هل كان اتفاق جنيف منصة لعدوان أميركي؟
سومر صالح
توصلت الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية ثنائياً، من دون التشاور مع الحلفاء الإقليميين، إلى اتفاقٍ غير معلن، له طابع السرية حول سورية، بتاريخ 9/9/2016. ولم تمض هدنة الـ 48 ساعة الأولى من هذا الاتفاق، حتى باشرت الولايات المتحدة بالمماطلة في تنفيذ تعهداتها وفق بنوده، خصوصاً العمل على تقديم خرائط وبيانات دقيقة، حول أماكن تواجد المعارضة المعتدلة، وفق تصنيفها وأماكن التداخل بين تلك الفصائل وبين تنظيم «فتح الشام» الإرهابي. ومع أسبوعه الأول، ترنح هذا الاتفاق باتجاه السقوط، وفق بياني «الدفاع» السورية والروسية، رغم المحاولة الجارية لبعث الروح فيه مجدداً، في اجتماع نيويورك للمجموعة الدولية حول سورية، أو لقاء كيري لافروف، المرتقب.
ومع ملابسات ما حدث، كثرت التساؤلات عن هدف الأميركي من المماطلة بتنفيذ تعهّداته تجاه موسكو. وبالأصل، لماذا أبرم هذا الاتفاق، إذا كانت النوايا نقضه. ومعه السؤال الأكثر شيوعاً، لماذا أصرّت واشنطن على سرية هذا الاتفاق، خصوصاً عدم عرضه على مجلس الأمن الدولي، ليكتسب صفة الإلزام الإقليمي، على الأقل. هنا، علينا بدايةً، توضيح نقاطٍ مهمة تخصّ هذا الاتفاق وفق ما تمّ إعلانه، من الجانبين الأميركي والروسي. النقطة الأولى: هي اتفاق لتجميد القتال في سورية، خصوصاً في مدينة حلب وليس لإنهاء القتال. النقطة الثانية: هي اتفاق مستمرّ ومتصل مع اتفاق 22/2/2016 لوقف الأعمال القتالية وليس هدنة جديدة، بحيثيات جديدة. وهذا الأمر له نتائج على المسار السياسي للحلّ، لا سيما أنّ القبول بالقرار 2254 هو شرط الانضمام إلى نظام الهدنة. وهو ما ترفضه باستمرار فصائل مسلحة كبرى، كـ«أحرار الشام» الإرهابية مثلاً. النقطة الثالثة وهي الأهمّ: إنّ الناتج النهائي لنجاح تطبيق الهدنة، هو انطلاق المسار السياسي للحلّ في جنيف وليس بالتوازي معه، على شاكلة «جنيف 3» بجولته الثالثة. النقطة الرابعة أتت بعد فشل معركة كسر الحصار ـ وفق تسميتها ـ عن حلب، التي استنزفت الفصائل الإرهابية المحسوبة على واشنطن. ومع هذه المعطيات وأمام إصرارٍ وإلحاحٍ روسيّ على ضرب تنظيم «النصرة» الإرهابي وكلّ الكيانات المرتبطة به، أتى إنجاز هذا الاتفاق لإحياء اتفاق 15 تموز السابق، الذي أجهضته الولايات المتحدة قبل أن يبصر النور. وبالتالي، اتفاق جنيف هو «اتفاق الأمر الواقع» بالنسبة إلى الولايات المتحدة. وهو أمرٌ واقع فُرض على الولايات المتحدة، تحت ضغط الميدان السوري وفشل الفصائل المسلحة بتحقيق أيّ اختراق نوعيّ، على جبهات القتال المتنوعة. وأمرٌ واقع حاولت الولايات المتحدة فرضه على حلفائها الإقليميين والأذرع المسلحة في الميدان السوري، خصوصاً ضرورة فصل «تنظيم النصرة» عن باقي الكيانات العسكرية. وهو أمرٌ كان يرفضه كلّ حلفاء واشنطن، بصيغته المطروحة. وعلى عكسه تماماً، كان الاتجاه العام، إقليمياً، هو دمج تنظيم «فتح الشام» مع «أحرار الشام» وفصائل أخرى، تحت مسمّى جديد، أمرٌ لو تمّ، لوضع كلّ التنظيمات المسلحة الإرهابية على بنك أهداف القاذفات الروسية. وهو ما تحاول الولايات المتحدة تجنّبه، بفرض أمرٍ واقع على حلفائها، بضرورة الفصل تحت تهديد القصف المنسق الأميركي الروسي، لكلّ من يخالف الاتفاق المشترك. يفهم من ذلك، أنّ الولايات المتحدة ومن خلال هذا الاتفاق، كانت تريد ترويض الحلفاء الإقليميين، من جهة. والأذرع العسكرية، من جهة أخرى، لتحقيق رؤيتها الخاصة للأزمة السورية. فالولايات المتحدة، تدرك أن الأزمة السورية هي معركة استنزاف للجميع. وأن الحسم العسكري، كإستراتيجية أميركية، أمرٌ غير وارد نهائياً، أمام صمود الجيش السوري وحجم الدعم الروسي، الذي يتصاعد بتصاعد الخطر. وبالتالي، لا مناصّ من المسار السياسي للحلّ. وهو ما يستدعي، بالضرورة، تحقيق تقدم في الميدان وتحشيد القوى والكيانات السياسية والعسكرية، في مواجهة الدولة السورية. من هنا، كان الاتفاق الأميركي الروسي ينص علانية على تجميد القتال، بين الجيش السوري وكلّ الفصائل الارهابية، المحسوبة على واشنطن، كي لا تُستنزف هذه الفصائل. وتبقى بمأمن من القصف الروسي. وهو ما يستوجب، وفق الشرط الروسي، الفصل التامّ عن «جبهة النصرة» الإرهابية. وفي الحقيقة، أنه لم يمض الأسبوع الأول على اتفاق جنيف، حتى بدأت واشنطن بحصد ثمار مآربها من هذا الاتفاق، رغم تعثره وفرض الأمر الواقع على حلفائها. فلأول مرة، يصدر 34 فصيلاً إرهابياً، بياناً مشتركاً، بما فيهم «حركة أحرار الشام» الإرهابية، مع «الائتلاف السوري المعارض»، مع «جيش الإسلام» الإرهابي وغيرهم من الفصائل، تحت سقف سياسي واحد، يمكن اعتباره بداية خلق كيان سياسي – عسكري موحد، يمثل جسداً واحداً لكلّ الميليشيات الإرهابية والكيانات السياسية التي تموّلها. وتكون، في الوقت ذاته، مقدمة لاندماج القسم الأكبر من ميليشيات «فتح الشام ـ النصرة» الإرهابية، تحت مسمّى جديد، هو، بشكل أو بآخر، إعادة إحياء دمج «أحرار الشام» مع تنظيم «فتح الشام ـ النصرة». ومعه يبقى من «تنظيم النصرة» القسم المتشدد «المهاجر» القاعدي الأصل، الذي بدأ الإعلام المموّل بالترويج له تحت مسمى «تنظيم القاعدة في بلاد الشام». وبذلك تريد الولايات المتحدة من هذا الاندماج، إنْ تمّ استكماله، الذي أتى كأمر واقع، ناتج عن النوايا الأميركية من هذا الاتفاق، لتحقيق جملة من المكتسبات أهمّها: أولاً: تجنيب القسم الأعظم من «جبهة النصرة» الغارات الروسية وهي، بطبيعة الحال، العمود الفقري المسلح ضدّ الجيش السوري، لأن من المتوقع أن تبدأ عمليات الاندماج سريعاً. ومن المتوقع أيضاً، ألّا تتأخر الضربات الروسية. ثانياً: خلق جسد موحد سياسي وعسكري، بقيمة مضافة من المساحات الجغرافية التي كانت تحت سيطرة «النصرة». وهو أمر سيؤثر حكماً، على الناتج النهائي للاتفاق وفق مسار جنيف. ومعه ستقوم واشنطن بإحياء اتفاق جنيف الأول 2012 بزخم أقوى سياسياً وعسكرياً. ثالثاً: هذا الجسد الموحد، إذا ما تمّ الانتهاء من تشكيله، سيحلّ المشكلة الأميركية مع الكرد، في معركة الرقة ضدّ تنظيم «داعش» الإرهابي. حيث من الممكن أن يحلّ، هذا الكيان، بديلاً عن قوات «سورية الديمقراطية»، التي ما زالت تتجنّب معركة الرقة. وهو أمر سيساهم في تلميع صورة هذا الكيان ويعزز حضوره الميداني.
انطلاقاً مما تقدّم، يتضح أنّ النوايا الأميركية من هذا الاتفاق، منذ البداية، كانت تغيير الوقائع السياسية والميدانية في سورية، لفرض الشروط الأميركية على المسار السياسي للحلّ، في مواجهة روسيا، بما يخدم التوجه الأميركي لإعادة بناء أسس جديدة للمسار السياسي للحلّ، بعيداً عن بيانات فيينا وما أنتجته من قرارات دولية، لا سيما القرارين 2254 ـ 2268 اللذين قدمت فيهما الولايات المتحدة الكثير من التنازلات، تحت وطأة الدخول الروسي عسكرياً لسورية، كمتغيّر جيو إستراتيجي فرض وقائع سياسية وعسكرية في مواجهة الولايات المتحدة وحلفائها. وهو ما يقودنا إلى استنتاج الهدف الأميركي من هذا الاتفاق والرؤية الأميركية لمستقبله والتي تتلخص بحماية الكتلة الأكبر من الكيانات العسكرية المسلحة من القصف الروسي السوري، عبر تجميد القتال وإضفاء طابع «الاعتدال» على هذه المجاميع الإرهابية. ولاحقاً، تفريغ اتفاق جنيف من مضمونه، عبر تشكيل جسد موحد للكيانات العسكرية والسياسية يضمّ القسم الأعظم من السوريين الإرهابيين، المنتمين إلى تنظيم «فتح الشام ـ النصرة» الإرهابي. ومستقبلاً، إذا نجح مسعى إنقاذ الاتفاق الذي يحتضر وأمام حالة الإصرار الأميركي على عدم رفع السرية عن بنوده ووثائقه الخمس، خصوصاً في مجلس الأمن، تكون إدارة أوباما قد هيأت الظروف أمام الإدارة المقبلة، لإمكانية التملص من هذا الاتفاق، نظراً لوجود خلافات عميقة داخل الإدارة الأميركية على تفاصيله، يجري الترويج لها وإظهارها دائماً. وعلى اعتبار أنّ هذا الاتفاق هو اتفاقٌ ثنائي لم يكرّس بقرار أممي ملزم.