هنا بيروت… هنا المقاومة… هنا ساحة خالد علوان!
اعتدال صادق شومان
صار مستفزّاً وغير مقبول، انتهاج أسلوب التعاطي المائع إزاء الرمز والمعنى، وصار مرفوضاً جملة وتفصيلاً.
فالقول إنّ عملية إعدام ثلاثة جنود صهاينة في عملية نوعية بتوقيتها وفعلها وفرادتها، من حيث أنها العملية الأولى في حينه بحقّ جنود العدوّ في بيروت، جاءت محض صدفة، وبقرار فرديّ، ليس إلا إمعاناً بشيطنة أبطال المقاومة، كلّما أشرقت ذكراهم كلّ سنة.
التجاهل المتعمّد بأنّ المقاومة هي خيار وقدر ونتيجة ونهج، ورؤية نضالية فاضت لدى رجال وضعوا أنفسهم في حالة الحرب مع «إسرائيل» منذ لحظة قيامها المزعوم، وما لبثوا، لا يركنون إلى استسلام أو مهادنة بفعل تراكم بناء عقائديّ ثقافيّ، ومخاض نهضة آمنت بأنّ صون الحقوق والسيادة القومية لا يتحقق إلا بفعل سياق مواجهة تشمل المجتمع كلّه بأبعاده العسكرية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وأنّ مقولة «إنّ أزمنة مليئة بالصعاب والمِحن تأتي على الأمم الحيّة فلا يكون لها إنقاذ منها إلا بالبطولة المؤيّدة بصحّة العقيدة»، ليست «كليشيه» تقتضيه المناسبة، بقدر ما هي حقيقة لا لبس فيها.
بهذا البعد، ومن هذا الإرث وهذه المفاهيم ومن هذه المدرسة، خرج خالد علوان ذات صباح، تدلّه خطواته الواثقة. لم يحتج إلى الكثير من الوقت ليحسم أمره ويعيد صوغ الحكاية، ويُخرجها من سياق «كان يا ما كان» إلى فعل «الأمر لي»، فكانت الرصاصات الثلاث، وكان «البيان» على يديه مفصّلاّ من ساحة المواجهة، لا من خلف الأبواب المغلقة. وله تغيّرت الساحات والأسماء، وصار للمقاومة نشيدها «مقاومة لا مساومة»، فخطّ خالد أولى الطلقات على جدار التاريخ الواسع.
نعم، إنها ذاكرة وطن. ومن حيث هي تبقى أمانة حيّة عصيّة على النسيان والمؤامرة. تبقى عبرة وإلهاماً.
هم أبطالنا، هم فخرنا، وشغف كرامتنا، هم شهداؤنا، هم طليعة انتصاراتنا. هم قافلة الخالدين، هم «منّا وفينا».
كأنه لا يكفي أن تمرّ ذكرى مرور 34 سنة لانطلاق جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، ونحن في حيرة، وفي خجل السؤال، لغياب الدولة وتقصيرها في إقامة نصب تذكاريّ يرمز إلى تضحيات شهداء المقاومة في إحدى ساحات العاصمة بيروت، ضمن إطار المحافطة على الهوية الوطنية وتعزيز ترسيخها في الذاكرة الجمعية. كي لا تغيب بيروت عن ذاكرة الأجيال الآتية كحاضنة لأبطالها الأحرار، أسوة بعواصم العالم ـ ولو «من باب الغيرة الوطنية» ـ التي تكرّم شهداءها وأبطالها من رجال التحرير، عبر إطلاق أسمائهم على أهمّ الشوارع والساحات، وتفرد لهم أرقى الأماكن لرفع النصب واللوحات التذكارية. تماماً كما تفعل فرنسا مثلاً، وكما يفعل الأميركيون الذين ـ حتّى اليوم ـ يتغنّون بشهداء معارك استقلالهم عن التاج البريطاني، وبذكرى حربهم معها، رغم انتفاء العداوة في ما بينهم، ودخولهم في معاهدات الصلح، لم يتناسوا شهداءهم أو خذلوا ذكراهم. كذلك اليابان، وغيرها من الدول التي عانت الاحتلال.
بخلافنا نحن، رغم أننا في ظلّ عنجهية صهيونية تستبيح سيادتنا أرضاً وجوّاً وبحراً، نهاراً جهاراً و«على عينك يا دولة»، بقي التمادي سيد الموقف في تجاهل الدولة من تقدّم من أبنائها دفاعاً عن كرامتها، مفتتحين عصر الانتصارات، فأسقطوا من بيروت هيبة ومقولة الجيش «الذي لا يًقهر».
بأقلّ تقديرـ فلتعامل بيروت شهداءنا أسوة بـ«جنرالات الشوارع» من زمن الاحتلال الفرنسي. ومن هذه الشوارع نذكر: «كولمباني»، و«مونو»، «غورو»، «ويغان»، «ديغول»، «كليمنصو»، و«فوش». حتى أنّ هناك شارعاً بِاسم «فرنسا»، وبأسماء شخصيات أخرى من رموز الاستعمار، كـ«اللمبي»، و«سبيرز».
وفي لحظة تخلٍّ، ارتضت بيروت خيانة تاريخها، فانصاعت لدمغ أحد شوارعها بالخيانة السافرة! وهانت عندها دماء شهداء صبرا وشاتيلا وأشلاؤهم الممزقة غلاً وحقداً، وتنكّرت للذين تسامت أرواحهم دفاعاً عنها، فضاقت بهم ساحتها كما أفقها في غفلة من الزمن أمام مدى قاماتهم. غابت عنها أسماؤهم ووجوههم وتاريخ استشهادهم.
فعذراً منكم يا شهداءنا الأبرار. ومهما بدر من تنكّر بيروت الرسمية لكم، تبقى بيروت بأهلها، بيروت أهل «خالد»، بيروت التي حمت المقاومة بين ظهرانيها لحظة توارى «خالد» وسط الحشود.
بيروت بناسها الطيبين، ما نسيتكم، تذكر وجوهكم، وتحفظ أسماءكم. تعرفكم أزقتُها ويعرفكم بحرُها كما منارتها.
هنا كنتم، هنا كمنتم، هنا صمدتم، هنا بيروت عاصمتكم، هنا استشهدتم، هنا مطارحكم، هنا سكنتم أحداق العيون!