مختصر مفيد الدولة الوطنية… سورية نموذجاً
حافظت الدولة السورية على النموذج الكلاسيكي لمفهوم الدولة الوطنية في مرحلة عرف العالم فيها انهياراً مريعاً لهذا النموذج، وربما تكون الدولة الوحيدة مع فنزويلا بقيادة رئيسها الراحل هوغو شافيز، من بين الدول المنتمية لهذا النموذج التي بقيت عضواً في المنظمات الدولية والإقليمية وتستضيف سفارات الدول الغربية من دون أن تساوم على مفهومها للدولة الوطنية، إذا استبعدنا دولاً كبرى كالهند والصين وروسيا من الحساب، وقارنا وضع سورية بإيران قبل التفاهم على ملفها النووي، وكوريا الشمالية، وكوبا قبل المصالحة الأميركية وفك الحصار. وبمعزل عن الفوارق الكثيرة مع النظام العراقي الشقيق والجار لسورية، فقد تم إسقاط دولته وتدمير جيشه عقاباً على تمسكه بمفهوم الدولة الوطنية، سواء أحسن أم أساء استخدامها. فالقضية هنا ليست في تأييد سياسات ومعارضتها، بل بقراءة نموذج لبناء الدولة، عاش في نهايات القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين ضغوطاً أميركية تدميرية تحت عنوان العولمة وسقوط الخصوصيات الوطنية من جهة، ومشاريع تصدير نماذج معلبة للديمقراطية كشرط لعدم الاستهداف بالحروب، واستثمار خلو الساحة الدولية من شريك بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وسقوط جدار برلين.
الدولة الوطنية ليست نموذجاً عقائدياً مستورداً، فمعيارها ليس العداء للسياسات الأميركية، ولذلك فالذي انهار في دول أوروبا الشرقية ودول الاتحاد السوفياتي السابق لم يكن الدولة الوطنية مع التفكك السوفياتي، بل الدولة المعولمة لكن اشتراكياً بقوة الحضور السوفياتي، ولذلك صمدت الدولة السورية بينما إنهارت حصون حلف وارصو، وظهرت سورية دائماً كنموذج للدولة الوطنية في تعاملها مع الحلفاء بمثل ما ظهرت كنموذج للدولة الوطنية في التعامل مع الأعداء، معبّرة في سياساتها كدولة عن مجموع الموروث والمصالح التي يلتقي عليها السوريون، بمعزل عن درجة انطباق معايير انبثاق السلطات فيها مع المعايير المثالية للتمثيل الشعبي. وهذا معنى الدولة الوطنية وليس الدولة الوطنية الديمقراطية التي شكلت حلم الرئيس بشار الأسد، بينما مشروع خصومه الدولة اللاوطنية المغطاة بطلاء الديمقراطية.
شكّل الربيع العربي امتداداً عاصفاً للحرب الأميركية على العراق التي كانت أول حروب استئصال الدولة الوطنية التي عرفها العرب مع عهود الاستقلال، وكانت مصر جمال عبد الناصر نموذجاً لها، والتي سقطت بالضربة القاضية في حرب العام 1967، وظهرت الإدارة الناعمة للحروب الذكية طريقاً للسيطرة على إدارة الجموع الغاضبة وتحريكها بواسطة الميديا العملاقة ووسائط التواصل الاجتماعي، كطريق لتقويض مؤسسات الدولة الوطنية بينما ظهرت التنظيمات التكفيرية المنتسبة لفكر تنظيم القاعدة كأداة أمنية لضرب الجيوش الوطنية وإسقاط مهابتها، وتفكيك بناها وإضعاف شوكتها، فسقطت مصر وتونس واليمن وليبيا، بعد سقوط العراق، وتعرضت سورية لأصعب الحروب وأشرسها، والهدف واضح وهو ضرب الدولة الوطنية برمزية قيام دول أجنبية بالقول للسوريين، نحن مَن يقرر مَن يكون رئيسكم. والرئاسة هي المنصب السيادي الأول والرمز للوحدة والسيادة في كل بلد، وصولاً لتنظيم حرب مفتوحة وممولة تدار عبر الحدود بإمكانات ومقدرات فوق تصور العقول، لتدمير الرمز السيادي المقدس للدولة الوطنية الذي يمثله الجيش.
خاضت سورية بالأصالة عن نفسها وبالنيابة عن كل أحرار العالم، ومفكريه وفلاسفته، وحكوماته المستقلة، حرب إثبات مشروعية مفهوم الدولة الوطنية وشرعيته، وخاض رئيسها وجيشها بلا هوادة وبشجاعة قل نظيرهما حرباً لا تتصل بالدفاع عن النفس بل الدفاع عن أشرف مفاهيم تجسيد معاني الوطنية، وهي الاستقلال، وهكذا يتشكل حلف الدولة المستقلة حول سورية من دول لا يجمعها بها إلا هذا المفهوم، وتنشأ من حوله المصالح المشتركة، كالتحالف مع روسيا وإيران والكثير من القوى المناوئة لفلسفة حرب الحضارات ونهاية التاريخ، وزمن اللكزس على حساب نهاية عصر أشجار الزيتون، وما يدور من مشاريع تسويات اليوم تحت عنوان التفاهم الروسي الأميركي، بغض النظر عن التفاصيل والمنعرجات، يشكل اعترافاً أميركياً بفشل الحرب لإسقاط الدولة الوطنية في سورية، وعبرها الفشل بإسقاط النموذج. وهذا ما لا سيعكف الخبراء الأميركيون على استخلاص عبره للتعاطي مع أزمات ومواجهات قادمة في أماكن مختلفة من العالم، لتظهر معادلة، الدولة الوطنية تعود للظهور، أو شجرة الزيتون تنبت وتورق من جديد.
عندما تطلق سورية صواريخ دفاع جوي لردع طائرات إسرائيلية تنتهك أجواءها، وهي في ذورة الحرب الضروس الممتدة منذ سنوات، وهو ما لم تفعله وهي في ظروف أفضل. وعندما تقيم إسرائيل الحساب للخطوة السورية وفقاً لكل التعليقات التي حملتها المواقع والصحف الإسرائيلية، وعندما تحذر الخارجية السورية تركيا من عواقب مواصلة انتهاك طائراتها للأجواء السورية، وتعلن نية التعامل معها بما يتناسب مع الدفاع عن السيادة السورية، وتطلق أنقرة سلسلة اتصالات مع موسكو لتفادي ما لا تريد الوقوع فيه ويصل رئيس الأركان الروسي إلى أنقرة لصياغة التفاهمات التي تضمن ما قال عنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين رداً على التوغل التركي داخل سورية، حقوق سورية السيادية بأن لا تتحرك أي دولة داخل أراضيها ومياهها وأجوائها دون تنسيق معها، تكون سورية قد علمت العالم درساً تاريخياً في كيف يُبنى ويتجذر مفهوم الدولة الوطنية..
ناصر قنديل
ينشر هذا المقال بالتزامن مع الزميلتين «الشروق» التونسية و«الثورة» السورية.