة اللتين هما ملازمان للعيش في المنفى. لقد كانت غيداء شخصاً راغباً في التحصيل العلميّ، وتدلّ المشاعر والفكر المضمّنان في أشعارها على تميّزها فكرياً وثقافياً. وكانت الأشعار مميّزة على رغم حداثة التجربة الشعرية وقُصرها».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى