وعيٌ مسترسلٌ بوحدةٍ عفويةٍ في رواية «سيرة غير بطولية» لرندة الخالدي
محمود شريح
رندة الخالدي، في روايتها «سيرة غير بطولية»، تردّ القصّ إلى واقعية صادقة افتقدها القارئ العربيّ وسط فوضى الزحام الفكريّ النرجسيّ الضارب ببوقه الغليظ من محيطٍ إلى خليجٍ.
ببساطة وتواضع، تروي رندة الخالدي قصّة حياتها بأسلوبٍ طريّ وسهل، فلا تعقيد ولا هذيان ولا شطحان، بل وعيٌ مسترسلٌ بوحدةٍ عفويةٍ على غرار الرواية الإنكليزية الحديثة في النصف الأول من القرن العشرين.
الروائية تحتفل بعيد ميلادها التاسع والسبعين على طريقتها الخاصة، معترفة بأنها لم تعد قادرة على إصلاح ما لا يمكن إصلاحه أو حتى يستحق الإصلاح من عادات مجتمعها، مع أنها كرّست حياتها في سبيل ذلك.
فها هي تختار كعكة صغيرة ورزمة من الشمع، فيما قطتها «ميلا» تراقب حركاتها. ثمّ فجأة، تُدخلنا في تفاصيل حياتها الخاصّة فندرك أنها كانت زوجة سفير فوق العادة يجذب إليه النساء من كلّ فئة وعمر، فيوحي بالجدّية والبراءة معاً.
تردّها الذاكرة إلى دمشق مسقط زوجها الذي انتقل إلى جنيف سفيراً لبلاده، ثم تعود بنا إلى القدس مسقطها وإلى جامعة دمشق حيث كانت بروفسورة في الأدب الإنكليزي عائدة من دراستها في أوكسفورد. فلا يغيب عن بالها وصف دقائق تكوينها النفسي:
«نحن عائلة لسنا كباقي العائلات، أو هكذا أحبّ أن أصنّفها. لنا قواعدنا الخاصة ولنا لغتنا الخاصة وأطوارنا الخاصة. أم لعلّي أتمسك بهذا الرأي حول عائلتي لغرض في نفسي. لعلنا عاديون مثلنا مثل باقي البشر، لعلّنا طبيعيون وطبيعيون جداً. ولكن كيف نكون طبيعيين وكلّ فرد منّا ينافس الآخر في غرابة أهوائه وتطرّف نزواته؟ وتتوسّط تلك العائلة أمٌ مدهشة تستوعب كُلاً منّا على حدة وتوزّع عواطفها واهتمامها بين ستة أفراد يتبارون للفوز بإعجابها. ولقد أدّى غياب الأب الذي توفّي عن عمر باكر في خلق رابطة وثيقة بين الأولاد كما ساهم غيابه عن الساحة في تطوير شخصية كلّ منّا، فاتجهنا نحو الاستقلالية، وأحياناً التمرّد على كلّ ما هو رجعيّ ومتعنّت».
أما أمّنا، فلقد بقيت تلعب دور الأمّ من دون أن تحاول تقمّص دور الأب أو انتحال شخصيته. هكذا بقي الجوّ العائلي في غاية الراحة لا خوفَ فيه ولا تحفظَ ولا تقيّدَ بالرسميات.
رغم أن أمّنا لم تكن بطبيعتها تحتمل الفوضى أو الإخلال بالنظام، فإنها لم تحاول يوماً أن تخمد ثورة أحدنا أو أن تستخفّ بآرائه وهي التي تحترم آراء الجميع من كبيرنا إلى صغيرنا. كانت تؤمن بأن مهمتها التربوية تتطلّب مجاراتنا والاستماع إلى أفكارنا وأمانينا، وليس إملاء القواعد علينا أو التبشير بالأخلاقيات. كان التَسعُّد، كما ذكرت، من أجمل صفاتها. فهي ترتّب لقاءاتنا ثم ترعاها فتوافق مع هذا وتخالف ذاك وتبدي رأياً من دون أن تفرضه فرضاً، وتقدّم نصيحة لمن أراد أن ينتصح».
هذا الحنين إلى الماضي وإلى رغد عيش ولّى ليس إلّا من باب الاعتراف بالقصور عن تحقيق زواج هانئ وبإدراك أنّ الرومنسيّ الحالم يصطدم بالواقع الصلد متى لجأ أحد الطرفين إلى خداع الآخر. وهنا، وفي هذه الرواية جنوح السفير المفرط إلى الغرام والحبّ والجنس خارج إطار الرباط المقدّس، فاكتشفت في مرحلة مبكرة مدى مخاوف زوجها الدائمة الناتجة عن شخصية معقّدة تميل إلى الاكتئاب والتشاؤم، فأخذت تراقبه بحذر. وكلّما فكّرت بالطلاق ردّها أفراد أسرتها عن مبتغاها.
ورندة الخالدي، رغم معاناتها الشخصيّة، تعزّي نفسها برؤيتها فلسطين حلماً وواقعاً فالقدس دائماً في بالها:
«كم يحزّ في نفسي أن ترتبط مدينتي القدس في ذاكرتي، أكثر ما ترتبط، بالعنف والدماء والخوف المستمرّ والموسيقى الجنائزية والهزيمة والهجرة، والهرب وبأمور أخرى ما زالت تلوّن ذكرياتي المقدسية إلى يومنا هذا. ففي معظم أحلامي عن فلسطين أرى نفسي أمشي على طريق مستقيم نحو سور القدس وعلى جانبيّ الطريق تصطفّ التوابيت وقد فتحت أغطيتها الخشبية لتظهر الجثث المُسجّاة في داخلها.
ولكنّني اليوم أريد أن أدفن تلك الصورة القاتمة واستحضر مدينتي بعاطفة لا تشوبها شائبة. أريد أن أعبّر عن شوقي لهذا البلد المقدّس الذي أتشرّف بأني إحدى بناته، أريد أن أعود بذاكرتي إلى سنواتي الأولى عندما كانت البلاد لا تزال آمنة وكنّا نحن، أولادها الأصليين، نتهيّأ لنقف في مقدّمة الدول العربية المستقلة حديثاً. كنّا وقتذاك نخطّط لشعبنا مستقبلاً مشرقاً رغم وعينا بأننا قد نُحشر في مباراة دامية مع دخلاء أتوا من كلّ أرجاء العالم يزاحموننا في أرضنا ولقمة عيشنا ويخطّطون لتحويلنا إلى لاجئين».
ولمّا أدركت الروائية مدى تعاسة حياتها الزوجية، انصرفت إلى تحليل أسباب الصراع الطويل مع زوجها. فلم يتوقف، بل استمرّ حتى بعد وفاته. فها هي لا تستغرب دفاع هيلاري كلينتون عن زوجها على إثر فضيحة البيت الأبيض بانغماسه برغباته الجنسية مع مونيكا لوينسكي. لكن رأي الروائية يسجّل موقفاً خاصّاً بها:
«لست الآن بصدد المقارنة بين هيلاري وبطلة روايتي، إذ أكون مدّعية لو تماديت بأني أحسد هيلاري رغم كلّ ما قاسته من عذاب. وإن تساءلتم لماذا الحسد من زوجة طُعنت في الصميم، لأجبت أنه بحكم موقعها ومركزها، أتيحت لها الفرص لأن تلعب دوراً بطولياً في العلن، وإن استغرب البشر هذا الدور. بينما لُفلِفت قضية بطلة روايتي ودخلت سجلّ النسيان ثم انطوت من دون أن يصفّق لها أحد أو يمدحها إنسان، أو يشعر معها صديق أو قريب. فسيرة بطلتنا بقيت بطولية!».
أي أن الروائية يؤلمها كيف تمكّن زوجها لعقود من رمي حمله الثقيل عليها فيما هي تبنّت قضية من دون شروط. في «سيرة غير بطولية»، تعيد رندة الخالدي النظر في حياتها الزوجية قرابة نصف قرن، وهي، طال عمرها، على نهج مستقيم من تدوين أسطر حياتها وتأريخها بالنار:
«لست من زائرات المقابر المتحمّسات، خصوصاً أنّني فشلت مراراً في التواصل مع أحبّائي تحت التراب. أقف في التربة إلى جانب قبورهم أتلو سورة ياسين من القرآن الكريم، وأنا أتوقع أن تحصل أعجوبة ما في كلّ مرة. أجد أن اللقاء مع الراحلين يتم بشكل أفضل وأوضح في ملعبي أنا، أي في فراشي أو مكتبي، أو خلال حالة تأمّل بين ورد حديقتي الدمشقية. لا أدخل مقبرة حتى تتنبّه حواسي كافة فأشعر بكلّ ما يحيط بي من بشر وضجيج، ما يُفقدني مقدرتي في التركيز على ما أتيت أصلاً من أجله. أسمع كلّ الأصوات حولي وأرى تفاصيل الأمور بوضوح، كما تشتدّ حاسّة الشمّ لديّ فأشمّ الروائح التي تروق لي وتلك التي لا تروق لي. في كلّ مرّة أخرج وأنا غاضبة، ليس فقط لأنّي أضعت وقتي، بل أيضاً لأنّي فشلت في التقرّب من أحد أحبائي وأنْ لا حولَ لي ولا قوة.
هناك قبر واحد أزوره بانتظام في مناسبات تحمل ذكريات لي ولساكنه. لم يوصني صاحبه بزيارته بعد موته كونه لم يكن هو نفسه يؤمن بالحياة الآخرة، كما أنه ليس أعزّ الراحلين إلى قلبي. رغم كلّ هذا، أراني أتردّد عليه لا على غيره من أحبائي الراحلين، وكثيراً ما أحمل إليه وردة أو اثنتين أتركهما على ضريحه قبل أن أستدير وأعود إلى بيتي، لعلّي أرغب في إنهاء ما لم ننهه من حساب».
يذكر أنّ رواية «سيرة غير بطولية» صادرة عن «بيسان للنشر والتوزيع»، 2016، بيروت.