الأمّ الرؤوم للذئاب المنفردة: الدولة الاسلامية أم القاعدة وتفجيرات أيلول 2001؟
ميشيل حنا الحاج
الذئاب المنفردة هم أشخاص نفذوا عمليات إرهابية، نتيجة قناعات شخصية تأثرت وتكوّنت لديهم كإفراز لسماعهم أو قراءتهم لدعوات تحث على الإرهاب، وصادرة عن تنظيمات إرهابية. فاعتنقوا الأفكار الواردة في تلك الدعوات، دون أن ينتموا فعلياً إلى التنظيمات الإرهابية التي روّجت لها، أو يكون لهم اتصال فعلي بتلك التنظيمات، وبالتالي قاموا بتنفيذ عمليتهم الإرهابية من تلقاء أنفسهم، وبناء على مبادرة شخصية منهم أفرزتها قناعتهم بما سمعوه من دعوات تلك التنظيمات وتأثروا بها.
وقد كثر الحديث مؤخراً عن الذئاب المنفردة، وعن دورها في تنفيذ بعض الأعمال الإرهابية خصوصاً في الدول الغربية. ورجح الكثيرون أنّ مردّ هذا الظهور اللافت للنظر مؤخراً، وتسليط الضوء على من يسمّون بالذئاب المنفردة، مردّه النشاط الدعائي والتبشيري الذي تمارسه الدولة الاسلامية أيّ داعش، وتوجهه نحو رعايا الدول الغربية عبر إذاعاتها وفيديواتها التي تبث على شبكات النت، وخصوصاً على موقع يوتيوب وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي والاليكتروني.
الواقع أنّ ذلك فيه الكثير من الصحة بالنسبة لازدياد عمليات تلك الذئاب المنفردة مؤخراً بشكل واضح، مما وضعها في بقعة الضوء الساطع المسلط عليها. كلّ ما في الأمر، أنّ عمليات الذئاب المنفردة لم تبدأ مع ظهور «الدولة الاسلامية»، اذ أنها قد عرفت، لكن بحجم أقلّ وفي مساحات جغرافية أقلّ أيضاً، منذ تفجيرات تنظيم القاعدة للبرجين في نيويورك، ولمبنى البنتاغون في واشنطن دي سي، في الحادي عشر من شهر أيلول 2001، وقد أحيت الولايات المتحدة مؤخراً بالذكرى الخامسة عشرة لذاك الحدث الهامّ في تاريخها الحديث.
وهناك دراسة أعدّها مارك هام ورامون سباج، بناء على طلب من دوائر وزارة العدل الأميركية التي موّلت اعداد الدراسة لكنها لم تموّل كلفة نشرها للعلن . وأعطيت الوثيقة التي أعدّها الباحثان رقم 248691 لدى إيداعها في سجلات الوزارة في شهر شباط 2015.
وتضمّنت تلك الدراسة الهامة، معلومات تفيد بأنّ عمليات ما يعرف بالذئاب المنفردة قد بدأت تتجلى للعيان منذ التفجيرات التي نفذها تنظيم القاعدة في الولايات المتحدة. بل وكانت هناك عمليات وصفت بعمليات ذئاب منفردة، نفذت أيضاً قبل حوادث التفجيرات في نيويورك وواشنطن. وتورد تلك الدراسة التي نوّهت بأنها تعبّر عن رأي واضعيها ولا تعبّر بالضرورة عن موقف رسمي للولايات المتحدة، أنّ 98 من عملية الذئاب المنفردة قد نفذت بين عامي 1940 و2013، وهو العام الذي برزت فيه للوجود «الدولة الاسلامية» باسم «داعش». وجميع هذه العمليات أو معظمها على الأقلّ قد نفذت في الولايات المتحدة ومن قبل أميركيين. 38 منها نفذت قبل تفجيرات الحادي عشر من أيلول التي اعتبر تنظيم القاعدة مسؤولاً عنها وعما تلاها من عمليات وصفت بعمليات ذئاب منفردة. أما العمليات الستون المتبقية خلال تلك الفترة الزمنية ايّ بين 2001 – 2013 ، فقد اعتذر الباحثان عن إيراد تفصيلات عن خمسة عشر منها، لكونها قد تعلقت بعملاء سريين للدولة، ولم يكن بوسع الدارسين الاستقصاء عنها لكون ملفات التحقيقات فيها قد صنّفت بالسرية، عكس ما تبقى من تلك العمليات وعددها 45، اذ تمّ استقصاء المعلومات عنها من بعض الشهود، ومما نشر في الصحف، ومن سجلات المحاكم الأميركية. ونتيجة عملية الاستقصاء هذه، تبيّن للباحثين أنّ 36 منها فقط، في مدى اثنتي عشر عاماً تقريباً، كان نتاج عمليات تأكد قيام من يوصفون بالذئاب المنفردة بتنفيذها، مع التقييم بأنّ العمليات التسع المستثناة، ربما كانت نتاج عمليات إجرام عادية، أو مرتبطة بالمافيا أو بقضايا التمييز العنصري أو ما شابهها، لكن لا صفة سياسية أو إرهابية لها بمفهوم الإرهاب السياسي أو الديني.
الولايات المتحدة هي الهدف الأول
وتسبّبت العمليات الـ 45 المتبقية وموضوع الدراسة، بمقتل 55 وجرح 126 شخصاً، كان بعضها من نتاج العمليات التسع التي استبعد نسبة تنفيذها للذئاب المنفردة الجهادية الاتجاه. وبينما كان المهاجمون في الحوادث السابقة على تفجيرات الحادي عشر من أيلول ذوي أهداف مختلفة، اذ كان مردّ بعضها فكراً فاشياً أو نازياً أو عنصرياً أو عملية احتجاج سياسية داخلية، ولا علاقة له بالتشدّد الإسلامي كما سبق وذكرت، فإنّ ما تلا ذلك من عمليات ذئاب منفردة، وعددها 36 عملية ، ارتبط فعلاً بهذا النهج الأخير من التفكير. ومن الأمثلة على العمليات التي لا علاقة لها بالفكر الإسلامي المتشدّد أو بأفكار التنظيمات الإرهابية الجهادية التي تنادي به، كانت عملية نفذها في أيار 2002 لوكاس جون هيلدر الذي أعدّ 18 طرداً وضع فيها متفجرات ومسامير وأرسلها بالبريد. وتسبّب فتح بعضها في جرح ستة أشخاص كان من بينهم أربعة من سعاة البريد. وأرسل هيلدر يومئذ رسالة الى صحيفة The Badger Herald التي تصدرها University of Wisconsin Madison. وتضمّنت رسالته احتجاجاً على رفض الحكومة اضفاء المشروعية على استخدام الماريجوانا الذي يغذي العقول وينشطها. ومثلها أيضاً حادثة وقعت في 18 شباط /فبراير 2010، نفذها Joseph Andrew Stack III مستخدماً طائرته الصغيرة الخاصة، لمهاجمة مكتب للضرائب في مدينة أوستين بولاية تكساس، وذلك بعد أن نشر على موقعه في الانترنت، احتجاجه على سياسة الحكومة الأميركية الضريبية، كما أعلن أنه قد أحرق منزله تأكيداً لاحتجاجه ذاك. وأدّى الحادث الى مقتل شخص إضافة الى مقتل المهاجم وجرح 13 أميركياً. ومن بين العمليات التسع الموصوفة بعمليات الذئاب المنفردة المنفذة في الولايات المتحدة، ولكن لأسباب ليس لها علاقة بالقضايا الجهادية، عملية نفذت في 27 تموز /يوليو 2008، وقد نفذها Jim David Adkisson
أثناء حفل موسيقي في Unitarian Universalist church. وكشف المهاجم يومئذ أنه شاذ جنسياً، ويحتجّ على اعتراض الكنيسة على حق هذه الفئة من الناس بممارسة هذا النوع من العلاقات الشاذة في رؤيتها…
تلك وغيرها كانت من عمليات الذئاب المنفردة التي نفذت لأسباب بعيدة عن التأثر بدعوات تنظيم القاعدة التي تحث على الجهاد. أما أبرز عمليات الذئاب المنفردة في تلك الحقبة التي تلت تفجيرات أيلول 2001 والتي كانت من نتاج التأثر بتلك الدعوات الاسلامية الجهادية المتشدّدة، ذاك المسلك الذي انتهجه هشام محمد هدايت وهو مصري – أميركي في الرابع من تموز /يوليو 2002، عندما فتح النار على مركز استقبال المسافرين على طيران العال «الاسرائيلي» في مطار لوس أنجلوس، وقتل اثنين من المسافرين. وفي الثالث من آذار 2006 قاد محمد رضا طاهري آزار سيارة «جيب شيروكي» نحو مجموعة متجمهرة في جامعة North Carolina، فجرح تسعة أشخاص. ووصفته الصحافة يومئذ بأنه مثال واضح للذئاب المنفردة. وفي تموز /يوليو 2006 أيضاً، قام Naveed Afzal Haq باطلاق النار في Seattle Jewish Federation في منطقة Belltown القريبة من سياتل، فقتل امرأة وجرح خمسة آخرين. وقال نافيد أفضل حق يومئذ: «أنا مسلم أميركي، لكني أكره اسرائيل».
ومن عمليات الذئاب المنفردة الأخرى المتأثرة بالدعوات الجهادية وحصدت نسبة عالية من الضحايا، كانت العملية التي نفذها نضال حسن الذي قتل وجرح ثلاثين شخصاً عام 2009 في واقعة لإطلاق النار في معسكر Fort Hood. ومثلها الواقعة التي نفذها عام 2011 Jared Laughner في موقع Tucson، فقتل ستة وجرح 13، والواقعة التي نفذها Wade Page عام 2012 في معبد لطائفة السيخ الهندية في منطقة Oak Creek بمدينة ويسكنسون، فقتل فيها ستة أشخاص وجرح أربعة.
وشهد عام 2010 ثمانية عمليات ذئاب منفردة أخرى كان أبرزها قيام John Patrick Bedell في الرابع من آذار /مارس 2010 باطلاق النار على رجال أمن تابعين للبنتاغون، ويقفون في نقطة تفتيش قريبة من وزارة الدفاع الأميركية في البنتاغون. وأدّت العملية الى جرح اثنين من حرس البنتاغون قبل نجاح رجال الأمن باصابته اصابة مباشرة في رأسه أدّت الى وفاته.
كما شهد عام 2011 عمليتان للذئاب المنفردة، واحدة في 17 كانون الثاني /يناير، وأخرى في 21 تموز /يوليو، لكن أياً منهما لم تتعلقا بالدعوات الاسلامية الجهادية. أما عام 2012، فقد شهد ثلاث عمليات صنفت بعمليات ذئاب منفردة. وكانت الأولى في نيسان /ابريل، والثانية في حزيران /يونيو، والثالثة في آب /أغسطس. لكن أياً منها، مرة أخرى، لم تكن لها علاقة بالحركات الجهادية الاسلامية، اذ كانت كلها متعلقة بقضايا شخصية أو احتجاجات محلية. وهذا يعني أنّ آخر عمليات الذئاب المنفردة المتأثرة بالدعوة الجهادية الاسلامية، والتي انطلقت بعد أحداث أيلول 2001، كانت عملية تبادل اطلاق النار مع حراس البنتاغون في آذار /مارس 2010.
وكانت عمليات الذئاب المنفردة تزداد سخونة اثر خطابات لاهبة لأسامة بن لادن أو أنور العولقي الذي كان قيادياً بارزاً في تنظيم القاعدة. الا أنّ عمليات الذئاب المنفردة، قبل ظهور «الدولة الاسلامية» بثوبها الجديد واسمها الجديد داعش في عام 2013، ظلت محصورة بشكل عام في نطاق الولايات المتحدة مع وقوع بعضها القليل خارج الولايات المتحدة.
ومن العمليات المعروفة التي وقعت خارج الولايات المتحدة ونسبت للذئاب المنفردة، كانت عملية تفجير دراجة نارية حملت كمية من المواد المتفجرة، وذلك في منطقة ِAksu في الصين، وقد نفذها في 19 آب أغسطس 2010 أحد المنتمين لطائفة Uyghur، وهي واحدة من مجموعة الأقليات المسلمة التي تعيش في الصين. كما كان من بينها أيضاً اغتيال سلمان تيسير، حاكم ولاية البنجاب في باكستان، الذي اغتيل على يد من وصف بذئب منفرد في شهر كانون الثاني عام 2011. ولكن لا يمكن تأكيد مدى ارتباط هاتين الحادثتين الأخيرتين بالدعوة الجهادية الاسلامية الصادرة عن تنظيم القاعدة. فتنظيم القاعدة الذي بات منشغلاً الى جانب طالبان، بالحرب ضدّ الولايات المتحدة التي غزت أفغانستان مع نهايات عام 2001، فتوقفت بسبب ذاك الغزو عملياته الخارجية المباشرة التي ينفذها مقاتلون ليس ذئاب منفردة منضوون في تنظيمه، والتي كان من أبرزها تفجير السفارتين الأميركيتين في كينيا وتانزانيا عام 1998، وكذلك تفجيرات برجي نيويورك والبنتاغون في عام 2001… هذا التنظيم رغم استمرار دعواته الإذاعية وعبر وسائل التواصل الأخرى الداعية للجهاد، فإنّ هذه الدعوة قد خفتت أيضاً مع عام 2010، وخصوصاً بعد اغتيال أسامة بن لادن وأنور العولقي وتدريجياً وبعد ظهور داعش باسمها الجديد في عام 2013، استطاعت داعش أن تملأ الفراغ الذي تركه الضعف الذي لحق بتنظيم القاعدة، بل واستطاعت أيضاً التوسع في مساحته، ليمتدّ في تأثيره الى عدة دول غربية ومنها كندا واستراليا وأوروبا اضافة الى الولايات المتحدة.
فبعد عام 2013، وشروع الدولة الاسلامية ببث دعواتها بشكل كثيف لمؤازرة الحركة الجهادية التي تنادي بها، فقد أخذت عمليات الذئاب المنفردة بعدها منعطفاً خطيراً. اذ أنه نتيجة كثافة دعواتها للجهاد، شرعت تحدث تأثيراً ملموساً في عقول عدد من الشباب، في مواقع كثيرة من العالم. وبذا أخذت عمليات الذئاب المنفردة تصل الى دول غربية أخرى في أوروبا وكندا واستراليا اضافة الى الولايات المتحدة كما سبق وذكرت. واذا كانت عمليات الذئاب المنفرة المولودة من الأمّ الرؤؤم الأولى أيّ تنظيم القاعدة، قد نفذت 38 عملية اثنتين منها غير مؤكد ارتباطها بالقضية الجهادية، وتسبّبت تلك العمليات بمقتل 55 وجرح 126 في مدى عشر سنوات، فإنّ عمليات الذئاب المنفردة المنحدرين من أمّ رؤوم أخرى هي تنظيم «الدولة الاسلامية»، قد نفذوا عدداً قد لا يكون بعد أكبر من العمليات السابقة المتأثرة بتوجيهات القاعدة، ولكنه أضخم كثيراً في حجم ضحاياه التي تجاوزت المئات. فعملية الدهس في نيس وحدها في 14 تموز /يوليو 2016، حصدت 85 قتيلاً وأكثر من مائتي جريح. ومذبحة أورلاندو في حزيران /يونيو 2016، حصدت 49 قتيلاً، ومثلها عمليات داعشية أخرى، مما يستدعي التوقف طويلاً أمام ذيول وعواقب ظاهرة الذئاب المنفردة الداعشية التي لم يزد عمرها بعد كثيراً على سنوات ثلاث.
ومن هنا أمكن بصدق، ولكن بمرارة، إطلاق صفة الأمّ الرؤوم الثانية على تنظيم «الدولة الاسلامية»… الأمّ الحنون للجنون الذي تفرزه هذه العمليات الإرهابية القاتلة التي تنفذها الذئاب المنفردة في طورها الجديد والمعاصر.