عن إسرائيل «القلقة»… ومعضلة الخيارات المحدودة!
مأمون الحسيني
لم تحظ الأخبار الواردة من مناطق الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة حول قيام جيش الاحتلال الإسرائيلي بشق طرقات ورفع أسيجة شائكة، باهتمام جدي في وسائل الإعلام اللبنانية والعربية التي مرّت، أيضاً، مرور الكرام على المناورات العسكرية التي أجراها الجيش الإسرائيلي، مؤخراً، وحاكى فيها توغلات برية في سورية ولبنان، وتصعيداً مع حزب الله، يتضمّن سيناريوات مواجهة قصف مكثف بالصواريخ على الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتوغل الحزب داخل إحدى المستوطنات، فيما تمّ الاكتفاء بملامسة مواقف وتصريحات القيادة الإسرائيلية، بمستوياتها السياسية والعسكرية والاستخبارية المتعلقة بمصالح ومخططات الدولة العبرية المتبلورة التي يؤمل بتحقيقها لمواجهة التغيّر الممكن في الوضع القائم في سورية، أو استغلال المتغيّرات فيه، كما جرى ترحيل الصراخ الإسرائيلي وقرع طبول الحرب بذريعة ارتفاع منسوب ما يسمّى «خطر حزب الله» الذي يواصل التسلّح بصواريخ طويلة المدى، وبات يمتلك صواريخ «ياخونت»، وفق تأكيد رئيس معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيليّ الجنرال عاموس يدلين، إلى ذيل قائمة الاهتمامات السياسية والدبلوماسية والإعلامية المنشغلة، بكليتها، بالقضايا الداخلية، وبتطورات وسيناريوات المعارك الملتهبة في جبهات الشمال السوري.
هذه المؤشرات التي لا يدرجها الكثيرون في خانة «الخطوط الحمر» التي من شأن المسّ بها إشعال حرب جديدة في جبهة الجنوب اللبناني، تحمل، في واقع الأمر، وتحت ظلال تطورات الأوضاع المتسارعة في سورية، أكثر من معنى ومغزى. فهي من جهة، رسالة إلى الإسرائيليين الذين أوضحت وسائل الإعلام العبرية بأنهم يثقون بتصريحات السيد حسن نصر الله، ولا يُصدّقون روايات صنّاع القرار الذين وصفهم السيد بأنهم يتحدثون كثيراً ولا يفعلون إلا القليل، تفيد بأنّ هؤلاء القادة لا يكتفون بتوجيه التهديدات لحزب الله فقط، وإنما يعدّون العدَة ويجهّزون الميدان للمواجهة «الحتمية» المقبلة. ومن جهة أخرى، هي رسالة موجهة للغرب، وتحديداً إلى واشنطن للتعبير عن الغضب والاستياء من أداء ورعونة الحليف الاميركي وفشل استراتيجياته في سورية، والتي تفضي إلى ترسخ موقف وحضور أعداء تل أبيب، وحضور ما أسمته صحيفة «إسرائيل اليوم» المقربة من رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو «سيناريو الرعب»: إيران خلف الحدود، والأسد في القصر الرئاسي في دمشق، ناهيك عن كونها المؤشرات نوعاً مما يمكن تسميته «التحصين والتحضير الاستباقي» للتداعيات المستقبلية التي يمكن أن تسفر عنها التطورات السورية.
وبالفعل، ما يدبّ على أرض الجنوب اللبناني لا يرقى، حتى الآن، إلى مستوى الإعداد لحرب واسعة ضدّ حزب الله الذي «يقف على رأس لائحة التهديدات التي تواجهها إسرائيل في العام الحالي»، وفق ما يؤكد يدلين، والتي تشير الخلاصات الاستخبارية الإسرائيلية بأنه، وعلى رغم الأثمان التي دفعها في سورية، هو الجهة الوحيدة التي لم تضعف قوتها في السنوات الخمس الأخيرة، وتُواصل التسلح بصواريخ طويلة المدى، بعد أن تحوّل إلى لاعب مهمّ على المستوى الإقليمي وبات شريكاً حيوياً في في «التحالف الإيراني السوري». ولكن، في المقابل، تكاد تجمع المصادر السياسيّة والأمنيّة في تل أبيب، على أنّ الحرب مع «المقاومة الإسلامية» في لبنان ستندلع حتماً في القادم من الأيام، ذلك أنّ إسرائيل القلقة من تراكم المؤشرات السلبية بخصوص مستقبل المنطقة، لا يُمكنها أنْ تحتمل عدواً متعاظم القوة، ومدعوماً من عدوّها الأوّل، إيران، ويواصل تعظيم ترسانته العسكريّة التي باتت الآن صواريخها قادرةٌ على إصابة أيّ هدفٍ في عمق الكيان الإسرائيليّ، كما لا تستطيع أن تترك المبادرة بيد هذا الحزب الذي استطاع إفشال محاولات إسرائيلية عدة لتدمير قدراته، أو منعه من الردّ على الاعتداءات، من خلال رفع مستوى الكلفة، وبلور، بالتالي، معادلة ردع متبادل على المستويين الاستراتيجي والعملاني.
وكما هو مرئي، فإنّ ما سبق ليس كلّ شيء، فـ»إسرائيل» التي تمحور موقفها من تطورات الحرب في سوريةا واتجاهاتها حول إزالة تهديد «محور المقاومة»، عملت كلّ ما في وسعها، خلال سنوات الأزمة لتحطيم «واسطة العقد» في هذا المحور سورية بدءاً من دعمها المتعدّد الأشكال للفصائل الإرهابية في كافة أنحاء سورية، وبالأخصّ في الجبهة الجنوبية، إلى التدخل العسكري المباشر وتنفيذ اعتداءات موضعية ضدّ العديد من المواقع السورية، وصولاً إلى العويل، مؤخراً، على خسائر «داعش» المتتالية في كلّ من سورية والعراق، ورفع الصوت ضدّ محاربة هذا التنظيم الذي «ينبغي استخدامه كأداة ووسيلة قتالية لمحاربة المحور المعادي» للدولة العبرية. ولعلّ من المهمّ ملاحظة طبيعة وحجم الخسائر والتراجعات في بورصة الاستهدافات الإسرائيلية التي بدأت بتخيَّل إمكانية ليس فقط تفكيك محور المقاومة وإضعاف عصبه المركزي في الميدان حزب الله ، وإنما كذلك الاستحواذ على حصة وازنة الكعكة السورية بعد الاستيلاء على الشام، لتتدحرج هذه الأحلام نحو الدعوة إلى تفتيت سورية إلى دويلات تتيح لها التحالف مع بعضها، واستغلالها في محاربة أعدائها ومشاغلتهم، وذلك بموازاة ما جرى ويجري تداوله من خطط متبلورة لاستخدام اللاجئين السوريين، كذريعة لإقامة حزام أمني في جنوب سورية، بصورة معدّلة، في الشكل، عن صورة الحزام الأمني السابق في جنوب لبنان، ثم ليتواصل هذا التدحرج نحو قعر جديد تفرضه تطورات الميدان السورية وترجماتها السياسية التي تعمل تل أبيب، وكتفاً إلى كتف مع الرياض، على وضع العصي في دواليبها من خلال تصعيد الحملة ضدّ إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما التي تحوّلت، عشية الانتخابات، وكما هي العادة في الولايات المتحدة، إلى «أوزة عرجاء»، يصعب عليها مواجهة هذه الضغوط، والمضيّ قدماً في بلورة اتفاق أميركي – روسي حول سورية يظهَر ماهية الانتصار الذي حققته دمشق وحلفاؤها بعد نحو ست سنوات ونصف السنة على بدء الحرب الإرهابية والإقليمية والدولية على سورية.
ويبدو أنّ التعبير الأبرز عن الطبعة الأخيرة للموقف الإسرائيلي القلق المتخم بعدم اليقين والخشية من المستقبل، والذي فاضت على حوافه تصريحات وتعليقات ومقالات ساخطة حيال تطورات الميدان السوري الأخيرة، وبالأخصّ تلك المتعلقة بما أسموه «مهزلة» السياسة الخارجية التي تنتهجها واشنطن وبيعها «الكرد للأتراك» في شمال سورية، وهو ما يعني أنّ الأميركيين يبيعون حلفاءهم وأصدقاءهم بثمن بخس، وعلى إسرائيل «أن تتعوّد أنّ حليفها الأكبر، يستهتر بمصالحها في الشرق الأوسط»، حسب ما جاء على لسان معلق الشؤون العسكرية في صحيفة «يديعوت أحرونوت» أليكس فيشمان، المقرّب من طاولة القرار في تل أبيب والمعروف بصلاته الوثيقة بالمؤسسة الأمنية الإسرائيلية. يبدو أنّ هذا التعبير هو ما قاله الرئيس السابق لجهاز الأمن العّام الإسرائيليّ الشاباك والرئيس الحالي للجنة الشؤون الخارجية والأمن في الكنيست الإسرائيليّ، آفي ديختر، مؤخراً، من أنّ الصراع السوري يدخل مرحلة لا يمكن التنبّؤ بها إلى حدّ بعيد، ولا أحد يعرف ما إذا كنّا في بداية النهاية، أوْ نهاية البداية فحسب، ذلك أنّ التحولّات الجذرية الأخيرة ، حسب ديختر، أحدثت زلزالاً إقليمياً لا تقلّ شدّته عن تسع درجات على مقياس ريختر، وجعلت الأمور في «فوضى تامة» لا أحد يعرف متى ستستقر.
على أنّ الأبرز في حديث ديختر الأخير إلى المراسلين الأجانب، هو تشديده على أنّ حزب الله يتعلم القتال في مجموعات أكبر مع أسلحة متطورة، وإنّه لم يعد تماماً «مجموعة من الإرهابيين»، كما وصفه سابقاً، وإنما تحوّل إلى «جيش له كتائب ذات أسلحة متطورة ومدفعية». أيّ أنّ الحزب، وكما تكاد تجمع المستويات السياسية والعسكرية والاستخبارية الإسرائيلية، بات يشكل تهديداً متزايداً على الدولة العبرية. وبالتالي لا بدّ من جولة أخرى من الحرب ضده. ولكن، متى… وكيف… وما هي حظوظ الربح والخسارة؟! تلك هي الأسئلة التي ستبقى معلقة بانتظار التطورات والمعطيات المقبلة.
كاتب فلسطيني