بين قُمؤ بعض المثقفين ونذالتهم…

د. فايز رشيد

اعتدنا في الساحة العربية على البعض من مدّعي السياسة من المثقفين، الذين يتعاملون معها، ليس كمجال معرفي يحتمل الأخذ والعطاء والتفاعل الإيجابي مع الآخر، من خلال إبداء رأي نابع عن قناعة من يبديه، وإنما كمجال لتنفيث السموم والحقد الأسود الكامن في نفسياتهم، على كلّ الآخرين! هؤلاء، بحاجة ليس إلى «فرويد» واحد، لتحليل شخصياتهم، وإنما إلى علماء من أمثاله، لعلهم مجتمعين، يستطيعون امتصاص بعض السواد والسمّ، من تبادل التأثير المحسوس، بين ما تفكر به عقولهم وبين ما يختزنونه في قلوبهم، البعيدة عن اللون الوردي، بالضرورة، من مظاهر إحباط ينفّسون عنها بما يطرحون.

ترى هؤلاء، في كثير من الأحيان، في هيئات قيادية لبعض الأحزاب، من دون امتلاك المؤهلات الفعلية والنضالية، لما يحتلونه من مواقع. وبعد أن يُتَرَّكون أو يتركون، تراهم انقلبوا 360 درجة على أحزابهم، ليس في التجنّي، فقط، على حزبهم السابق، وإنما في اختلاق أحداث وهمية، نابعة مما فيهم من رغبات «رؤيوية» لتدمير الحزب، تسكن اللاشعور في كلّ منهم. تراهم يحقدون على الأسماء المناضلة، الغني تاريخها عن التعريف، يتهمونها بالجهل. البعض من هؤلاء، يعيشون على دفء منجز يتيم لهم، صادف أن طبعته إحدى دور النشر! وبالتالي، هيّئ لهم أنهم جمعوا الحكمة من كلّ جوانبها، إضافة إلى فلسفة سقراط وأفلاطون وابن رشد وغيرهم معاً!

يقول «سبينوزا»: «إذا وقعت واقعة أو حدث، لا تضحك ولا تبكي ولكن فكّر». مقالتي هذه هي دعوة للتفكير لا التكفير. هناك فارق هائل، بين النقد الموضوعي والنقد الهادف إلى التحطيم والتدمير. تماماً، كما نقد «برينشتين» -الانتهازي، الحركة الاشتراكية الديمقراطية الألمانية ونقد «ميليران» التجربة الأخرى، الفرنسية. هذا النقد لا يخضع لفهم فلسفي عقلاني، وفقاً للشرط الذي وضعه «سقراط» و«أرسطو»، وفي ما بعد، «ديكارت» و«سبينوزا، وغيرهما من شروط للنقد.

إنّ كتابات المعنيين تنمّ عن نقد المعيار اللاعقلي في الظواهر، الخالي من، حتى ملامح اعتبارية لمذهب «كانط»، المعتمد على أنّ بوسع النقدية أن تُفضي إلى معرفة الأشياء التي تتبدّى لنا. فالظواهر، تُعرف من تلك الأشياء، لا من حقيقتها. فهي مثالية، لكنها كامنة وليست متعالية. وتطوّرت إلى نظرية نقد العقل العملي ونظرته للقانون الأخلاقي. وهذا النقد العقلي، لا يكون موضوعياً، ما لم يكن حراً وصادراً عن إرادة مستقلة، وليس خاضعاً لحسابات وعوامل خارجية. بالتالي، فإنّ نقد التهديم والتدمير، هو نقد لا عقلي، خاضع لكلّ المؤثرات السابقة وبضمنها، الحسابات والعوامل الخارجية.

نعم، هناك فرق بين مثقف، ومثقف يدّعي الثقافة! نعم، حتى اللحظة، فإن تعريفاً محدّداً للمثقف لم تجر صياغته، انطلاقاً من الزوايا العديدة التي يتمّ النظر من خلالها، إليه. وانطلاقاً من رؤية دوره: إنْ بالمشاركة في عملية التغيير السياسي، أو في سياسة التغيير المجتمعي. فلطالما تحدث الفلاسفة والمفكرون عن تعريفات وأدوار شتى للمثقف، ومن بينهم «إبن خلدون»، الذي أطنب في استخدام مفاهيم مثل «أصحاب القلم»، «الفقهاء» و«العلماء». والذي أفرد فصلاً كاملاً من مقدّمته، أكد فيه أنّ العلماء من بين البشر، هم أبعد ما يكونون عن السياسة ومذاهبها.

ولعلّ من أقرب التعريفات إلى الواقع، ما ذكره «غرامشي» في تعريفه لمعنى المثقف، منطلقاً مما هو خاص بنمط الإنتاج، لذا، يرى المثقف من خلال وجوده الاجتماعي. وإذ ذاك، فإن نقل الثقافة من عالم الافكار واهتمامات ذوي الاختصاص، إلى عالم الصراع الاجتماعي، هو الذي يعيد صياغة المثقف عند «غرامشي»، الذي لا يرى المثقف إلا في وظيفته النضالية، التي تجعل من الممارسة لحظة داخلية في مجمل عملية التغيير، وهكذا.

ووفقاً لجمال الدين الأفغاني، فإنّ دور المثقف يتمثل في التأمّل في الحاضر، من أجل تفسير النبل الإنساني، وإضاءة الطريق لأبناء أمته، على قاعدة التمتع بالروح النقدية واستخدامها في مراجعة الماضي. والمثقفون مرتبطون، أيضاً، في نتاجاتهم، بمدى معايشتهم للواقع، من حيث إدراكه ومدى التأثير فيه، بالاتجاه الإيجابي بالضرورة. المثقف الأصيل بعيد عن النقد بهدف النقد وإثبات فشل الآخر وضحالته! نسأل واحداً من هؤلاء، لماذا لم ترتق بنمط تفكير الجهة التي كنت تنتمي إليها، أثناء وجودك في هيئتها القيادية؟

نرى بعض المثقفين، ممّن يعملون على تسييد السالب في الوقائع! رغم أنّ إحدى الحلقات المركزية في دور المثقف، هي نقد الثقافة السلبية، التي تحاول التسيّد كظاهرة، بغية تخليصها من الانحرافات التي تمنعها من تحقيق قيمها على أرض الواقع. كذلك، فإنّ دور المثقف يكمن في تطوير العوامل الإيجابية في الثقافة، من أجل العمل على امتدادها أفقياً في المجتمع، ومنهجتها في مؤسسات من أجل تحويلها إلى ممارسة عملية واقعية معاشة. وواجب المثقف، التصدّي لما يحاول العدو الصهيوني تسييده من ثقافة الانتصار له، وثقافة هزيمة للخصم، الذي هو نحن الفلسطينيون والأمة العربية بكاملها. واجب المثقف الأصيل، التصدي للعولمة الثقافية، التي لا تستهدف الحوار بين الثقافات، بل تسييد الثقافة الغربية، لأنّ منظومة علاقاتها هي التي أثبتت كفاءتها وفقا لـ «فوكوياما» ووفقاً لصراع حضارات «هنتنغتون». هذا بالطبع، دون التمترس وراء شعارات مثل: ادّعاء المحافظة على الأصالة التراثية، وإغلاق العيون عن كلّ جديد. بل يمكن المواءمة ما بين الأصيل القديم، والبعض من العناصر الإيجابية الجديدة، التي في المعادلة النهائية، تستطيع أن تقدم أفضل خدمة للأصيل القديم.

لكلّ ذلك، فإنّ مقولات مثل: اللاجدوى من المقاومة، عبثية المقاومة، اللايقين، وغيرها من المقولات، كانت قد أخذت تنتشر منذ سنوات، وتجد صدى لها لدى بعض مدّعي الثقافة، من الحاقدين على كلّ ما في الوجود، وصولاً، حتى، إلى أنفسهم. الاحتكار هو أبرز الظواهر السيئة! لا ولن يخلق أحد يحتكر الفهم، ذلك في اعتقاده، وحيداً، وكلّ الآخرين لا يدركون شيئاً. إنها النرجسية التي قتلت، وستقتل صاحبها بالضرورة.

جوهر كلّ ما سبق، يوحي، بأننا نشهد وسنشهد الكثير من المظاهر الواردة في عنوان المقالة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى