ثنائية كيري ـ لافروف: قريباً «عندما لا تتكرّر»
روزانا رمَّال
قطبة مخفية أساسية في مشهد الحراك السياسي الدولي يُعتمد عليها في تثبيت وإنجاح المحادثات الكبرى وهي جزء لا يتجزأ من أصل المشكلة في بعض الأحيان، وتتمثل «بهوية» المفاوض وشخصيته وخلفياته وتاريخه السياسي أيضاً مع كلّ ما يحيط بسلوكه عملياً وما تمنحه بلاده من امتيازات، وهذا ما يأتي لاحقاً. فالمفاوض هو نصف «الحل والنزاع» معاً.
الانتقال إلى الجزء السياسي من عمر الأزمات العربية استحوذ جهداً واسع النطاق كسر الأحادية القطبية الأميركية السياسية، وادخل روسيا لاعباً اساسياً فيها لحظة اصبح التركيز الأميركي على التخلص من النظام السوري. فدمشق بالنسبة لموسكو جزء من أمنها القومي، وعلى هذا الأساس عززت العملية السياسية بالمنطقة ورفعتها لأقصى الحدود.
شكّل تمثيل وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف حالة فريدة في الجدية والقدرة على تطويق الملفات ومعالجتها في أدق الظروف وأصعبها وفي بداية النزاعات كانت هيلاري كلينتون وزيرة للخارجية منذ بداية عهد أوباما حتى عام 2013، لحظة كان التغيير.
بهذا الإطار، تقول مصادر دبلوماسية متابعة لـ «البناء» لم يكن تعيين السيد جون كيري بديلاً عن الوزيرة كلينتون موقفاً عادياً ولم يأت هذا من دون خلفية أساسية دفعت بالرئيس اوباما باختيار كيري بديلاً عنها. يتابع المصدر انّ روسيا هي أحد أبرز الأسباب وراء هذا الإجراء، فالروس لم يكونوا مرتاحين للعملية التفاوضية في تلك الفترة بوجودها لا بل اتسمت تلك المرحلة بالتعقيد واللاإنتاجية. ويضيف المصدر عن لافروف قوله «إنّ الأخير أكد انه كان يعاني في جلساته مع كلينتون حول سورية، فهي كانت تتحدّث داخل الغرفة خلافاً لما تعلن عنه خارجها».
وافق مجلس الشيوخ على ترشيح جون كيري وزيراً للخارجية الأميركية في 29 كانون الثاني من العام 2013 وكيري شخصية سياسية وازنة فقد كان مرشح الحزب الديموقراطي لانتخابات الرئاسة عام 2004، التي خسرها بوجه جورج بوش.
ثنائية القرن الدبلوماسية الاستثنائية تحققت دولياً بين الخارجيتين الأميركية والروسية في مرحلة «كيري لافروف»، فتعزيزهما المباحثات وتكثيفها لثلاث سنوات متصلة قدّم اعترافاً أميركياً كأولى النتائج بكسر الأحادية القطبية التي سادت وقدمت معها إقراراً أميركياً بعدم إمكانية التوصل لأي حلّ بالمنطقة بتخطي روسيا. فكانت هذه الثنائية سبباً أساسياً بتبادل الاعتراف بتغيير التوازنات.
الخطورة اليوم تكمن في لحظة ينتظر العالم فيها نتائج الانتخابات الأميركية وما يعنيه هذا من تغيير في طاقم الادارة. وفي هذه الحال فإنّ الوزير كيري لن يكون حاضراً كوزير للخارجية بعد ذلك، ما يعني انّ كلّ الملفات ستسلم الى وزير جديد يحتاج وقتاً كافياً لدراسة عمق القضايا والملفات، وهذا يشكل قلقاً لا يُستهان به. من هنا فانّ الأزمات خصوصاً السورية مرشحة للامتداد اذا ما لم يتمّ حلها عبر هذه الثنائية.
ثنائية كيري لافروف أنتجت مدرسة في تواجه الخصوم، وتفاوضهم، وشكلت حجر اساس انطلاق مفاوضات غير مباشرة «أخرى» عبرها. الاتفاق النووي الايراني كان وليد مساعي هذه الثنائية وهو الاتفاق التاريخي بين ايران والغرب. لم تكن مساعي كيري ولافروف عادية في تلك المحطة، ولم يكن عدد السفرات ذهاباً واياباً الى جنيف تارة والمنطقة طوراً بقليل. لقد بذلت الأطراف جهداً كثيفاً فأبصر الاتفاق النور.
استطاع كيري عنوة خلق ثنائية لافتة أخرى مع وزير خارجية ايران محمد جواد ظريف، وهذا الأخير تعرّض لانتقادات حادة له من المحافظين داخل بلاده بعد اعتراضهم على مشاهد الانسجام و»الضحكات» مع كيري وفسحات التنزه التي كانت تسبق مباحثات فيينا في العاصمة السويسرية بينها في إحدى الحدائق المجاورة لقاعة التفاوض لأكثر من 15 دقيقة حتى اتهم ظريف بالخروج عن اللياقة الدبلوماسية لشدة الريبة التي أحدثها هذا الانسجام.
تقريب وجهات النظر بين الإيرانيين والروس لعب فيها المفاوض الفذ سيرغي لافروف دوراً مفصلياً، لقد استطاعت روسيا عبر لافروف تدوير الزاويا والإمساك بالملف من أقصاه إلى أقصاه.
انتجت هذه الثنائية مؤخراً اعترافاً بعزل «داعش والنصرة» او على الاقل اعترافاً أميركياً بوجود مشكلة في مكان ما لا تمكنه من فرض عناصر التفاوض بالشكل الذي يودّ، فإصرار المفاوض الروسي على عدم تمرير مسألة التسميات والحضور على طاولة المفاوضات السورية وضع كيري وواشنطن عند هذا المنطلق للبداية السياسية الجدية.
الأزمة الأوكرانية بدورها أبرز الملفات التي خطتها الثنائية والتي لا تزال محور أخذ وردّ بين الأميركيين والأوروبيين دون أن تؤسّس لتباعد بين الرجلين في باقي الملفات على دقتها. لا يمكن أيضاً الحديث عن فرادة الثنائية دون المرور على الإخراج الذكي لمصير السلاح الكيميائي السوري الذي كاد يشعل حرباً في لحظة تراجع أميركية مفاجئة كانت لمتابعة الرجلين يد طولى في اختتامها بالشكل الذي جاء عليه بعد تقديم سورية التعاون الكامل وإحراج واشنطن.
نجاحات كيري ـــ لافروف تزيد الامر تعقيداً وتصعب المهمة على الوزير الأميركي المقبل أياً كان وتصعّبها أيضاً على لافروف الذي يحتاج الى انسجام جدي مع «زميله الجديد» يخشى أن يصعب وإلا فانّ التهديد باطالة عمر الازمات مرجح اذا بقيت الملفات السورية واليمنية والعراقية عالقة.
سيودّع العالم قريباً هذه الثنائية التي لن تتكرّر في المدى المنظور.
ثنائية كيري لافروف، مدرسة العلوم الدبلوماسية لأجيال مقبلة.