ازدواجية المعايير في محاربة «داعش» د. عصام نعمان
أصبح تنظيم «الدولة الإسلامية» المعروف بـِ «داعش» ظاهرة عالمية. هو كذلك بحضوره، مباشرةً أو مداورةً، في الشرق والغرب، دولاً ومجتمعات.
حضور «داعش» المباشر يتجلّى بعملياته الإرهابية، بسيطرته على الأرض مدناً وأريافاً في العراق وسورية، بإقامته «دولة الخلافة» وممارستها سلطة الأمر والنهي على العباد، وباستثمارها موارد البلاد، ولا سيما النفط، استخراجاً ونقلاً وتسويقاً وتحصيلاً لعائدات منه وفيرة.
حضور «داعش» غير المباشر يتأتى عن نفوذه وتأثيره. فهو يستحوذ على نفوذ محسوس ولافت في حواضن اجتماعية واسعة جغرافياً وديموغرافياً هي مجتمعات أهل السنّة والجماعة في معظم بلدان عالم العرب، ولا سيما العراق وسورية ولبنان، إلى امتدادات في سائر أنحاء عالم الإسلام ومجتمعات المسلمين في شتى دول الغرب.
ويمارس «داعش» تأثيراً في بلدان ومجتمعات تحتوي مصالح حيوية للغير، أياً يكن هذا الغير. فهو باستيلائه على حقول النفط في شمال العراق الغربي وشمال سورية الشرقي يمارس تأثيراً سلبياً على حكومتي هاتين الدولتين بما هما مالكتان للنفط، وتأثيراً ايجابياً على الدول المستفيدة من نقله وبيعه واستهلاكه كتركيا و»اسرائيل» والولايات المتحدة وغيرها. كما يمارس «داعش»، بشكل أو بآخر، تأثيراً سلبياً على خطوط المواصلات ووسائط النقل والأطراف المستفيدة منها في بلاد الشام وبلاد الرافدين وبلدان الخليج.
لـِ «داعش» أيضاً حضور وتأثير ملحوظان في عالم الاتصال والتواصل والإعلام. فهو يستخدم وسائلها المتاحة بسهولة ومواظبة مشهودتين لمخاطبة المجتمعات المسلمة كما المجتمعات «الكافرة» في شتى أنحاء العالم وذلك لتجنيد المقاتلين والنشطاء، ولتعميم «ثقافته» وشعاراته، ولتهديد أعدائه، ولتعزيز حضوره المباشر وغير المباشر حيث يريد.
ما سر نمو وبروز ظاهرة «داعش» بسرعة قياسية؟
ثمة أسباب عدّة أهمها ثلاثة: ديني، ومادي، وسلوكي.
دينياً، ركّز «داعش» في دعوته وإعلامه على الإسلام والمسلمين، ولاسيما منهم أهل السنّة والجماعة الذين يشكّلون أكثرية ساحقة في عالم الإسلام. إلى ذلك، ركّز في أنشطته على الأوساط الفقيرة والمهمشة، وخصوصاً ذوي الثقافة البسيطة والمسطحة الذين تتلقف قلوبهم بيسر دعوته ودعاويه وينجذبون إلى شعاراته.
مادياً، تلقّى «داعش» مبكراً دعماً وازناً من دول وحكومات وهيئات وأثرياء ورجال أعمال ظنوا، حالمين أو متيقظين، أن مؤدّى دعوته وحراكه وحركته يخدم مصالحهم في المدى القريب أو البعيد. وعزز «داعش» لاحقاً وضعه المادي باستيلائه على ممتلكات الأهالي وأسواق الصاغة وعائدات النفط في سورية والعراق على نحوٍ حملت بعض أجهزة الاستخبارات في الغرب على تقدير حجم أمواله بمليارات بلايين الدولارات.
سلوكياً، حرص «داعش» في سياسته وأدائه على ممارسة ما يمكن تسميته «خرق قواعد اللعبة». ذلك أن دول العالم بنت وطوّرت على مرّ العصور نظاماً كونياً يتضمن قواعدَ وأحكاماً وأعرافاً في مسائل السلم والحرب والتجارة والتبادل والتواصل والاتصالات والصحة والثقافة جرى تقنينها وتوثيقها في معاهدات واتفاقات وقوانين ترعى العلاقات بين الدول. «داعش» أعلن في دعوته ومارس في حركته خروجاً سافراً على النظام الكوني أو الأممي، أي على قواعد اللعبة والصراع المتعارف عليها والمعتمدة بين الأمم والدول. فقد اعتبرها جميعاً منافيةً لأحكام الدين الحنيف، وأنها صنيعة «الكفار» من كل ملة ودين بقصد النيل من الإسلام والمسلمين.
بتحرير نفسه من «قواعد اللعبة» أصبح في وسع «داعش» مفاجأة خصومه وأعدائه بأعمال وعمليات على غير خط التوقعات وبأساليب ومواقيت غير معهودة وبالتالي في ظروف وشروط غير متكافئة لأطراف الصراع. بعبارة أخرى، استعمل «داعش» في الصراع أسلحةً ووسائل لا يستطيع خصومه استعمالها خشية أن تثير غضب جمهورهم، فكسب بذلك تفوّقاً ظرفياً عليهم. «داعش» يستطيع، مثلاً، أن يذبح صحافياً على مرأى من العالم أجمع ليخيف أميركا حكومةً وجيشاً وشعباً، لكن الولايات المتحدة لا تستطيع الرد عليه، علناً، بأسلوب من الطراز نفسه.
يلقى «داعش» تجاوباً أوسع وبالتالي مقاومة أضعف في كل بلد يرتع شعبه في جهل وفقر ومرض من عقود وعهود، ولا تتمتع حكومته بأي صدقية لافتقارها إلى انجازات محسوسة. وتزداد فعالية «داعش» عندما يجد خصومه في حال ارتباك أو عجز عن الاتفاق لمواجهته، فيستفردهم واحداً تلو الآخر من دون أن يلقى رداً رادعاً. أليست هذه حال دول العرب مع «داعش» في هذه الآونة؟ بل أليست هذه حال دول الغرب أيضاً التي تختلف في ما بينها على تقويم خطر «داعش»، فنرى بريطانيا تعلن بلسان رئيس حكومتها كاميرون أنه أضحى في تقديرها الخطر الأول فيما يرى فيه الرئيس الفرنسي هولند خطراً مساوياً لخطر الرئيس السوري بشار الأسد!
الملك عبد الله بن عبد العزيز بدا متحسساً بنبرة لافتة خطر «داعش». فقد أطلق الأسبوعَ الماضي رسالةً أمام سفراء دول أجنبية وعربية وطلب منهم نقلها إلى رؤسائهم. رسالة العاهل السعودي واضحة ومباشرة: «يجب محاربة هذا الشرير الإرهاب بالقوة وبالعقل وبالسرعة قبل أن يصل إليكم» .
الولايات المتحدة تفهمت أخيراً خطر «داعش» على مصالحها ومصالح حلفائها ومواطنيها فتعجّلت إقامة «ائتلاف دولي» لمواجهته. أدركت، على ما يبدو، أن خطره جدّي جداً وأن احتمال سيطرته على مزيد من حقول النفط في العراق والخليج قد يجعل منه قوة إقليمية ودولية وازنة. ولئن بدت واشنطن مستعدة لاستخدام القوة ضد «داعش» إلا أنها لا تبدو عازمة على محاربته جذرياً بدل احتوائه ظرفياً.
محاربة «داعش» جذرياً تعني، في مفهوم العقلاء والمتعقلين والذين ينظرون إلى أبعد من أنوفهم، تعاونَ جميع المتضررين منه والمستهدَفين بإرهابه بقصد ردعه وإنهائه. فلا سبيل إلى التصدي لـِ «داعش» في العراق وتركه على سجيته في سورية. ولا جدّية في مقاومة «داعش» بالقوة من طرف ومتابعة تمويله وتسليحه من طرف آخر. ولا فعالية ولا صدقية لطرف يعتبر أفاعيل «داعش» إرهاباً في كردستان العراق وعدوانَ «إسرائيل» دفاعاً عن النفس في غزة.
ازدواجية المعايير هي النفاق بعينه ليس إلاّ.
وزير سابق