بيكاسو والموت جرح التواري والعدم
الرباط ـ عبد الله الحيمر
الخوف من مواجهة الموت، جعل الإنسان يخلق فكرة التقويم كوسيلة للقبض على الزمن وجريانه وتدجينه بفكرة الإيقاع الكوني: ولادة، موت، وعودة إلى الحياة.
القبض على جمر لحظة العبورية المباغتة التي يجتازها الإنسان بين الحياة والموت، تلك الهوة التي تفصل بين التواري والعدم وبين الحضور والغياب.
إنه المأزق الوجودي والفلسفي الخطير الذي يواجه الكائن البشري بالأسئلة الصعبة والمحيرة، التي لا جواب لها خارج المعتقد الديني كما يقول كارل رانر: «الموت هو ثمن الخطيئة». هي إذن محاولة بالفنّ سواء باللوحة أو الكتابة، ترفض نسيان الحقيقة وتعانق قسوة مبدأ المواجهة، لأن الموت في حدّ ذاته إشكالية كبيرة في جسد كينونتنا الغارقة في نسيان الوجود.
إن المحو الذي تتمثل فيه بالذات فاعلية الموت لا يستدعي أكثر من احتضان الفراغ. من الانفتاح على تجربة المستحيل واختبار ما تظنه الحقائق أو البديهة عبر إخضاعها لمحكّ الفقدان. ويصبح الموت بمعنى آخر تحرير الحواس من شهواتها والآلام التي تحجب عين الروح. وتصبح «جدّية الموت عبودية الفكر»، كما يقول باتاي.
وهذا ما ذهب إليه الكاتب الفرنسي أندريه مالرو حينما قال: «الفنّ تحدّ للموت» حينما أنشأ مشاريع ثقافية وفنية افتراضية تحفظ التواصل والديمومة مع الآتي إنسانياً. من بينها المتحف الافتراضي الذي يضم أعمال التشكيليين الفرنسيين.
وكذلك ما قاله محمود درويش في جداريته:
هزمتك يا موت الفنون جميعها
هزمتك يا موت الأغاني في بلاد الرافدين
مسلة المصري
مقبرة الفراعنةِ النقوش على حجارة معبدٍ
هزمتك وانتصرت
وأفلت من كمائنك الخلودُ
فاصنع بنا واصنع بنفسك ما تريد!
تعرية وهم
الموت تعرية لوهم الحياة، تعرية للجسد وتطهير للدواخل والأداء الجنسي تواكبه طقوس الموت نفسها، بل كثيراً ما تحضر المرأة مرفقة بأجواء الموت والإثارة الجنسية. وبذلك يمكن اعتبار الموت صنواً للجنس ووجهه الآخر، لأنها وجهات لسلوك واحد يمكن اعتباره جوابا ميتافيزيقياً عن سؤال غائب، أو تجسيداً لسؤال حاضر هو أن اللذة زائلة بينما يظلّ الموت أزلياً. هذا الذي اكتشفه بيكاسو مؤخراً، فأعماله المشبعة الرغبة وبالوساوس الغريزية وهو عجوز عُمراً.
وانقلبت عنده موازين ومفاهيم الإله إيروس فلم يعد منحسراً في غريزة الحب، بل تعدّاه للعلاقة الوطيدة بين الموت وغريزة الرغبة والمتعة. وأصبح إيروس في نظره وهو في آخر أيامه يمكن أن يولد الحياة كما يولد الموت على السواء، ففي الاثنين بالمفهوم الهيليني قوة إبداعية هائلة. وكأن الفن وإيروس كانا قادرين على أن يطردا شبح الموت المحدق ببيكاسو.
من هنا التشكيل الأخير عن الموت للفنان بيكاسو يسائل العين المثقفة، ويملك خاصيّة سؤال التمرين الروحي ليقين الموت المقبل نحونا، ببلاغة بصرية تؤسس لنبوءة طفولة الفن. بخلاف الموت في لوحة «غيرنيكا» التي قال عنها: «الصراع الإسباني هو حرب كردّ فعل ضدّ الشعب والحرّية. حياتي كفنان لم تكن إلا صراعاً لا متناهياً ضدّ ردّ الفعل هذه وموت الفنّ. كيف يستطيع أحد ولو للحظة أن يقول عنّي إنني أدعم ردّ الفعل والموت؟ ففي هذه اللوحة التي أعمل فيها والتي سأطلق عليها اسم غيرنيكا وفي كل الأعمال التي ستليها، أنا أعبّر وبكل وضوح عن مقتي واشمئزازي من الفرق العسكرية التي أغرقت إسبانيا في بحر الآلام والموت». الذي كان بمثابة موقف وصرخة إنسانية في وجه صناع الموت. أما الموت في بورتريه بيكاسو في مواجهة الموت، هو موقف وجودي بامتياز.
بدهشة طفل، رسم بيكاسو معاناته الوجودية وهو يواجه الموت الاستباقي. بعدما قال مرّة: «طوال حياتي وأنا أبحث، كي أرسم كطفل». وهذا ما أكدته ابنته بالوما بيكاسو مؤخراً قائلة: «أبي كان طفلاً كبيراً أدهش العالم».
في لوحة بورتريه «في مواجهة الموت»، أراد أن يطلع الآخرين على كيفية مواجهة الموت، كما تتصوّره الذات الرسامة وتتخيله وتخاطبه. مستمدة من ذخيرته التشكيلية التي طوّرها في مساره التشكيلي الزاخر بالعطاء. بدأ العدّ التنازلي للموت يواجه ذات الفنان الذي طالما رسم الموت في الحروب، وودّع عدداً من أصدقائه إلى الرفيق الأعلى. ما جعل لحظة انتظار الموت تتحول عنده إلى ضغط نفسي وقلق وجودي رهيب. لقد رسم الفنان بيكاسو هذه اللوحة الفاجعة وهو في عمر 92 سنة. كان مريضاً، بدا يحسّ بحصار اللحظات الأخيرة حوله، انعزل عن الناس وخصّص كلّ أيامه الباقية للرسم والنوم العميق. حين صرّح 15 يوماً قبل وفاته لأحد الأصدقاء: «أنت تشتغل؟ حسناً، أنا كذلك اشتغل طوال الوقت».
هذه اللوحة التشكيلية جمعت كل الاتجاهات الفنية التي اشتغل عليها بيكاسو طوال حياته الطويلة من:
التعبيرية: بواسطة ألوان الباستيل الباردة والمتوحشة
الانطباعية: بساطة الخطوط والملامح كالأقنعة الأفريقية.
السيريالية: حركة الاكتاف وهي تتحمل قناع/رأس كبيرة.
التكعيبية: استعمال الأشكال الهندسية في المفردات التشكيلية في الوجه.
في هذه اللوحة مقاربة طفولية مع الموت، بألوان طباشيرية حتى لا تعقد نظرتنا لمضمون اللوحة أو تتلطف من الرثاء الغنائي أو الإيقاع المأسوي لما بعد الغياب.
بورتريه شخصي بكلّ بهائه الطفوليّ، كأن روح الطفل التي تشكل ذاكرة الطفل بيكاسو في لحظاته الأخيرة، وليس العبقري بيكاسو بعظمته وقدرته الفنية الكبيرة هو الذي رسم لوحة في مواجهة الموت. وكأنه يقول مع زرادشت: «أيها النهار… إن سعادتي عميقة وشقائي عميق ولكنني لست إلهاً ولست حتى جحيم إله، وما أعمق أوجاع العالم». فلا شيء أمامنا سوى قناع، طفوليّ بألوان باردة وشاحبة ورمادية، وعيون زائغة وتجاعيد تتشابك معاً، في رسم جنائزية استباقية، فيها سكون ملائكيّ منظّم ومنهجيّ. حرّر النظرة الاستباقية للموت وأهداها لنا متحرّرة من الموت نفسه، بقوة وعنف رمزية الطفل البدائي في دواخلنا. مؤكداً أن الإبداع يندمج دائماً بحميمية مع القوى البدائية للولادة والموت. كما قال الشاعر ريكله: «الفن هو الخروج على كلّ ما هو زمنيّ وعابر ولا يتحقق الوجود إلا بالإشرافات الروحية الخاطفة التي تخترق لحظات العدم واللاوجود». إن عمله الأخير فعل تحرّري في جسد الغياب، لا يبرّر نفسه بالإحالة على موضوع الخلق والإنجاب والتناسل والموت أيضاً، بل ينبغي كضرورة وارتحال دائم في جسد المستحيل، باعتبار الجسد كما قال التشكيلي المغربي محمد القاسمي: «لقد انبثق الجسد من الرموز الكتابية… الجسد ذكاء مكلوم، كلّ جسد هو مركز العالم».
تنتهي يد الفنان بيكاسو، فتفك شيفرة عيون حدّقت كثيراً بالموت، خالقة إشارات فلسفية يوجد معناها في أقصى الروح. ويبني مضماراً من المعنى الاستباقي بهندسة تكعيبية، للسلوك الطوطمي للوجه الإنساني. يقودنا نحو انزياح المعنى الرثائي للوجه لحظة معانقته موتاً ينتهي إلى رمزية الحياة. يستعيد جوهر الأشياء الذاهبة نحو الفناء، يتصرّف كناسك بوذيّ يروي لنفسه ما يعرف عن حكايات الغياب. كان الإحساس الذي ترك لنا بيكاسو البورتريه الأخيرله، إحساساً مبهماً بالثقل الكينوني للدهشة، لمعرفة ما وراء الموت. تاركاً لنا المجال لشرعية سؤال، هل الموت في النهاية احتضان للفراغ أم تحرير من حواسنا ومن شهواتنا وآلامنا التي تحجب عين الروح؟».
مواجهة الموت
الموت في لوحة «مواجهة الموت» حالة من نبوءة لعبة الظلّ يتعانق فيها الأسطوري مع الواقع، نجم عنه جدل تشكيلي لاختراق المادة والتسرب إلى شقوقها أو الخروج منها: احتراق، نبع توتر، تعادل بين سرّ مغلق بغيبية شرقية ولغز مفقود على شكل هيئة استفهام، وصمت ابستمولوجي. تحاول ذات الفنان المتعبة بإحساس نفاذ الذخيرة إلى تجسيد الوداع الأخير لتخليد كينونتها المتعبة.
حفر بأخاديد التواري والعدم وجهه في أواخر التسعين، الذي امتلأ بالرحيل الأخير. بموت وضع الجسد على حافة الإفلاس، إفلاس لا يضاهيه إلا إفلاس البقاء على قيد الحياة. في هذه اللوحة، يتماهى بيكاسو مع عزلته الاختيارية ويسمع لذاته ويرسم فجيعة الرحيل عن عالم أحبه واستمتع به على الآخر وصاغ وصيّته الأخيرة بألوان الديمومة ألوان الطفولة الضائعة فينا. لوحة بورتريه الأخير، بمثابة نشيد الألوان الأخير ليد رسمت الحياة بكل ألوانها وها هي اليوم تواجه مصيرها الفاجع والأليم، بعينين تشبهان عيني تشي جيفارا وهو مقتول في بوليفيا. جاءت هذه اللوحة بجدارة الحياة، وأن الفن الحقيقي لا يموت وأن الفنانين الذين يستحقون هذه التسمية يعيشون طويلاً بعد موتهم. ومن هنا كانت الخربشات الطباشيرية لبيكاسو تمثل نقشاً فرعونياً في جسد الزمن الضائع فينا، بإيقاعات حزينة وبنشيد النوارس للبحار المجهول، إذ يشخصه بعينَي طفل حتى نتمكن من تعيين براءة الوجه الإنساني وملامحه وإفلاسه في مواجهة الموت، حيث يتمثل الموت أمامنا من خلال «كرافيزم» طباشيري، مواجهة طفولية مختلفة عن صورته في المخيل الإنساني.
لقد استطاع بيكاسو بفضل حدس فنيّ متوهّج أن يرسم في «بورتريه مواجهة الموت» الأخير، موتاً مختلفاً. إفلاس كامل لصورة الجسد الحي، في إقامته الدائمة في البياض والمحو والنسيان. فظهر الموت محروماً في هذه اللوحة، من كلّ الأشياء الجميلة التي يتمتع بها الإنسان العادي. كالموت الذي قال عنه محمود درويش في الجدارية:
لا يحيا حياته
لم يتلذّذ بجمال الطفولة
لم يمارس الحبّ مع امرأة
لم ينعم بالأبوّة
ملك مخذول في مملكته.
الغريب في هذا البورتريه هذه القراءة المعكوسة، أن يتلبس بيكاسو صورة الموت أمامه. ويظهر للأحياء أن الموت انتصر على جسد بيكاسو الطيني لكنه هزمه روحياً. وكأنه يقول كما نيتشه في «هكذا تكلّم زاردشت»: «سأظهر لكم الموت الذي تكلّم، الموت الذي يصير بالنسبة إلى الأحياء حافزاً أو واعداً».
ناقد مغربيّ