زاسيبكين: نقدّم نموذجاً لتحالفات تقوم على المصداقية واحترام السيادة ومصالح روسيا تتحقق بتحالفاتها أكثر مما تفيد واشنطن حلفاءها ويفيدونها علي عبد الكريم: سورية معرّضة دائماً للاستهداف لكن حرصها على معنى الكرامة جعلها علامة يُستهدى بدورها وقيادتها عتريسي: إيران بنت قدراتها الذاتية تحت شعار «الاستقلالية» واستفادت من تجربتي الصين وروسيا نور الدين: الذهنية التركية قائمة على العداء لكلّ الجوار والاحتماء بالغرب باعتباره نموذجاً…
عن الاستراتيجيات الكبرى وموقع ودور الدول والقوى الإقليمية والدولية، في ما يجري وتشهده المنطقة من حروب ودمار وتهديدات تطال وجود البلدان وكياناتها، خصوصا، تقاطع أو تضارب مصالح الدول العظمى والكبرى، ومدى جديتها وفاعليتها في التغييرات التي يشهدها العالم والمنطقة، على أرض الواقع، كانت الندوة التي نظمتها «البناء» في مكاتبها، بالتعاون مع قناة «توب نيوز»، تحت عنوان: «الشرق الأوسط في عالم يتغيّر عشية الإنتخابات الرئاسية الأميركية».
شارك في الندوة بعض أصحاب العلاقة «المعنيون بأحداثها» كالسفير الروسي ألكسندر زاسيبكين والسفير السوري علي عبد الكريم علي، ومتابعون وخبراء بموضوعاتها، كالدكتور طلال عتريسي والدكتور محمد نور الدين، وأدارها رئيس تحرير «البناء» النائب السابق ناصر قنديل، بحضور عدد من الزملاء.
قدّمت الحلقة الأولى من الندوة صورة شاملة عن المشهدين الدولي والإقليمي، وما يمكن ان يقدّماه من وقائع لما يدور وينتظر العالم، ومعرفة من يحكم العقل الأميركي. كما لا يمكن قراءة هذه المشهدية للتحوّلات الدولية من دون رؤية موقع روسيا وصعودها السياسي والعسكري والاقتصادي في عهد الرئيس فلاديمير بوتين، كأحد أهمّ صناع السياسة العالمية راهناً.
هذا «العالم الجديد» الذي يتكوّن، كشف دور الصين المؤثر والوازن في الساحة الدولية، من خلال «مسارحها» المتعددة في السياسة والاقتصاد والقوة العسكرية، وها هي تؤسّس مع روسيا «وحدة» عسكرية وازنة بعدما دخلت في علاقة تقوم على المصالح المتبادلة مع إيران، وشكل هذا الثلاثي، توازناً مهماً في سورية، وأمام قوى العدوان المكّون من الغرب والرجعية العربية وتركيا. ما يدفع للتساؤل عما إذا دخلنا إلى العالم المتعدد الأقطاب بعدما رسمت الازمة السورية معالمه الجديدة؟
وبدت تركيا وإيران في المنطقة، لاعبين إقليميين كبيرين. وإذا كان حجم حضور إيران الاقليمي وتفاهمها على الملف النووي مع الغرب في رؤية أهدافها قد أكد دورها ومكانتها في صناعة التوازنات الجديدة في سورية واليمن، فإنّ الانقلاب التركي الفاشل أدّى إلى بدء مراجعة مكانة تركيا ودورها قبل الإنقلاب وبعده، إضافة إلى ما تشكله الحالة الكردية من خطر داهم على بنيتها المجتمعية القائمة، إلا أنّ محاولاتها التموضع في منتصف الطريق بين الحلفين المتقابلين في سورية، لم يدفعها للاستقلال عن محور الغرب. كما أنّ حجم التحولات التي ترتبت على مواجهات السنوات العشر الأخيرة والتوازنات الجديدة التي ستحكم العالم والمنطقة. يدفع إلى أهمية الاسئلة عما اذا كانت آفاق الحلول السياسية التي ستتمّ بشراكة أميركية – روسية، هل ستأتي قبل أم بعد الإنتخابات الرئاسية الاميركية؟
وعندما نتحدث عن الشرق الأوسط والدور الأميركي، يتبادر إلى الذهن فوراً الدور الروسي في المواجهة، فالمشروع الغربي، الآني، يسعى إلى تفكيك الدول، ليس في بلادنا المقسمة أصلاً،، بل كانت بدايته من أحداث يوغوسلافيا، مروراً بجورجيا وأوكرانيا، وفي كلّ المراحل في منطقتنا العربية، خصوصاً بعد «الثورات الملونة»، التي أشعلت النيران في أكثر من بلد عربي. فوجد الروسي نفسه مستهدفاً بما يجري، ونتيجة لتجربته «بات يدرك حقيقة هذه المشاريع ويقف ضدها ويعارض أيّ عمل لتقسيم الدول». لذلك، حسب سفيره زاسيبكين، فإنّ تمسكه بالشرعية الدولية يعطيه قدرات على المواجهة، وهذا التمسك بالشرعية الدولية، يجعل حديثه حديث أخلاق ومبادئ وقيم، وليس حديث مصالح فقط، إذ «لا يمكن لأيّ إغراء أن يغيّر ثوابتنا ومبادئنا وتحالفاتنا وتمسكنا بالشرعية الدولية».
وعند الحديث عن مشاريع الغرب التخريبية والتقسيمية، تتجه الأنظار نحو سورية التي دائماً كانت معرّضة للاستهداف، وكان دائماً حصنها حرصها على معنى الكرامة، التي أصبح مرادفها، الآن، في المعايير الدولية والشرعية، السيادة. وكانت سورية، دائماً، بقيادتها ونخبها وأحزابها علامة يستهدى بدورها وقياداتها. ولذلك صمدت سورية، على الرغم من أنّ الولايات المتحدة استنفذت أقصى الخيارات، فهي ذهبت إلى الحرب والاحتلال المباشر. واضطرت، بعد عشر سنوات من احتلال العراق، إلى الانسحاب مكرهة. وهي تمارس في سورية ما سبق أن مارسته في أفغانستان، من استعمال التكفيريين و«الوهابيين» لخوض معاركها. لكن لسورية حلفاء لم يتركوها أولهم إيران التي بنت قدراتها الذاتية تحت شعار «الاستقلالية». واستفادت من تجربتي الصين وروسيا. والحلفاء، استفادوا من إيران، باعتبارها حاجزاً أمام النفوذ الأميركي. وساهمت إيران بضرب العدوانية الاميركية والتمدّد والاحتلال الأميركي، لأكثر من بلد في العالم. وها هي تقف مع سورية في وجه الحرب التي تستهدف وحدتها وخياراتها السياسية.
ولا يغيب الدور التركي، الذي شكل عاملاً بالغ السلبية في الحرب على سورية، خصوصا أنّ الذهنية التركية قائمة على العداء لكلّ الجوار والاحتماء بالغرب باعتباره نموذجاً. لذلك اعترفت تركيا بـ «اسرائيل» وانضمّت للمجلس الاوروبي وحلف الأطلسي، وهي منذ سنوات تطلب الانضمام للاتحاد الأوروبي. والأتراك ينظرون للعلاقة مع الغرب، على أنها هي من تحمي بلادهم من التهديدات، خصوصاً عداوتهم التاريخية مع الجوار، التي لا يحميهم منها الا اللوبي اليهودي في اميركا و«الناتو».
في خضمّ كلّ هذه التحوّلات، تبقى فلسطين في قلب الحدث العربي والقومي، وفي مستقبل الحلول والحروب المقبلة.
استهل قنديل الندوة بسؤال وجهه إلى السفير زاسيبكين: هل المواجهة التي تدور منذ العام 2000، أي بداية صعود روسيا الجديدة، بقيادة الرئيس بوتين، هي توجيه رسالة إلى العالم، بأن السنوات العشر التي أعقبت سقوط جدار برلين، كانت سباتاً مؤقتاً وليس حالة مستمرة يمكن البناء عليها، وأن روسيا عائدة لتلعب دورها على الساحة الدولية؟ وهل أن ما نشهده منذ العام 2000، والعدائية الأميركية الهجومية على الساحة الدولية، بداية بحربي العراق وأفغانستان، والحرب على لبنان باليد الاسرائيلية، وانتهاءاً بالحرب التي نشهدها على سورية، والعقوبات على إيران وروسيا. والمشهد المرتسم، منذ ذلك الوقت، هو «عدة للحرب الباردة»، كما يطيب لمحللي الغرب أن يصفوها. أم هو الاشتباك بين مفهوم الهيمنة، الذي تمثلة أميركا، ومفهوم الدولة المستقلة بقوة العظمة، التي تمثلها روسيا، تعطيه مساحة واسعة، لكن تبقى تدافع عن مكانتها وترسم مكانتها كدولة مستقلة. وهذا الذي يجعل الصين وروسيا وإيران وسورية، من مواقعهم الايديولوجية المختلفة، ومصالحهم السياسية، التي ليست بالضرورة واحدة، يعبرون عن فكرة واحدة، هي أن الدولة المستقلة تكسر هذا المفهوم النمطي للعولمة، الذي أرادت الولايات المتحدة فرضه. وبالتالي، الفشل الاميركي في أفغانستان هو بشكل ما انتصار لمفهوم الوطنية المحلية، أي عجز العالمية عن فرض ارادتها. ثم العراق ولبنان، ثم حالة المقاومة التي تجري الآن في سورية وحتى الحالة التركية، بنسبة معينة، يعني أن تذهب تركيا، بعد التجربة مع الاميركيين، إلى أن تتصرف كدولة مستقلة، يعني ليست، بالضرورة، مع روسيا ولا مع اميركا. بمعنى أن تختار ما يناسبها من «الصحن» الموجود على الطاولة. وهذا تعبير عن مفهوم الدولة المستقلة، كما هي إيران وملفها النووي.
كيف تقرأ روسيا هذا الوضع، المستجد، على الساحة الدولية، ومكانتها ورؤيتها للعب دورها كدولة عظمى، تريد استعادة مكانتها المفقودة بعد عشر سنوات من الانتقام الأميركي، ومحاولات كسر إرادتها وإذلالها، أم أنها الدولة القائدة لمفهوم السيادة الوطنية والعودة لمفهوم الاستقلال الوطني؟
مفهوم سيادة الدول
زاسيبكين: كل ما تفضلت به صحيح. لكن مفهوم الهيمنة والدول المستقلة شيئ أعمق من مصطلح الحرب الباردة. وروسيا اليوم، ترى أن من واجبها تحريك العمل على مفهوم سيادة الدول. ونحن عندما رأينا المحاولات المتكررة، باشكال مختلفة، للعمل على إسقاط الأنظمة الشرعية، والقيام بما يسمى «الثورات الملونة»، وقفنا، بكل حماس، للدفاع عن الدول الوطنية. ونعتبر أن هذا المشروع الغربي، الطويل الأمد، لتفكيك الدول، بدأ من الاحداث في يوغوسلافيا، مروراً بالشرق الأوسط وأوكرانيا. ونحن نجد اليوم، أكثر فأكثر، العديد من الشركاء حول العالم، الذين يوافقون، بشكل أو بآخر، على أولوية الدفاع عن المصالح الوطنية لهذه الدول، لأن المستقبل سيكون مجهولا بالنسبة لهذه الدول، إذا لم تقف ضد هذا المشروع. ونحن، نتيجة تجربتنا، بتنا ندرك حقيقة هذه المشاريع ونقف ضدها.
قنديل: كيف يمكن لروسيا أن توفق بين الصفتين اللتين تمثلهما، الأولى، أنها دولة وطنية حليفة لكل من يحمل راية الدفاع عن سيادته الوطنية، وبالتالي، هي تتضامن وتساند مسعى هذه الكيانات في الدفاع عن سيادتها الوطنية. وبين أنها، في نهاية المطاف، هي في الركن الثاني المقابل لأميركا في المعادلة الدولية الكبرى، التي تترسخ في القرارات الصادرة عن مجلس الأمن، بتفاهمات أو تسويات، وفي كل هذه التسويات، في نهاية المطاف، تنازلات متبادلة ومصالح متبادلة. ألا يوجد تضارب بين الصفتين؟ والآن، هناك تجربة روسيا في سورية، وقبلها تجربتها في الملف النووي مع إيران. فإلى أي مدى يؤدي هذا النوع من التباين، بين الدورين، إلى سوء فهم؟ هنالك، من يقول، الآن، مثلا، أن روسيا تأتي لتدافع عن مصالحها، وبالتالي، عينها على النفط والغاز في الشرق الأوسط، وتطلعاتها أبعد في المياه الدافئة، وهي تدافع عن أمنها القومي، لأن الارهاب إذا استفحل في سورية، فسيدق أبواب الكثيرين. وإن المسألة ليست مسألة أخلاقية فقط، بل مسألة مصالح أيضاً. السؤال: أين تقف حدود المصالح، وأين تتحول الأخلاق إلى مصلحة؟ بمعنى كيف لنا أن نجمع، بمقاربة شاملة، هذه العناصر الثلاثة: دولة عظمى تفاوض دولة عظمى أخرى، تتعرض لمشروع رشوة، كما حدث، مثلا، خلال زيارة بندر بن سلطان إلى روسيا، وما قالته الصحافة، يومها، أنه عرض على الرئيس بوتين 100 مليار يورو، كاستثمارات لتغير موسكو موقفها مما يجري في سورية. يومها رفضت روسيا، هل لأن مصالحها أكبر، أم لأن رؤيتها الاستراتيجية لمدى أبعد؟
التعددية القطبية
ـ زاسيبكين: هناك تغيير جوهري حصل، إختلف عن عهد الاتحاد السوفياتي، عندما كان هناك قطبان ونحن كنا نلعب لعبة المعسكرين. اليوم هناك عالم متعدد الأقطاب، وهناك أطر مختلفة نحن نشارك فيها. اليوم هناك قطب: الولايات المتحدة وحلفاؤها، بما يمثلونه من قوة اقتصادية وديمغرافية. وهناك الصين، و«البريكس» وشنغهاي. وهناك العلاقات الواسعة لروسيا مع الجميع، الذين يعترفون، كما قلنا، بأولوية سيادة واستقلال الدول، والحفاظ على الدول الوطنية. تمسكنا بالشرعية الدولية يعطينا قدرات، ولا وجود لأي مبلغ يمكن أن يغير ثوابتنا ومبادئنا وتحالفاتنا وتمسكنا بالشرعية الدولية. ولذلك، نحن سنواصل هذا النهج الاستراتيجي وجوهره الشرعية الدولية والثوابت الاخلاقية، تضاف له، القدرات الدفاعية والاعتبارات الأمنية والاقتصادية.
الكرامة هي السيادة
-قنديل، للسفير السوري علي عبد الكريم علي: سورية تقدم الآن نموذجا نادرا بأن تكون دولة بهذه الامكانات والقدرات، تحافظ على سيادتها واستقلال قرارها، وتكون لاعبا وشريكا في صناعة ما يجري، وما سيجري فوق ترابها الوطني. وهذا لم نشهده من قبل. نحن اعتدنا أنه إذا ما أرادت أميركا تحويل بلد ما إلى ساحة، ولو كان حجمه ومساحته وقدراته أكبر من قدرات سورية، في النهاية، دولة، هذا البلد، تضمحل وتظهر قوى بديلة من المجتمع، تبدأ مقاومة وتتصدى وتشكل جبهات وطنية، وفور الدخول الأميركي إلى هذا البلد، تنشأ حكومة تابعة وعميلة، كفييتنام ولاوس وكمبوديا، وحتى تجربة العراق، مع محبتنا وتقديرنا لبعض الشخصيات الوطنية التي شاركت في المجلس الانتقالي، لكنها كانت تحت الامرة الأميركية. اليوم سورية تقدم شيئا جديدا، فقبل أن يستنهض الحلفاء قدراتهم، وتدخل روسيا بهذه القوة، وتكون إيران شريكة في الدم والقدرات. وقبل أن يكون حزب الله حاضراً، هل هذا النموذج هو فرادة سورية ومعجزة سورية؟ أم نحن نشهد، فعلاً، بداية عصر جديد هو عصر الدولة الوطنية؟ بمعنى أنها ستكون نموذجا يؤسس لمستقبل في السياسة الدولية؟
-علي: سورية استجابت لواجب وطني ورؤية تقتنع بها الدولة، قيادة ونخبا وجيشا وشعبا، ولم تكن تطمح لتكون نموذجا يُقرأ منه ما تفضلت به. فالغائية التي وصلت اليها التجرية شيئ، ولماذا وقفت سورية وما الذي بنت عليه، شيئ آخر. فسورية، بالأصل، قبل هذه المؤامرة المركبة والمعولمة، وعلى امتداد التاريخ، كانت تواجه المؤمرات، لكن المؤامرة اليوم هي الأكثر تعقيداً. فهي، في السبعينيات والثمانينيات، واجهت الارهاب الأسود وبهجمة شرسة. لكن كانت الشروط، يومها، أقل قسوة تجاه سورية ولو بدرجات ليست كبيرة. كانت القوة الأميركية شريكة، و«إسرائيل» والرجعية العربية وضعتا كل ثقلهما. والرجعية المحلية السورية، كانت وظفت كل طاقاتها في هذا الاتجاه. وقبل أن يكون الرئيس المرحوم حافظ الأسد، في مراحل الاستقلال الأولى وحجم الانقلابات المتتالية والاستهداف الاستخباري الغربي لسورية. وحتى في زمن الاستعمار التركي الطويل، كان هذا الاستهداف، لكن، كان هناك حرص على معنى الكرامة، التي أصبح مرادفها، الآن، في المعايير الدولية والشرعية، هو السيادة، وكانت سورية دائماً بطلائعها ونخبها وأحزابها علامة يستهدا بدورها وقياداتها. سورية، التي واجهت «الاخوان» والمؤامرة في السبعينيات والثمانينيات، أخذت العبر واستفادت من تجربتها. فبني الجيش والمؤسسات بناء محكما. وكانت سورية تستورد القمح يومها، ورأينا كيف، في فترة الحصار، جرى التغلب على هذا الحصار، وصارت سورية تملك مخزونا استراتيجياً، يكفي لخمس سنوات من القمح ومن السلع الأخرى. وكيف تحولت سورية إلى بلد يصدر القمح. كما تحولت إلى بلد متقدم، عن معظم دول المنطقة، في صناعة وجودة الدواء، الذي ينافس أكبر دول العالم.
قنديل: القصد هنا الاضاءة على مفهوم الدولة.
-علي: نعم. هذه المواجهة سمحت لسورية ببناء قدراتها الذاتية، بشكل مكنها من أن تتخذ مثل هذا الموقف. فبنت مؤسساتها التعليمية وجيشا عقائديا وطنيا. والقيادة السورية، هي عبارة عن تراكم خبرات ومواقف، إضافة لقدراتها وخبراتها. فالسيادة، بالنسبة لها، أساس. لذلك استقوت ببنيتها، فهي عرفت على ماذا تتكئ.
قنديل: نحن نتحدث اليوم عن خريطة إقليمية ودولية جديدة. وسورية واحدة من هذه القوى الصاعدة، في هذه الخريطة، من قلب محنة وحرب طاحنة فيها دول إقليمية وعظمى. ألم تشعر سورية أنها، في ظل الحرب، وعلاقتها مع روسيا وإيران، أنها تنتقص شيئا من سيادتها؟ وهل تشعر سورية، أن مفهوم الدولة الوطنية، قادرة على أن تمارسه تجاه حلفائها، بود وباحترام؟ فنحن، مثلا، سمعنا خلال الفترة الماضية، عن مشروع الفدرالية الذي تم تداوله من قبل بعض الخبراء الروس، لم يتم تبنيه بشكل رسمي، لكن تم تداول الأمر. كما استمرت العلاقة مع المجموعات الكردية، فترة، من قبل الروس. والآن، عودة العلاقة مع تركيا. الكثيرون يطرحون السؤال، أنه إلى أي مدى دولة في قلب الحرب، بحاجة لتحالفات، يمكن أن تكون مبدئية أو مصلحية، ويمكن الاثنين معاً، تستطيع أن تحمي مفهوم الدولة الوطنية والسيادة؟ وهل تشعرون أنكم مع حلفاء يحترمون قراراتكم السيادية، تستطيعون أن تخالفونهم الرأي، ويكون هناك بينكم هوامش مختلفة في قراءة الأمور؟
-علي: نحن نستفيد من قراءة تاريخ العلاقة مع هذه الدول الصديقة والحليفة، في الماضي، تعرضت سورية لمثل هذا الاختبار الصعب. مثلا، عندما واجهت العدوان «الاسرائيلي» أكثر من مرة، وكان هناك حصار خانق، فهي حافظت على سيادتها، وكان هناك اتفاق التعاون والصداقة مع الاتحاد السوفياتي، قائماً. وكان احترام العلاقة والسيادة للبلدين، مع فارق الحجم والقوة والامكانية، كان مضموناً. وعندما تعرضت العراق الشقيقة للعدوان الأميركي، كلكم يذكر، أن سورية هي البلد العربي الوحيد، الذي وقف بوجه هذا القرار. وهي لم تبارك ولم تسهل فقط، بل احتضنت المقاومة العراقية.
– قنديل: رغم ان الموقف الروسي، وقتها، كان مختلفا والموقف الإيراني كان مشجعا.
– علي: نعم. يومها لم يكن الاتحاد السوفياتي. روسيا كان موقفها مختلفا. وتركيا في حلف الأطلسي. والموقف الإيراني لم يكن بالوضوح كالآن. ومع ذلك، كان موقف سورية ثابتاً وواضحاً.
– قنديل: وبالتموضع الحالي؟
– علي: بالتموضع الحالي، ومع كل القوى الحليفة، سورية هي نفسها، في الأمس، وفي اليوم، وفي المستقبل. وهي تقدر لروسيا أنها تحترم سيادة سورية والعلاقة بينهما.
– قنديل: لهذه الدرجة لديكم ثقة بروسيا؟
– علي: أولاً، الرئيس بوتين والقيادة الروسية، من البداية، كانت توائم بين المصالح والمعاني الاخلاقية التي تحدث عنها صديقي، سعادة السفير زاسيبكين. وبالتالي، روسيا لها مصالح عبرت عنها، وهي تدافع عن الداخل الروسي عندما تقف إلى جانب سورية. وهي تحترم سيادة الدول والشرعية الدولية وتستقوي بها.
– قنديل: يعني أن روسيا، ترى أن طريق خدمة مصالحها يتم من خلال التعامل الندي والسيادي مع الحلفاء؟
– علي: نعم. وهذا ما دأبت القيادة الروسية، على طول الخط، على التصريح به: إننا نحن حضرنا إلى سورية استجابة لطلب الرئيس الأسد والشرعية السورية وبالتالي، لا يحق لتركيا التدخل إلا من خلال التنسيق مع القيادة الشرعية في سورية. وهذا ما تخاطب به أيضا، الدول الغربية. والرئيس الأسد، هو الرئيس الشرعي المنتخب. وبالتالي، هو أمر تحفظه وترعاه القيادة الروسية. ولا تتخلى سورية عنه، ولا ترهق روسيا سورية بأن تطلب غيره. فهناك تنسيق واحترام ومراعاة لحاجات كلا الطرفين. وروسيا تحتاج لأن تستثمر مواقفها الاخلاقية قي سورية. وهذا الأمر يزيد في شعبية الرئيس بوتين، داخل روسيا. ويزيد من احترام روسيا في أوروبا. ولذلك، البيع والشراء الأميركي لحلفائها وأصدقائها، يضعفها ويقوي من الورقة الروسية والأوراق التي بيد القيادة الروسية. ويزيد من ثقة سورية بنفسها وبموقفها وبجيشها. ولذلك، لا أرى تناقضاً ولا ارتهاناً.
– قنديل: … وهذا ظهر جلياً في الانتخابات النيابية التشريعية الأخيرة، عندما بدى أن هناك نصيحة روسية بعدم إجراءها، وإصرار سوري على إجرائها في الموعد المحدد.
– علي: وباركت روسيا موقفنا. والأمر يسري على إيران أيضاً، فهناك تكامل بالمقدار نفسه.
استمرار العدوانية الاميركية
– قنديل: دكتور طلال عتريسي، إيران الدولة الاقليمية العظمى، الصاعدة إلى مصافي الدول الكبرى. إيران بمفهوم الدولة المستقلة منذ بدايات الثورة: لا شرقية ولا غربية. وهي سعت لتكوين هوية مستقلة، تعبّر عن ذاتها بشكل مختلف. كيف تقرأ تشكيل نظام دولي جديد، في ضوء العلاقة الإيرانية الروسية – الصينية، خصوصاً ونحن نقترب من استحقاق قد يكون أهم من الانتخابات الأميركية، هو انسحاب آخر الوحدات من الجنود الأميركيين من أفغانستان. ما يعني، أنه، للمرة الأولى، منذ انتصار الثورة في إيران، سنشهد موعد تلاقي روسيا والصين وإيران في البر الأفغاني. ما يعني امتداداً روسيا – صينياً عبر إيران إلى الخليج. وعبر إيران والعراق إلى سورية، امتداداً إلى المتوسط؟ هذا اللاعب المحوري الذي اسمه إيران، هل ترى إمكانية أن يكون شريكاً مع روسيا والصين وسورية، في صد الهجمة الأميركية فقط؟ وبعدها، يعود كل منهم إلى ملعبه الخاص؟ أم نحن أمام منظومة تذهب، أكثر فأكثر، نحو التكامل وتأسيس نظام عالمي وإقليمي جديد؟
– عتريسي: أعتقد أن ما جرى على المستوى الدولي والاقليمي تم على مراحل. مراحل يمكن أن نسميها مراحل هجوم ومراحل تراجع، خصوصاً على المستوى الأميركي. فالثابت الذي حكم سياسات الدول، مثل روسيا وإيران، هو العدوانية الأميركية. فالأميركان، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو، حافظوا على «الناتو». والمنطق يقول، أنه لا داعي لاستمرار الأطلسي، طالما سقط الحلف الآخر. الحلف استمر، لأنهم أرادوا تطويق روسيا وإذلالها ومنعها من أن تتحول لقوة كبيرة في المستقبل. وهذا من الثوابت الأميركية، في منع أي قوة اقليمية، أو دولية، من أن تهدد النفوذ والسطوة الأميركية في العالم، أو في الاقليم. وفي المرحلة الأولى، كان انتصار الثورة الاسلامية في إيران، ضربة كبيرة للوجود الأميركي في المنطقة. وتبعه احتلال السوفيات لأفغانستان. وفي نهاية التسعينيات، استعادت الولايات المتحدة هجومها بالقتال في افغانستان، كما تفعل الآن في سورية. وانتهت الثمانينيات بتفكك الاتحاد السوفياتي. وكان هذا انتصارا كبيرا لواشنطن. وأعلن بعدها التفرد بادارة العالم والقطبية الواحدة. فالولايات المتحدة، دخلت في مرحلة هجوم. والتسعينيات كانت مرحلة تطويق لإيران، وتطويق مزدوج للعراق، وصولاً لعام 2000 2001، عندما بدأنا بمرحلة الحرب على الإرهاب، التي كانت ذريعة لاستمرار هذا الهجوم. من جهتها، إيران عملت على بناء قدراتها الذاتية، تحت شعار ثابت وواضح هو «الاستقلالية». وهذا شيء ثابت في استراتيجيات تكوين الدولة الإيرانية. وفي الوقت نفسه، عملت على التعاون مع الحلفاء. واستفادت من تجربتي الصين وروسيا. والحلفاء، أيضاً، استفادوا من إيران، باعتبارها حاجزا أمام النفوذ الأميركي، للوصول إلى هذه المنطقة. وبعد هذه المرحلة، ساهمت إيران، بشكل كبير جداً، بضرب العدوانية الاميركية والتمدد والاحتلال الأميركي، لأكثر من بلد في العالم. فبعد 2001، احتلت أميركا أفغانستان والعراق، والإثنان على حدود إيران. وهذا يحصل للمرة الأولى بعد الاحتلال الأوروبي للمنطقة. وكانت أول مرة يأتي فيها جنود أميركا ليحتلوا هذه المنطقة. فإيران، ساهمت، من خلال دعم المقاومة في كل هذه المنطقة، بردع النفوذ الاميركي وجعل الاميركان يصطدمون بحائط.
الأميركي استنفذ خياراته
– قنديل: أنت قلت أن الأميركي كان في حالة هجوم. هل نستطيع، الآن، أن نقول أنه انتقل إلى الدفاع، أم ما زال في مرحلة الهجوم. أم نشأ توازن؟
– عتريسي: أنا أعتقد انها لم تعد بالقدرة الهجومية نفسها، لأن القوى الاخرى أصبحت تمتلك أدواتا ومواقع، وأفشلت هذا الهجوم في أكثر من مكان. لكن لاتزال هذه القوى في موقع الدفاع.
– قنديل: هل هذا بسبب السياسات التي اعتمدت، والتي لم تكن عدائية بما يكفي، وفق رأي بعض الأميركيين، بالنظر لادارة أوباما. فهل هناك خشية من العودة إلى الهجوم أم هو استنفاذ للمقدرات والخيارات؟
-عتريسي: أعتقد أن الولايات المتحدة استنفذت أقصى الخيارات، فهي ذهبت إلى الحرب والاحتلال المباشر. واضطرت، بعد عشر سنوات من احتلال العراق، إلى الانسحاب مكرهة.
-قنديل: أنت تعتقد الآن أن إي تفاهمات يمكن أن تنشأ على المستوى الدولي والاقليمي، هي أقرب لتفاهمات تأسيسية لنظام دولي واقليمي جديد، اذا نشأت؟
– عتريسي: مؤشرات المشاركة الدولية موجودة اليوم. لوكان بإمكان الولايات المتحدة أن تدير، أو تحل، الأزمة السورية لوحدها لفعلت ذلك. إذا لماذا هي تنتظر الروس؟ واليوم، الانتقاد الاوروبي للأميركان «أنكم فتحتم المجال للروس وهمشتم الاوروبيين».
– قنديل: بمعزل عن العواطف والمع والضد، والتأييد للموقف التركي سابقاً وحاليا، وما يمكن أن يحدث. هل ما يحدث لتركيا ومع تركيا، بالمعنى الفكري، هو علامة من علامات انتصار الدولة الوطنية، بمعنى أن تركيا ينتصر فيها المنطق الذي يقول، ماذا فعلت لنا الاحلاف؟ لما لا نبني سياساتنا ورؤانا على قاعدة أننا دولة مستقلة في بيئة لها مصالح وحسابات، حتى لو بلغة تغوّل مبنية على أحلام وأوهام. فهل هذا يمكن أن يكون مؤشر؟
– عتريسي: نعم أعتقد أن التركي يعمل بهذا الاتجاه، وهو استفاد كثيراً مما حصل ليعزز هذه الفكرة في الداخل: نحن دولة مهددة في الداخل، والولايات المتحدة تهددنا، وحدودنا مهددة، ومهددون بالتقسيم، ودولة للأكراد. هذا عزز هذه المسألة بشكل كبير.
– قنديل: دكتور محمد نور الدين: تركيا هي اللاعب المحوري، فإذا تطلعا للرؤية الاميركية الهجومية الجديدة، يعني من 2010 ولاحقاً، واضح أن استخدام الحرب المباشرة في أفغانستان والعراق، لتطويق إيران وسورية بين فكي كماشة انكسر. وحرب تموز فشلت في كسر المقاومة. وهي التي أرادتها أميركا، على لسان كوندوليزا رايس، أن تكون مخاض شرق أوسط جديد، فأتت الحرب الجديدة متقاطعة مع تطلعات تركيا، بمفهوم أمبراطوري. وكان دور «الاخوان» في مصر وتونس وليبيا واليمن. والعصب الاساسي للحراك المعادي للدولة السورية مثله «الاخوان المسلمون»، الذي مرجعيته في تركيا. والجماعات المسلحة التي تم توريدها إلى سورية، أغلبها جاء عبر تركيا. والتحريض العالي للذهاب إلى الحرب مع سورية، رفعه الاتراك، من خلال الذهاب للأطلسي، عندما أسقطت الطائرة التركية بالدفاعات السورية. والمرة الثانية، عند إسقاط الاتراك للطائرة الروسية. والحديث عن منطقة حظر جوي، فتركيا هي حجر الرحى في هذه الحرب. الآن، أين هي تركيا في هذه الحرب؟ هل سقطت الاحلام والاوهام، وبدأت بالعودة لرشدها، وبدأت الانخراط، مع فهم الاحراجات التي تترتب على التحولات الكبرى، فلا يمكن للدول أن تقلب خطابها مباشرة، فهي بحاجة لوضع نص جديد تتدرج في صناعته، فنحن، الآن، أمام تحول، أم أمام خديعة تركية تحاول أن تتذاكى على الاطراف المتصارعة، لتقضم هنا وهناك وتتلاعب؟ فالمشهد التركي يجعلنا ننتصر لفكرة أننا ما زلنا في دائرة المعمعة؟ أم نحن أمام إعادة تأكيد العقلانية السياسية في إدارة المنطقة، والقبول بالحقائق والوقائع، وأن ما جرى في سورية هو أمر لا رجعة فيه إلى الوراء؟
الدور التركي
– نور الدين: إذا القينا نظرة من ليلة وصول «حزب العدالة والتنمية» إلى السلطة في 2002 إلى يومنا، نرى فترة حوالى 14 سنة. ورغم أن هذه الفترة، شهدت تقلبات كثيرة بعلاقات تركيا الخارجية، مع كل جوارها الجغرافي، لكنها تضمنت تفصيلات هائلة ومواقف بعضها منسجم وبعضها متناقض. وبتقديري، لا يمكن البناء على هذه الفترة الزمنية، رغم طولها، حول مكان تركيا وتموضعها بين الشرق والغرب والعرب ومحيطها الجغرافي ككل. فليس ممكنا فهم تركيا في السنوات الأخيرة، على الاقل، من دون وضع الموقع التركي الجيواستراتيجي، من جهة، والاطار التاريخي من جهة أخرى. فتركيا، تقع في موقع جغرافي – استراتيجي مهم للغاية، لكنه في الوقت نفسه، صعب ومعقد ومتداخل. فتركيا، في الجغرافيا، هي بين أوروبا واسيا وفي الثقافة، بين الشرق والغرب، بين الحضارة الاوروبية والاسلامية وبين الاثنيات السلافية في الشمال، من روسيا وبلغاريا وغيرها، واليونان وبين الاثنيات الفارسية والعربية والكردية والارمنية وما إلى ذلك. وفي الايديولوجيا، هي في الصراع بين الاسلام والعلمانية. وفي الاحلاف الاستراتيجية، بين حلف «الناتو» وبين الجوار المباشر لنا. فتركيا، من خلال هذه التقاطعات، تعاني فعلاً في تحديد هويتها. ولذلك، مرّت خلال 100 عام في ثلاثة اختبارات هوية، لم تمر بها أي دولة أو مجتمع، كالهوية العثمانية التي ألغاها أتاتورك، وجعلها هوية أتاتوركية علمانية ديمقراطية. ثم الآن، محاولة العودة إلى هوية ملتبسة هجينة، لاهي إسلامية بالمطلق، كما يسعى أردوغان، ولا هي علمانية كالأتاتوركية.
– قنديل: لو تيسر لتركيا وهي ترفع راية الدخول للاتحاد الاوروبي، وحققت هذا الدخول، لذهبت إلى الهوية العلمانية بقوة المصالح. ولو تيسر لها، بقوة الحملة الامبراطورية الأميركية والسعودية تحت عنوان «الأخونة»، أن تسيطر على العالم العربي، لترسخت الهوية الاسلامية. السؤال: المصالحات، كي تتم، يلزمها دور صاعد. فهل أن فشل الذهاب إلى هذه المشاريع الكبرى الامبراطورية، سيأخذ تركيا إلى التفكير العقلاني الواضح الهادئ؟ هل تركيا الآن تتواضع أم تتذاكى؟ يعني هل نحن أمام تركيا، التي تريد أن تستفيد من اللحظة، لتؤمن العبور إلى وضع أفضل، أم أمام تركيا، التي تلقت العبر من أنها غامرت كثيراً بالانحياز والذهاب إلى المدى الابعد، وعليها أن تعود بحساباتها، فهي الآن، بين قوتين عظميين في المنطقة: روسيا الجارة وإيران الجارة. وأمام بلد مجاور استضعفته وقالت أنا أستطيع اللعب به كيفما اشاء؟
– نور الدين: السلوك التركي تجاه قضايا المنطقة وتموضعه، بين مختلف هذه القوى والدول والاحلاف، يحدده أمران: أولا، طبيعة التهديدات والتحديات التي تحيط بتركيا، والتي تشكلت، عبر التاريخ، من جهة، وعبر الاحداث المستجدة من جهة ثانية. بمعنى أن تركيا، مثلا، لا يمكنها الخروج من مفهوم أن إيران عدو منذ الصفويين حتى الآن. ولا يمكنها أن تنسى، أن روسيا عدو منذ حروب القرم. ولا يمكنها الخروج من أن الأرمن عدو تاريخي. والعرب عدو منذ الاعتراف بـ «اسرائيل» في 1949. والانتقام من الشريف حسين، على أن العرب غدروا بالاتراك. كما أن «الوهابية» عدو للاسلام التركي. والأكراد، كمستجد معاصر، تهديد ويشكل خطرا.
– قنديل: في نظرية داوود أوغلو، أنه، كي تواجه، عليك أن تختار العدو الأول، وتتفاهم مع التسعة الآخرين. فمن هو الأول الآن، ومن هم التسعة الآخرين؟
– نور الدين: في السياق الذي سار فيه أردوغان ووصل لنهاية 2015، بات الجميع بالكفة نفسها. وبات على عداء مع كل الناس، حتى مع روسيا الشريك الاستراتيجي، الذي وصل معه لحجم تبادل تجاري بقيمة 30 مليار دولار، بات عدوا. ولكي أوضح نقطة حالية، السلوك الخارجي التركي، يتحدد وفق العلاقة البنيوية التي نسجتها تركيا بعد الحرب العالمية الاولى، مع تأسيس الجمهورية، مع العالم الغربي. فمع أتاتورك، أصبح هناك توجه فكري وإيديولوجي نحو الغرب، كالعلمنة وتغيير الحرف. وذهبت الذهنية التركية نحو الغرب على أنه نموذج. لكن بعد الحرب العالمية الثانية، تمأسست هذه الذهنية، فكان الاعتراف بـ «اسرائيل» والانضمام للمجلس الاوروبي وحلف الأطلسي، وطلب الانضمام للسوق الاوروبية المشتركة عام 1963. فالاتراك ينظرون للعلاقة مع الغرب، على أنها هي من تحمي بلادهم من التهديدات، التي عددتها في السابق. فمن سيحمي تركيا من الأرمن والتوتر مع القبارصة الا اللوبي اليهودي في اميركا. ومن سيحميها من روسيا وإيران الا «الناتو». لكن الآن، أصبح الحديث عن أنه قد تكون هناك استدارة نحو سورية أو إيران أو روسيا. ورغم الهوة، غير المسبوقة، والشرخ في العلاقات التركية الاميركية، بسبب الانقلاب، فإسقاط الطائرة الروسية قضى على العلاقات مع روسيا. أما الانقلاب، الذي كانت واشنطن خلفه، فلم يخرب علاقات تركيا باميركا. فتركيا لاتزال تستند إلى ثابت واحد هو المحور الاميركي – الغربي. أما العلاقات مع روسيا وإيران، والاشارات الخجولة نحو سورية، فأنا أعتبرها تكتيكا لتوظيفها أوراق ضغط لتصحيح العلاقات مع أميركا. وأن تكون أنقرة بموقع أقوى في هذه الشراكة مع أميركا. وبالتالي، هي محاولة تذاكي وليس تغييرا في الرؤية.
– قنديل: في الظاهر، الطلب الروسي من تركيا الاعتذار عن مسألة إسقاط الطائرة الروسية، وموافقة تركيا على الاعتذار، سيكون، في الشكل، كافياً. لكن في الواقع، العلاقات الدولية هي أعمق من هذا بكثير، والمصالح المتضاربة، والحرب في سورية وجودية وأساسية، بحسب خطاب هاتين الدولتين، فروسيا، التي لم تقبل المساومة على موقفها من سورية، علاقتها بأميركا، من خلال استخدام «الفيتو»، وكل سياق تعاملها مع الحرب في سورية يقول، إن سورية هي الاساس، كما قال الرئيس بوتين منذ يومين. فإذا كانت سورية أساسية لهذه الدرجة، وتركيا أساس في الحرب على سورية، إذن، يستحيل أن نتخيل علاقة طيبة بين دولتين مهمتين في سورية. وسورية مهمة لهما، من دون أن يكون هناك حد أدنى من التفاهم والتقارب حول ما يجري وما سيجري فيها، وإلا سيكون هناك جيشان متورطان ومتخندقان، وهذا لا يصح أن يبني علاقات طيبة. فهل هناك ما يمكن وصفه بخطوط عريضة لتفاهم روسي تركي، أم أن الأمر يترك للتجربة، لتصنعه بمنطق الصح والخطأ؟
زاسيبكن: بطبيعة الحال أهمية العلاقات مع تركيا معروفة، ومع سورية، علاقاتنا واسعة مع الجميع ونحن نريد ان ،كون الصلة مع أوسع طيف من الاطراف المعنية. روسيا تريد أن يكون لديها أجندة مبنية على المبادئ. ونحن ننفذ هذه الأجندة وفيها أولويات، القضية السورية البند الأول، على أساس التسوية السلمية لهذا النزاع، ستكون انتصارا الشعب السوري والمجتمع الدولي والتعددية والنظام الأكثر عدلاً.
دور الاقتصاد
قنديل: هل ترى معي أن حجم الحاجة لهذه العلاقات هو تركي أكثر من الروسي. صحيح هو حاجة روسية؟ لكن في السياسة لا يوجد جوائز ترضية، وبلحظات الاشتباك المصيري كل الادوات والمسارح تتحول لاسلحة بصيغة أو باخرى، فالتركي كاد يصل في الموضوع الزراعي إلى ضيق كبير. واعتماد المزارعين الاتراك في التصدير لروسيا من 40 الى 45 في المئة. وكذلك، في السياحة والمقاولات والمصارف. وهذا كان يكتب في الصحافة التركية وفي تفسير وتحليل الذهاب التركي إلى روسيا. وفي المقلب الاخر سورية مهمة للطرفين. وعودة التصادم، إذا كانت السياسات متباينة، قد تحصل غدا. وفيما يخص روسيا وتركيا، فهمنا أن هناك إسقاط لطائرة روسية وطلب اعتذار، فجاء هذا الاعتذار. لكن لماذا تطبيع العلاقات مع إيران. إيران تطبع مع تركيا بنسبة أعلى بعد التفاهم مع روسيا. ويبدو أن هناك ثلاثية بدأت تنسجم نحو اجتماعات تنسيقية. والإيرانيون يطرحون خماسية، العراق، سورية، إيران، تركيا وروسيا. ولدينا مؤشرات تقول أن الوضع ليس مجرد فتح الباب لتركيا لتكون طرفا في المعادلة، بل هو تحول يسمح بعلاقة مديدة لا تنتكس عند أول تحول، ونحن نتابع الآن الحوار الروسي الأميركي، نرى أن النبرة الروسية، في الاشارات المرسلة للأميركيين فيها جزم، بينما الحوار مع تركيا، التي عبرت من عندها «جبهة النصرة» بحسب قول الروس أنفسهم، نرى نعومة روسية إيرانية في الحديث معها. هذه المرونة إليست مبنية على قراءة إن لم نقل على تفاهم؟
موقف مبدئي
زاسيبكن: برأيي أن كل الفترة السابقة قبل القطيعة مع تركيا، كنا نحن، في المجال السياسي، نركز في الضغط على الاتراك، بصورة مرنة. وكنا نركز على الاشياء المشتركة التي تطور الموقف التركي. وعندما صار هذا الحديث، أوضحنا للجميع الجوانب السلبية جداً في الموقف التركي. والآن، لا تزال هناك هذه الجوانب، لكن نحن عدنا مجدداً إلى إعادة التعاون الاقتصادي تدريجياً. أما في السياسة، فهناك تهدئة في الكلام. وكما قال الرئيس بوتين، نحن نتابع كل التصرفات التركية، من وجهة نظر الشرعية الدولية. والموقف القلق من التدخل التركي في سورية مؤخراً. والبيان الروسي الشديد اللهجة من هذا التدخل. أنا أرى أننا نتصرف وفقاً لظروف معينة، ونحن لا نريد القطيعة مع أحد، فخارج القانون، هناك إرهابيون فقط. أما بقية الاطراف الأخرى، فشركاء نكافح الارهابيين معهم، وهذه معركة وجودية. وألاحظ أن الحديث عن تباين بوجهات النظر، هو مجرد تزوير تقوم به وسائل الاعلام، أو في التصريحات التي تركز على خلق المشاكل. لذلك، يجب أن نعترف أن هناك قواسم مشتركة مبدئية مع الاتراك، كما مع سورية وايران بالنسبة للاهداف.
قنديل: كالسجال الذي حدث بين روسيا وأيران، حول استخدام قاعدة همدان، وتمكن الطرفان من السيطرة عليه وتخطيه.
زاسيبكن: … ومع تركيا نتعاون بحذر ونتابع تصرفاتها، ودائما نحن مستعدون لاعلان الموقف المبدئي والتركيز على ضرورة تنسيق كل الاطراف مع الحكومة السورية. وفي الوقت نفسه، يجب أن نصل لاتفاق مع الاميركيين، لأن هذا الاتفاق يخدم الحل السلمي.
قنديل: هل أنتم متفائلون بالاتفاق؟
زاسيبكن: هذا ليس موضوع تشاؤم أو تفائل، نحن نعمل لتحقيق هذا الانجاز.
قنديل: بعد التطبيع الايراني – التركي والروسي التركي، سورية أخذت موقفا بدى كأنه منفصل عن حركة حلفائها في البداية، باعتبار أن الدخول التركي إلى سورية، هو اعتداء على السيادة. لتعود بعدها إيران وروسيا وتقولان أنه كان على تركيا أن تنسق مع دمشق. ثم بدأ الكلام عن تطبيع سوري – تركي وبعض التقارير تحدثت عن لقاءات وسيناريوهات. وبعدها موقف سوري قوي، تلاه موقف روسي قوي تجاه الدور التركي، وملاحظات حول ذلك. فما الرؤية السورية لدور وموقف تركيا الآن؟
لا قطيعة
علي: من البداية سورية قدرت لايران وروسيا مراعاة مصالحهما. وفي ذروة التصعيد التركي الروسي، بقيت هنالك مراعاة للمصالح الاقتصادية، وبقيت بعض العلاقات. والروسي يدرك أن تركيا تنظر إليه بهذا الحجم الذي أشرتم إليه. وهي ليست دولة تطمئن إليها تركيا. وكذلك تركيا، لا تطمئن روسيا. ولو كان الميزان التجاري 32 مليار دولار. وإيران، التي لدينا تنسيق وتحالف عال معها. أيضاً، كان لديها مراعاة لتركيا. ليس بعد كشف الانقلاب، بل قبل ذلك واثناء كل المراحل. هذا لا يعني أن إيران مخطئة في التشخيص وترى في تركيا دولة مطمئنة، كلا، لكن هي لا تحذف مصالحها والحرص على الجوار، الذي لا تريد له الانفجار. فتركيا دولة كبيرة، وهناك حدود جغرافية كبيرة معها، وهناك إثنيات في إيران هي تراعيها، ونحن نتفهم ذلك. وبالتالي، حتى سورية، على الرغم من عدوانية أردوغان، بالنسبة لها الشعب التركي ليس عدواً. ولذلك، نحن نحرص على أن نستثمر في ضعف تركيا، فهي أقل قوة مما كانت عليه في بداية العدوان على سورية.
قنديل: معلوماتكم هل خط الحدود مع «النصرة» لازال كما كان؟
علي: توجد مراجعات لاتزال خفيفة. ولكن هناك مقدمات تشير إلى أن أردوغان، بفعل ظروفه، وليس نواياه التي لا نثق بها. والظروف باتت بصالحنا وساهمت بها قوة جيشنا وصموده، وتماسك القيادة والحاضنة الشعبية، والمصالحات التي تكبر، وأيضاً الحلفاء. ودخلت الصين أيضاً على الخط بتكامل. وبمجرد أن تدعو روسيا والصين، وحده ذلك، يربك العدو والحلف المقابل، ويجعل تركيا، التي تريد أن تستثمر في التناقض، الذي حدث بعد الانقلاب في العلاقة مع روسيا ومع إيران، هذا يربك تركيا أيضاً، وليس فقط أميركا. ولذلك، نحن نريد استثمار التراجع في قوة تركيا وقدرتها على الاذى، وبعض التناقضات يستفاد منها، لكن البناء الاساسي يبنى على القاعدة الشعبية، التي تكبر، والجيش الذي ينتصر، والطوق الذي يكتمل على الارهاب.
قنديل: برأيك هل تجرؤ تركيا، إذا كانت المعركة في القريب على أبواب إدلب، أن تفعل ما كانت تفعله قبل سنة أو سنتين؟
علي: لا أستطيع أن أجيب بالجزم، لكن أستطيع أن أقول أن تركيا أقل قوة الآن من الأمس.
قنديل: برأيك سعادة السفير الروسي، هل تستطيع تركيا أن تغامر بعلاقتها مع روسيا، إذا وصل الجيش السوري إلى المناطق الحساسة كادلب مثلا؟ هل يمكن لها أن تقلب الطاولة؟
زاسيبكن: أنا أوافق سعادة السفير السوري بأن الوضع تغير الآن بالنسبة للقدرات التركية، فهي تراجعت. ولذلك، لا أظن أن يكون هناك مغامرة. وأظن أن الاعتماد سيكون على السياسة.
علي: طبعاً لا نستبعدها بالكامل. ما دامت لدى أردوغان العنجهية.
وقت التسويات
قنديل: دكتور طلال، قبل عام كان هناك تفاهم مع إيران حول الملف النووي، وهو ليس تفاهما تقنيا، بل نتيجة اشتباك 30 سنة من العقوبات والحصار. وهو كان رمزية للملفات كلها. هل يمكن القول أن الأميركي بعدما استنفذ كل قدراته في سورية، وجلب المسلحين من كل الارض، واعتبر أن معركة سورية هي معركة كل الملفات، كما نذكر في آب 2012، كانت المفاوضات على الملف الايراني في جولة بغداد، ولم يكن الاميركي مختبرا للدخول العسكري على خط المواجهة، فقام بتجميد المفاوضات سنة كاملة. وبمجرد مجيء الاساطيل وفشله في الاقدام والذهاب للحرب، بسبب ثبات سورية وموقف إيران وروسيا، واستنفار الرئيس بوتين للقدرات الدفاعية الروسية، تراجعت أميركا. وبعد تراجعها بشهر، فتح الملف النووي الايراني من جديد. يعني الملف النووي الايراني يمكن أن يشكل ملف ملفات المنطقة، وحرب سورية حرب حروب المنطقة. وبهذا المعنى، عندما خسر الاميركي الرهان في حرب الحروب، ذهب إلى التسوية في ملف الملفات. وهل هذا قانون قابل للتعيين، إنما الآن أين كان مستقبل الادارة الاميركية، فالأوهام والاحلام ستبقى خارج البيت الأبيض، عندما يبدأ المرشحون بالاضطلاع على تفاصيل الوقائع والحقائق والملفات، وبالتالي، الخيارات لا رجعة عنها. فكلينتون، تقول، سوف نعدل التفاهم النووي. وترامب، يقول، سوف ألغيه. كيف نرى المشهد الأميركي مع هذه التحولات؟
عتريسي: لا نستطيع أن نرى المشهد الاميركي بمعزل عن مشهد الاطراف الاخرى، التي تقف بوجه الاميركي. يعني إن كانت الاطراف الاخرى قوية ومتماسكة، واستطاعت أن توجه ضربات إلى هذه العدوانية الاميركية، معنى ذلك أن المشهد الاميركي متعلق بهذه القدرة، وليس فقط بالارادة الاميركية. فالاتفاق النووي، عندما أعلن أوباما الموافقة عليه، قامت قيامه السعودية و«اسرائيل» والكونغرس. فقال لهم هناك ثلاثة أسباب لتوقيع هذا الاتفاق. قال، نحن فرضنا عقوبات والاستمرار في العقوبات لم يجد مع إيران. واستمرت في التخصيب. وهذا يفترض أنه إذا أردنا إيقاف البرنامج النووي، فعلينا أن نخوض حرب ضد إيران. ونحن لا نريد ولا نستطيع أن نخوض حربا. وبالتالي، الحل الأمثل هو التفاوض. وهذا يعكس القدرة الاميركية. فلو كان بمقدورهم قصف المفاعلات الايرانية والانتهاء من القضية لفعلوا ذلك. إذاً صمود الأطراف الاخرى، وهذه التحالفات، والخسارة الأميركية في العراق، ودور سورية وإيران في العراق وفي أفغانستان وفي لبنان عام 2006. هذه الهزيمة بالتحديد، كانت مدوية، لأنها فعلياً كانت حربا أميركية، والمنفذ «إسرائيلي». والحرب على سورية، هي استكمال للحرب «الاسرائيلية» على لبنان. وما أنجز قد أنجز، ويبنى عليه لأي رئيس أميركي قادم. وما فعله أوباما يوم أتى، أنه قال: أنا لا أريد خوض حروب في المنطقة، لانه أسس على ما وصل عليه جورج بوش من فشل. والولايات المتحدة لن تستطيع العودة لسياسات بوش في المنطقة.
سقوط الرهانات
قنديل: انهار حكم «الاخوان» في مصر وفي تونس. ويتغير في اليمن والسراج في ليبيا لم ينجح. وبالتالي، «الاخونة» في المنطقة انتهت. وبدأ الخطر الكردي يصبح داهماً، ولا أحد مستعد للقتال والمواجهة ليكون الربح لشخص اخر. فالبنسبة لسورية، الأكراد ليسو خطرا داهما، والاولوية لـ«النصرة» و«داعش»، ففي الحسكة حصلت تسوية الحد الأدنى، بدل أن تستنفذ قواها. وأميركا وعظمتها، عندما ترى نفسها غير قادرة تذهب لتفاهمات. السؤال هو: هل العقل التركي لا يملك هذه البراغماتية لنتوقع انخراطه في تفاهمات؟
نور الدين: المشورع التركي في المنطقة سقط، لكن ما دامت الازمة السورية قائمة، ويمكن أن تستمر لربع سنوات أخرى، لا أحد يعلم. وبالتالي، إن لم تحل الازمة السورية سياسياً، يبقى رهان التركي على مشروعه لو ضمن جغرافيا محدودة.
قنديل: إذا كان سائر حلفاء تركيا يرتضون خيارا بديلا في سورية، عن خيار السيطرة الكاملة. فالكل دخل ليمسك سورية وينقلها من ضفة لضفة، ولاقامة نظام جديد فيها يتبع الحلف الأميركي السعودي – التركي »الاسرائيلي» وفشلوا. وكان البديل عند الأميركي و«الاسرائيلي» والسعودي، هو التقاسم ونشوء الدويلات والتفتيت. وهذا بدا للتركي أن أولى مخرجاته دولة كردية. فهل يصبح الخيار الثاني عند تركيا، هو الخيار نفسه رقم إثنين عند روسيا وإيران، الذين كان خيارهم الأول انتصار الدولة السورية كما هي. فهل الخيار الثاني الروسي – الايراني بالنسبة لتركيا، سيكون أحسن من الخيار الأميركي، الذي سينتج دولة كردية على حدودها؟
نور الدين: الروس والايرانيون حاولوا أن يغروا تركيا، بشكل أو بآخر، بالعلاقات الاقتصادية. والايرانيون وقفوا إلى جانب أردوغان خلال الانقلاب، رغم أن معلوماتي، تقول بوجود انقسام داخل إيران بهذا الخصوص. ومع ذلك، كانت إيران تراهن دائما، على تغير الموقف التركي تجاه سورية. فهنالك خط ثابت في المشروع التركي في سورية، يقوده أردوغان بشكل شخصي ومقامرة أردوغانية على انتصار مشروعه في سورية. والموقف التركي الحقيقي لا يمكن أن نأخذه إلا من على لسان أردوغان شخصياً. ومقابلة أردوغان خلال عودته من الصين مهمة جداً، ويمكن قراءة مؤشرات عدة من خلالها، خصوصا عندما قال أنه مستعد للمشاركة في تحرير الرقة والموصل، فالدخول التركي إلى سورية، يرسم ملامح مختلفة عن الماضي. ووجود تركيا في سورية يختلف عن وجودها داخل حدودها. وأنا برأيي، لا وجود لخطة «ب» لدى الاتراك. وهم متمسكون بالخطة الأصلية وبمشروعهم.
قنديل: لم نسمع أردوغان يتحدث عن حلب مؤخراً. فهو لا يجرؤ، بعد الآن، على التحدث عن مناطق سيطرة الجيش السوري. وهو يعرض على الاميركي مقايضة عنوانها: دعوني أقطع رأس الاكراد في كوباني وأسلمكم الرقة.
علي: يمكن أن تكون هذه رغبة أردوغان. لكنه يفهم أن الاميركي لن يدعه يحققها.
نظام مارديني: دكتور نور الدين، كيف نفهم هذا التحول الكردي، في كونهم حلفاء للروس الذين دافعوا عنهم في مفاوضات جنيف وفيينا، وكيف استطاعت أميركا أن تقبض على هذه الجماعة وتوظفها في خدمة مشروعها؟
نور الدين: روسيا دخلت إلى سورية في وقت متأخر، في أواخر أيلول 2015. لكن، من بداية الحرب، كانت أميركا على الارض. والاكراد، في النهاية، لديهم مطالب ويريدون تحقيقها، بغض النظر عن طريق من. فمع روسيا، لديهم علاقات استراتيجية، لكن على أرض الواقع، لم يكن هناك شيء عملي ميدانيا، كما مع الاميركان. ولذلك، بتقديري، نجح الاميركيون في أن يستفردوا بالأكراد. والأكراد يعلمون أن هذه اللعبة أكبر من حجمهم. لكنهم يسعون لتحقيق مطالبهم، بغض النظر عن طريق من.
قنديل: ما مطالبهم؟
نور الدين: التعبير عن هويتهم باللغة، والحرية والادارة الذاتية.
صدمة الاكراد
علي: أنا لا أظن أن هناك تحالفا. هناك مبالغة في العلاقة الروسية الكردية. ولم يكن المكون الكردي الذي ذهب باتجاه روسيا، أو أميركا، يمثل كل الاكراد. فالأكراد مكون أصيل في سورية. وربما غرر بالبعض منهم وخدعوا. وأظن أن هذه الصدمة الأخيرة من أميركا، جعلت الكثير من الاكراد يعيدون النظر في مواقفهم. ودمشق، في الأصل، كانت حريصة على اعادة النظر في الدستور، وبعض الأمور بخصوص الأكراد. ولا أرى في المستقبل ما لا يمكن حله مع الاكراد. وأهم شيء أن الثقة الكردية بالأميركيين سقطت.
قنديل: العلاقة مع «الاتحاد الديمقراطي الكردستاني» الذين رعتهم روسيا وطالبت لهم بشراكة في التفاوض، في وقت كانت العراقيل تأتي من جهة حلفاء أميركا. ما الذي انكسر بين روسيا والمجموعة الكردية، حتى أصبحت أداة تراهن عليها أميركا؟
زاسيبكن: أنا لا أرى أي تناقض. فبالنسبة لروسيا، التعاون هو مع الدولة السورية، ولا علاقة خاصة مع الاكراد. وتسليح ميليشيا هو أمر غير وارد. أما سياسياً، فهذ الموقف الروسي، هو في إطار موقف عام.
روزانا رمال: سعادة السفير الروسي، لقد رأينا ثنائية مهمة ومميزة بين الوزيرين لافروف وكيري، وهما خلقا حالة تفاهم أنتجت تسويات عدة، وانسحبت، هذه الثنائية، على الوزير الايراني ظريف مع جون كيري. فهل برأيك قدوم الانتخابات الرئاسية الأميركية وامكانية تغيير كيري، سيكون خطرا في المرحلة الحالية وسيتطلب وقتاً من أي وزير جديد، قد يأتي، لاعادة مسك الملفات كلها. فعندما كانت هيلاري كلينتون، كان الوزير لافروف يعاني من صعوبة في التفاهم والتواصل معها. فهل إذا تغير وزير الخارجية الاميركي الحالي، يعني أن الازمة ستطول؟
زاسيبكن: في الحقيقة أن العلاقات الشخصية بين الوزيرين لافروف وكيري متميزة. ولافروف، يشير إلى هذا بكل وضوح؟ لكن في الوقت نفسه، لديه تجربة في التعامل مع عشرات الزملاء، وعدد كبير منهم في أميركا نفسها. فلذلك، حتما، في المستقبل، سيكون شيء جديد. ولا أظن أن هذا العامل سيؤثر كثيراً على المضمون. وأهم شيء هو النهج السياسي للادارة الاميركية الجديدة. وربما 99 في المئة مما يحدث، يتوقف على النهج الذي ستتبعه الادارة الاميركية الجديدة، لأن النهج الروسي لن يتغير. فنحن نعتبر هذا شيئا أساسيا لنا، بالنسبة للانتخابات الاميركية، أن تبرز أمام الجميع أن أجندتنا لا تتغير.
الاولوية السورية
هتاف دهام: سعادة السفير الروسي، أنتم تلعبون دورا محوريا أساسيا في حل الأزمة السورية. فهل تلعبون دوراً مماثلا في حل الملف اليمني، الذي تعتبره السعودية أولوية لديها؟
زاسيبكن: نعم، نحن نحاول تعزيز التأثير الروسي على المواضيع في المنطقة. ونلعب دورا أهم في البحث عن الحلول، كما في اليمن، أو في القضية الفلسطينية. لكن حجم الجهود الروسية المتكاملة السياسية والعسكرية، تضع القضية السورية في المرتبة الأولى. وفي كل مجال، هناك، حسب قدراتنا، وأهميتها بالنسبة لنا وللمجتمع الدولي.
محمد حمية: سعادة السفير السوري، ما نظرتكم للتدخل التركي في سورية. والموقف الروسي من هذا التدخل؟
علي: العدوان التركي قائم منذ بداية الحرب على سورية، بمختلف الاشكال، من دعم وتسليح وادخال إرهابيين. لكن الهجمة الجديدة على سورية، بعد الانقلاب في تركيا، كانت لجس نبض الروس والايرانيين فيما يخص سورية. وبسرعة جاء الجواب الروسي – الايراني المستنكر لهذا التدخل. ونحن ننظر بعدم ارتياح لهذا التدخل، كما ينظر الروس له، لكن ربما بزاوية مختلفة. ونحن لا نرى التدخل التركي أمراً بالغ الخطورة، لان لا السوري، ولا الروسي، ولا الايراني يسمح به، فهو مسقوف.
روزانا رمال: سعادة السفير السوري، كيف تنظرون للعلاقة بين روسيا و«إسرائيل»، التي تتعزز يوما بعد يوم. وكأن «إسرائيل» تعترف أكثر فأكثر بدور روسي في الشرق الاوسط. هناك زيارتان لنتنياهو إلى موسكو، وواحدة للرئيس «الاسرائيلي» ريفلين. واليوم، حديث عن وساطة روسية بين الفلسطينيين و«الاسرائيلين». ولقاء في موسكو، كيف تنظر سورية إلى هذه العلاقة، خصوصاً، أن هناك أحداثا لها رمزية لا تعلق عليها سورية، كاهداء روسيا لـ «اسرائيل» دبابة كان الجيش السوري استولى عليها خلال حرب لبنان؟
علي: نحن نتفهم أن روسيا ليست لبنان، وليست مصر وليست إيران. فروسيا دولة عظمى، والمكون اليهودي في روسيا غير قليل. وهناك أكثر من مليون من أصول روسية في «إسرائيل». فهي تقارب الامور بطريقة لا تمس بالعلاقة الروسية – السورية والاتفاقات الناظمة لهذه العلاقات. وهذا الأمر مرعي ومتفق عليه. وعبر كل السنوات، ويوم كان التحالف مع الاتحاد السوفاتي، وللرئيس بوتين منهج قد يكون مختلفا عن الرؤساء السابقين، العلاقات بين روسيا وسورية تسير بشكل ممتاز جداً، وهناك تنسيق ثلاثي إيراني- روسي- سوري ممتاز. هناك بعض الهواجس من الغيورين على سورية وفلسطين، يطرحون هذه الهواجس، لكنني أرى أنها مجرد هواجس لا تستدعي هذا الحجم من التهويل.
نظام مارديني: ماذا ستكون طبيعة الدولة السورية في المستقبل، لامركزية أو ماذا؟
علي: عندما يلتقي السوريون فيما بينهم، يصيغون مستقبلهم بحسب مصلحتهم، والمكون الكردي والشركسي والارمني والعربي، كلهم مكونات فئة أولى، ولا درجة ثانية في الشعب السوري. واعادة إعمار النسيج المجتمعي السوري مهة جداً.
قنديل: الفترة المتبقية من ولاية الرئيس الاميركي الحالي، يقول بعض المحللون أنها ستكون تقطيعا للوقت، مع إدراة عاجزة، إنتهى زمن القرارات فيها. ورأي آخر يقول. إننا طالما نحن أمام وجهين جديدين للادارة الاميركية، أحلاهما مر، فروسيا وإيران وسورية معنيون بالضغط لتسريع رزنامة حسم الاوراق مع الادارة الاميركية الحالية، كي لا نقع في مشاكل مع الادراة الجديدة. وهذا يشجع، بدوره، واشنطن على المجيء للتسويات. فعندما يشعر الاميركيون أن الفترة الباقية من الولاية، ستستعمل لتسريع الحسم العسكري السوري – الروسي الايراني، فهو سيذهب باتجاه التسوية. وهناك رأي آخر يقول، لماذا الذهاب إلى تسويات، وطالما أوراق القوة بيد روسيا والمحور الآخر، وهذا المحور لا يمكنه الحسم عسكريا. وتركيا عامل مساعد وعامل إرباك في آن، فلندع الاوراق تتفاعل ليضعف الخصوم، ومن بعدها يأتي التفاوض. الفترة المتبقية لاوباما ستكون فترة انتظار، وتبقى النار تحت الرماد. أم هي فترة مواجهة مفتوحة تحدث متغيرات، أم هي فترة تسويات عدد من الملفات؟
علي: برأيي أن إدارة الرئيس أوباما حريصة على استثمار هذا الوقت، لكي تحسن شروط المرشحة الديقمراطية .وهي تدرك أن الرهانات ليست في صالحها. وهي لم تلغ ورقة الارهابيين واللعب عليها، لكنها أميل للاستثمار في النقطة التي تستطيع أن تكون لمصلحتها. وبالتالي، هي تناور وتحاول أن ترفع الشروط بوجه الادارة الروسية، لكنها تدرك أن الاوراق ليست في يدها، وبالتالي، فهي أقرب للميل إلى التسوية وإن كانت كلينتون ترفع صوت العدوان أكثر. لكن أنا أضع كل الاحتمالات قائمة. واجزم أن الشروط الموضوعية على الارض ستدفع الادارة الاميركية للاذعان للتسوية.
زاسيبكن: أشارك سعادة السفير السوري رأيه. وأضيف بأننا نحن، رغم كل النواقص والسلبيات، وصلنا في الفترة الاخيرة إلى بعض الانجازات الدبلوماسية والسياسية. والآن، نبحث في اتفاق أكثر تفصيلاً. وهو الحل السياسي والتعاون ضد الارهاب. وأنا أعتقد أن الادارة الاميركية معنية بالوصول ألى تسوية.
عتريسي: تسريع المفاوضات رغبة لانجاز الاتفاق، لكن هناك أطراف يمكن أن تعطل كالسعودية، ولا رغبة لها في نجاح الاتفاق.
نور الدين: الادارات التي نفذت أهداف أميركا خلال الحروب كبوش وإدارة كلينتون، التي نفذت اتفاق أوسلو ونحر القضية الفلسطينية. وفي عهد أوباما دمروا العراق واليمن وسورية وليبيا. هذا التدمير ترك آثارا سلبية في المجتمعات العربية، أكثر مما فعلته ادارات بوش الاب والابن. وبالتالي، لا داعي للرهان من هو أفضل كلينتون أم ترامب. الاثنان ينفذان الاجندات الاميركية الاساسية، لكن كل باسلوبه الخاص.
قنديل: العالم اليوم يعيش حالة من التوازن لا تسمح لا بالاستغناء عن أميركا وشطب حضورها، لكنها لا تسمح لاميركا أن تشطب الآخرين وتلغي دورهم.
تحرير: عدنان الساحلي ـ آرام عبود
تصوير: أكرم عبد الخالق