أساسيات تطوير العقد الاجتماعي…؟

سليم نقولا محسن

يُفترض أن يُقام الميثاق أو العهد أو العقد بين طرفين أو عدة أطراف حقيقيين، لهم مصالح حيوية مهمة بين بعضهم البعض، مكتوباً موثقاً أو عرفياً محفوظاً، لتأمين حقوق الأطراف ذات العلاقة، بما تضمّنته الوثيقة؟ ولا يمكن أن يتمّ الاتفاق مع آخر غير موجود، أو غير مقبول، لأنّ العقد يقتضي التزاماً من قبل الأطراف القادرين المتعاقدين لتنفيذه، وهذا ما ينطبق أيضاً على العقد الاجتماعي؟

فالفيلسوف أفلاطون افترض مجتمعاً منتجاً يحتاج إلى حالة انتظامية هي الدولة، وإلى ملك حكيم خبير يسوسه، ليشغل كلّ إنسان في هذه الدولة التراكبية الوظيفة المناسبة على وجه الدقة لخدمتها، فالدولة هنا حاجة إنتاجية متكاملة، ولا تحتاج إلى عقد ينظم أمور أفرادها، فهي تنتج نفسها، وتحافظ على نفسها… كما تقتضي الحاجة؟

وعموماً فالبشرية منذ فجر وجودها الاجتماعي السياسي عرفت العقود والعهود، فالعهد القديم يخبرنا أنّ النبي إبراهيم ومن ثم النبي يعقوب عقدوا اتفاقاً أبدياً عهداً مع الله، أصبحوا ومن معهم وذريتهم بموجبه شعب الله الذي يقودهم ويحميهم ويقوم طرقهم، فيخاطبهم الله: ستكونون لي شعباً، وأكون لكم إلهاً، وهذه علامتي بينكم، أن يختن كلّ ذكر منكم في اليوم السابع لمولده، كرمز لخضوعهم، ومن ثم جاء عهد جديد خلاصي، يرفع عن البشرية الإثم الذي فرض عليهم العبودية لله، مكتوباً بدم المخلص كما يخبرنا بولس الرسول، لأن نكون أخوة يسوع وأبناء لله، وللناس الحياة الأبدية؟ ومع هذا يطالب في الخضوع للسلطان، فيقول أيضاً: لتخضع كلّ نفس للسلاطين الفائقة. لأنه ليس سلطان إلا من الله والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله.

لكن البشرية في معظم مراحلها وجدت نفسها بين حاكم سيد قد يكون طاغياً أو عادلاً وآخرين محكومين، والحاكم السيد في أكثر الأحيان يستمدّ شرعية حكمه بموجب حق إلهي ممنوح له، لا يمكن للرعية أو لفرد من الرعية مخالفته، لأنه في هذه الحالة يخالف الله..؟ لكن الكثيرين من هؤلاء الحكام كانوا طغاة ولم يحكموا بالعدل كما تقتضي الحكمة، فقامت عليهم الثورات.

انعطافة جديدة…

ومع الاتجاه التطوري للمجتمع الإنساني، كان لا بدّ للبشرية من انعطافة جديدة..؟

فمعظم الدول الأوروبية الغربية قد تواجدت هيكليتها ووظائفها الدولتية وانتظامها، مع نشوء الشركات العابرة في مطلع القرن السابع عشر 1600 إلى 1650، وبما أحدثته من حراك اقتصادي أثر نوعياً في مجتمعاتها، وأدّى إلى ظهور مجتمعات جديدة لها متطلباتها الجديدة وأنشطتها الفكرية/ مثال شركة الهند الشرقية.

فتوماس هوبز في القرن السابع عشر 5 نيسان/ أبريل 1588 – 4 كانون الأول/ ديسمبر 1679 ، قد أشار قبل الثورة الإنكليزية المجيدة التي حدثت في 1688 1689 ضدّ طُغيان الملَكية، والتي تمّ خلالها عزل الملك جيمس الثاني،

إلى وجود عقد بين الحاكم والمحكوم، وعلى الحاكم أن يراعي بموجبه حقوق الرعايا ويحفظها كحق الحياة وحق الحرية وحق التملك، فإذا أخلّ بواجباته اتجاه رعيته حق لهم خلعه..؟

أما چون لوك 1632 1704 فرفض نظرية العقد، واستعاض عنها بكلمة الوديعة، فحقوق الرعايا وديعة لدى من يكون الحاكم، مقابل المحافظة عليها، فإن فشل، يحق لهم استردادها، والثورة عليه وإسقاطه، ومفهوم الثورة لدى لوك هنا: هي لتحقيق النظام والأمن وليس العصيان؟

فقد تحوّل العقد الموصوف بين الحاكم والله في هذه المرحلة إلى عقد اجتماعي غير مكتوب بين الحاكم والشعب على أن يحقق العدل مقابل خضوعهم له، فإذا أخلّ الحاكم بشروط العقد، حق للشعب أن يبطل العقد، وأن يسقط الحاكم..؟

ومع تنامي الطبقة البورجوازية التجارية والحرفية في أوروبا القرن الثامن عشر وخاصة في فرنسا، ظهر مفهوم جديد للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، وبين علاقة أفراد الشعب ببعضهم البعض، لم يتفق مع النظام الملكي السائد القائم ولا أعرافه، حيث يمثل مجلس النواب فيه ال 2/3 من الأرستقراطية ورجال الدين، والباقي من الشعب والذين يشكلون حقيقة الغالبية النشطة بما فيهم الشعراء والمثقفين والمفكرين والتجار والحرفيين والعمال..؟ إذ قد توضح في هذه الفترة مفهوم الشعب وفاعليته، وبالتالي مفهوم العقد، إذ نادى جان جاك روسو 28 حزيران/ يونيو 1712، جنيف – 2 تموز/ يوليو 1778 بالسيادة الشعبية، الشعب هو الذي يملك السلطة والسيادة، الكلمة الفاصلة هي التي تقولها الشعوب لا الحكومات، وأنّ المناصب العامة في الدولة تعيّن من قبل سلطة الشعب التي تمنح وتحاسب في نفس الوقت. فالعقد هو عقد يبرمه أبناء الشعب بينهم، فالواحد يتحد مع الكل، أيّ أنّ الإرادة الفردية تذوب في الإرادة العامة صاحبة السيادة والسلطة وتضع نفسها تحت سلطانها، الإرادة العامة هي سلطة مطلقة أما الدولة وكافة الشخصيات العامة المنتخبة فهم سلطات محكومة من قبل سلطة الإرادة العامة، التي يمثلها الشعب. ونلحظ هنا أنّ الحاكم أصبح خاضعاً للشعب الطبقة البورجوازية الصاعدة وتحالفاته ، وليس طرفاً في المعادلة بين الحاكم والمحكوم.. ولكن زمنها لم يشرح لنا روسو عن ماهية الشعب مالك السلطة والسيادة؟

لقد قام الشعب بالثورة الفرنسية عام 1789 وأطاح بالملكية ونظامها وسفك جراء هذه الثورة الكثير من الدماء إلى أن أعلن نابليون الامبراطورية في 18 أيار/ مايو 1804، التي ضمّت معظم جغرافية أوروبا والتي تُوّج عليها كامبراطور في 2 كانون الأول/ ديسمبر 1804، منهياً فترة القنصلية الفرنسية، وقد استمرّت هذه الامبراطورية في فرنسا وأوروبا حتى انكسار نابليون العسكري عام 1814 في لايبزغ ونفيه إلى جزيرة البا فكانت عودةُ المَلَكية إلى فرنسا في العام 1814 واستمرارها 34 عاماً حتى العام 1848؟

وعلى تعدّد الآراء التي أعقبت هذه المرحلة، وتحدثت عن ماهية الدولة وسلطتها وفي المقابل الشعب وحقوقه.. فلقد ظهرت النظرية الماركسية، التي تخالف هذه الآراء..؟

فهي تقول: إنّ أصل نشأة الدولة، هو انقسام المجتمع إلى طبقات.

الدولة نتاج المجتمع عند درجة معينة من تطوّره، الدولة إفصاح عن واقع أنّ هذا المجتمع قد وقع في تناقض مع ذاته لا يمكنه حله، وعندما بلغ التطور الاقتصادي درجة اقترنت بالضرورة بانقسام المجتمع إلى طبقات متصارعة، اقتضى الأمر قوة في الظاهر فوق المجتمع، قوة تلطف الاصطدام وتبقيه ضمن حدود النظام. إنّ هذه القوة المنبثقة من المجتمع والتي تضع نفسها، مع ذلك فوقه وتنفصل عنه أكثر فأكثر هي الدولة.

لكن أهمّ ما صاحب ظهور الدولة ـ عند إنجلز إنشاء قوة عامة مسلحة لم تكن ضرورية من قبل.

ويسوق إنجلز مثاله الشهير بهذا الصدد، فيقول: وفي مقابل الثلاثمائة والخمسة والستين ألف عبد ـ لا يؤلف مواطنو أثينا التسعون ألفا غير طبقة ذات امتيازات. والجيش الشعبي في الديمقراطية الأثينية كان سلطة أرستقراطية موجهة ضدّ العبيد، وكان يعمل على ضمان طاعتهم وخضوعهم؟

ولما كان جهاز القمع الجديد ـ الدولة عند إنجلز ـ في حاجة للمال فقد نشأ نظام الضرائب، وكانت مجهولة تماماً في ظلّ النظام القبلي، وعن طريق القوة المسلحة والضرائب أصبح الحكام فوق المجتمع.

الدولة إذن ـ في المفهوم الماركسي ـ نظام نشأ من الحاجة للسيطرة على الصراع الطبقي، أو هي تنظيم الطبقة المالكة لحمايتها من الطبقة التي لا تملك.

أيّ استحالة أن ينشأ في الدولة حسب هذا المفهوم أيّ وثيقة عقد أو فصل سلطات، كما يروّج له في أنظمة الحكم الغربية، لأنه واقعاً تنظيم الطبقة المالكة الاجتماعي والعسكري القووي والوظيفي لحمايتها من الطبقة الشعبية التي لا تملك. والمُعدّ لتسخير كلّ إمكانياتها المادية والبشرية لصالح هذه الطبقة.

في هذا الموجز لحالات انتظام الدولة لا بدّ أن نفترض:

1 – حالة الدولة التي تنشئ ذاتها لديمومة آلية عمل طبقتها المنتجة الأساس ووجودها، وهذه لا تحتاج إلى عقد لأنّ كلّ فرد فيها له وظيفته ومكانته في بنيانها، وهو أساسي عضوي في جسم الدولة.

2 حالة وجود عقد إلهي بين الشعب والله، الذي يَفترض قيادة الله لشعبه ورعاية شؤونه، وفي هذه الحالة لا حاجة لوجود عقد وضعي بشري منظم، سوى ما يأمر به الله.

3 حالة النشوء الطبيعي للدول، عقب نظام القبيلة، وظهور الحاكم والمحكوم، وهذه الدول يتسلح فيها الحاكم بحقه الإلهي في الحكم لرعاية شعبه، حيث أنّ الاعتراض عليه أو مخالفته هو اعتراض على حكم الله ذاته، ولا حكم إلا ما يأمر به الحاكم..؟

4 إنّ حالة تطور المجتمعات أدّى إلي التمييز في العلاقة بين الحاكم والمحكوم؟

فلقد قال توماس هوبز بأنّ الرعية لها حقوقها الطبيعية، وأنّ الحاكم ليس عادلاً، ووجوب وجود العقد المشروط حكماً بين الحاكم والمحكوم، الذي يقضي بحق الشعب في إبطال العقد، إذا أخلّ به الحاكم، وإزاحة الحاكم.

5 حالة انتقال مفهوم العلاقة بين الحاكم والمحكوم من العقد إلى الوديعة جون لوك فليس من وجود لعقد بين الحاكم والمحكوم، وإنما الشعب يودع حقوقه لدى الحاكم، فإذا أخلّ الحاكم في الحفاظ على هذه الحقوق، وجب على الرعية استرداد الوديعة، وإزاحته…

6 حالة انتقال مفهوم العقد بين الحاكم والمحكوم، إلى مفهوم العقد الاجتماعي الذي يبرمه أفراد الشعب في ما بينهم روسو وأنّ الإرادة العامة، التي تمثل الشعب، هي سلطة مطلقة أما الدولة وكافة الشخصيات العامة المنتخبة فهم سلطات محكومة من قبل سلطة الإرادة العامة؟

7 أنّ الدولة ليست سوى تنظيم نشأ من الحاجة للسيطرة على الصراع الطبقي القائم، أو هي تنظيم الطبقة المالكة لحمايتها من الطبقة التي لا تملك. ونلحظ هنا انتفاء وجود العقد، لأنّ الدولة المقامة في كلّ تركيبتها وأنشطتها المؤسساتية، قد أنشأتها الطبقة الحاكمة القائدة لخدمتها..؟

فمما سبق لا يبدو أنّ وضعاً سياسياً مماثلاً، قد قامت عليه الدول وحكوماتها في المنطقة العربية، وإن كانت تحاكيه شكلاً وطلاء، قد يكون لها شكل الدول والنظم السياسية، وتأخذ بمقولة سيادة الشعب وسلطته، ولها رئيس حاكم وحكومة ومؤسسات، وشعب، ومساحة جغرافية، إلا أنها دول قد جرى بناؤها من فوق إنْ صحّ التعبير، ولم تحتكم على أوضاع اقتصادية، وحراك الأهالي الإنتاجي والاجتماعي، أو على تمايزات طبقية واضحة؟ ذلك رغم وجود قوى إنتاجية تاريخية متنوّعة فاعلة وعديدة على أرضها، فتنازع المصالح الاقتصادية الدولية وتوازناتها على أرضها، كان لها تأثيرها الطاغي على فاعليتها، فأزاحتها، وعملت على تهميشها وإبعادها عن دورها في بناء مجتمعاتها السياسية ودولها، لكنها في الوقت ذاته لم تزل هذه القوى تختزن تجارب حقب حضارية طويلة تحصّن وجودها، فلقد راقبت فيها أنواع الحكم وشاركت بشكل ما فيها وفي بناء نفسها وسلوكياتها وأعرافها وشخصيتها.. وهذه لا تموت..

وأياً كان الوضع العام الداخلي أو المحيط، مضطرباً أو له شكل الاستقرار، فعلى شعب المنطقة التعايش معه بما يساهم في تأكيد وجوده الحياتي عبر أنواع المشاركة فيه..؟ كما أنّ إعلان أيّ وثيقة دستورية في مثل هذا الوضع المتأزم تكون بمثابة العقد، هي مسألة حيوية وجوهرية لأنها تجسيد وتأكيد لمبدأ اللقاء الوطني والمصالح المشتركة بين أبناء الشعب، كما يمكن تجاوز عيوبها وثغراتها إنْ سنحت الظروف إلى ما هو أفضل؟

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى