جهنّم شارع الحمرا
د. محمود شريح
على خطّ موازٍ لشارع «بلِس» حيث يمتدّ حائط الجامعة الأميركية في بيروت، وعبر اتصاله بأربعة شوارع متوازية هي «عبد العزيز» و«جان دارك» و«المهاتما غاندي» و«السادات»، يطلّ المرء على شارع عريض أوّله موقف للسيّارات مقابل مبنى «فرنسبنك» على مقربة من مصرف لبنان، وآخره عند منعطف عُرف بـ«نزلة أبو طالب» نسبة إلى مُلك كان قائماً هناك لعائلة بهذا الاسم، لكنه اليوم موقف للسيّارات. وعليه يمكن القول إن شارع الحمرا هذا مبدأه موقف ونهايته موقف، في ما بينهما وعلى طوله سيّارات تتحرّك ببطء نظراً إلى كثرتها وازدحامها، والأهم عدم مراعاة سائقيها قوانينَ السير التي تتحكّم بدساتير الأمم المتمدّنة.
هذا هو الحمرا جغرافياً. أما تاريخياً فتحوّل برصيفيه إلى سلسلة مطاعم أولى حلقاتها كما آخرها. وعليه، فهو شارع المطاعم بلا منازع في بيروت، ولا يجاريه أهمية في دنيا المطابخ إلا شارع «بلِس» بمحاذاة الجامعة الأميركية في بيروت. فهنا أيضاً مطاعم على مدّ النظر مقابل الحائط الذي يحرس الجامعة من تحوّلها إلى حديقة عامّة. ولولا هذا الحائط العظيم، لكانت المطاعم غزت الرصيف المحاذي ، فطلاّب الجامعة منغرسون ليلاً ونهاراً في مطاعم الرصيف المقابل، فيها يأكلون ويشربون ويلهون، فيما ساعة الجامعة تعلن انحسار الفكر وتنامي الجهل.
ومن باب أوسط الطرق أسلمها، اختصّ شارع «المقدسي» القائم بين «الحمرا» و«بلِس» بحانات للشرب وتدخين النارجيلة والرقص على الطاولات متى الليل انتصف، ودبّت الحماسة في أجساد الجالسين. فتسمع أهازيجهم حتى حرم الجامعة، فيبطل مفعول دقّات ساعتها المطلّة في حلكة الليل على عتمة المتوسّط منارة للعلوم والآداب.
هذه هي الحمرا القائمة بأضلاع أربعة مع «عبد العزيز» و«بلس» و«السادات»، شبهّها أساطين الثقافة في بيروت بالحيّ اللاتيني في باريس، بفارق واحد بسيط هو أن هذا الحيّ الشرقي هنا خلوّ من المفكّرين، وإن لاح أحياناً أن هناك من يتأبط صحيفة أو يمسك بكتاب من باب الزينة ورفع العتب.
لكن الصورة الأبهى في هذا الحيّ الشرقي، رؤية الصبايا الغربيات الوافدات من أصقاع الدنيا إلى مقاهي هذا الحيّ ومقاصفه. إذ يبدأن بالتجمهر في أرجائه بدءاً من غروب الشمس. فما أن يحلّ الظلام حتى يلتصق بهن شباب في عمرهن فيخيمّ على الجمع جوُّ من الطمأنينة والحريّة، فتشيع أنفاس الديمقراطية. فما أن ينتصف الليل حتى يكون المتحاورون في شؤون الإبداع والتغيير قد ثملوا فخرجوا يبحثون عن سيارات أجرة إلى مساكنهم، فالعثور على سيّاراتهم يحتاج إلى يوم آخر من البحث وهم في وعيهم فكيف وهم في ثمالتهم.
ولئن كانت هذه هي الصورة الأبهى في هذا الحيّ، فإن نوره الساطع كامن في مرأى درّاج يوصل نارجيلة إلى مريدها في سكنه أو فندقه، بحسب الطلب، تبغها بنكهة التفاح أو العنب أو الورد، تبعاً لمَلَكة الذوق، وأحياناً التنباك العجمي المحض، وفقاً لأصالة التراث. فالدرّاج هذا يقود مركبته باليسرى ويمسك النارجيلة باليمنى، فيما يتطاير شرر جمرها خلفه فكأنها على بساط ريح غير مرئيّ. ومما سمعت أن درّاجين آخرين تنحصر مهامهم بنقل الجمر إلى المساكن أو غرف الفنادق، مع أني شخصياً لم يحالفني الحظ أن رأيت درّاجاً من هذا الصنف وإن كنت أطمح إلى هذا اللقاء. بيد أني شاهدت عند ناصية أحد أزقة هذا الحيّ الضيّقة مناقل عامرة بالجمر المتوهّج، فيما حولها من يقدح زندها بالنفخ عليها، فأغلب الظنّ عندي أنها مناجم تزوّد الدرّاجين بما يطيل حياة المتلذّذين بأنفاس النراجيل.