رياح… وسفن معن بشور
لم يكن يخطر ببال رئيس وأعضاء وفد الدولة السورية إلى «جنيف2» أن يتحول مطلبهم بأن تكون «مكافحة الإرهاب» البند الأول في المحادثات لتطبيق اتفاق جنيف، إلى مطلب دولي بهذه السرعة، وأن تصبح حكومات غربية وعربية وعلى رأسها واشنطن في طليعة المتحمسين لأولوية هذا المطلب بعد أن ساهموا بإفشال «جنيف 2» بسبب رفضهم له، على رغم محاولتهم تفسيره اليوم بما يخدم مخططاتهم وازدواجية مواقفهم، وكمدخل لإعادة نفوذهم، وربما احتلالهم، للمنطقة والإقليم.
بين «جنيف 2» والجو الصقيعي الذي انعقد فيه، وبين التطورات الملتهبة التي تعيشها المنطقة هبت رياح كثيرة ولكنها لم تجر بما كانت تشتهيه «صقور» واشنطن وحلفاؤها الأقربون منهم والأبعدين.
بعد «جنيف 2» انفجرت أحداث أوكرانيا لمشاغلة موسكو عن موقفها الصلب تجاه سورية المتمسك بالقانون الدولي، والميثاق الدولي، والأعراف الدولية، ولكن رياح الفاشية الشوفينية الأوكرانية لم تجر كما تشتهي سفن «الفاشيين الجدد» المنتشرين في دوائر القرار الأميركي والذي أرادوا فخاً لروسيا في كييف يحاكي الفخ الأفغاني الذي واجهه الاتحاد السوفياتي في الثمانينات وساهم في انهيار القطب الثاني في معادلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
فما أرادته واشنطن فخاً لموسكو لإغراقها في وحول أوكرانيا، وتدمير ما بنته من جسور بينها وبين أوروبا، وخصوصاً ألمانيا، ضاربة بعرض الحائط بكل الاعتبارات الأخلاقية والسياسية والاقتصادية والإستراتيجية، تحوّل إلى فخ للسياسة الأميركية ذاتها، كما بات يقول أبرز المحللين الأميركيين والدوليين ومراكز الأبحاث في الولايات المتحدة، وإذ بواشنطن وحلفائها في الحلف الأطلسي يظهرون مرتبكين أمام سياسة موسكو في أوكرانيا، ويلجأون لتبرير هزيمتهم بالحديث عن حرب تشنها روسيا على أوكرانيا، كما أصبحت أدواتهم في كييف مرتبكة، وتحولت بقايا النازية، ممن خطفوا السلطة ذات ليل، إلى عبء أخلاقي واقتصادي وسياسي وعسكري على من شجعهم على انقلابهم مستفيدين من دون شك من أخطاء حكام تولوا السلطة وظنوا أن دعم موسكو لهم كافٍ ليعيثوا فساداً في بلادهم، ثم ليهربوا في أول لحظة مواجهة.
وبعد «جنيف2» انفجرت الأحداث في غرب العراق، ليمتد حريقها إلى شرق سورية، كتتويج منطقي لسياسات الاحتلال الأميركي وأثاره التي فخخ فيها بول بريمر العراق بدستور المحاصصة الطائفية المذهبية وبحل الجيش الوطني واجتثاث البعث، وفخخ فيها مهندس الفتن خليفته نيغروبونتي المجتمع العراقي بلعبة الفتنة المذهبية والاحتراب الأهلي. وهو خبير بها منذ «ولايته» لسفارة بلاده في السلفادور، وهي فتنة رقص فوقها سياسيون من هذا الطرف أو ذاك ظناً من كل واحد منهم إن بإمكانه إلغاء الآخر في بلد تثبت الأيام أنه «عصي» على الاحتلال و»الاختراق» ، كما هو عصيّ على الاجتثاث والتكفير وكلاهما ينبعان من جذر واحد.
وهنا أيضاً لم تجر رياح الفاشية التكفيرية بما تشتهي سفن أهل الفتنة في واشنطن وغيرها من عواصم الحقد والتعصب والانغلاق في الإقليم، فإذا بهؤلاء جميعاً أمام مأزق تمدّد هذه الفاشية المتسترة باسم الدين، والمتجلببة بشعارات عزيزة على أبناء المنطقة المتشبثين بعقيدتهم وإيمانهم لتصل إلى بلدانهم وعواصمهم، بل إذ بهم يحارون في أي إستراتيجية يعتمدون قبل أن يصل الهشيم إلى مصالحهم ومواقعهم.
وبعد «جنيف 2»، بدأ أيضاً العدوان الإرهابي الصهيوني على الشعب الفلسطيني ومقاومته في غزة، وظن أصحاب العدوان القريبون منهم والأبعدون، أنهم قادرون في لحظة انقسام فلسطيني تغذّى بتجاذبات إقليمية وتعمّق برهانات ومصالح سلطوية وفئوية عابرة ، أن يحققوا أغراضهم في غزة وكل فلسطين. واعتقدوا أنهم في لحظة خلاف بين عواصم عربية وإقليمية مؤثرة وبين القيمّين على الأمور في غزة على سلم الأولويات في هذه المرحلة من حياة الأمة، قادرون أن يسحقوا المقاومة على طريق تصفية القضية ووضع الشعب الفلسطيني البطل، ومعه أبناء أمته، أمام خيارين لا ثالث لهما، إما الاستسلام طوعاً أو الاستسلام موتاً.
وهنا أيضاً لم تجر رياح الفاشية الصهيونية، ومع اعتمادها أساليب الفاشيين الأوائل والنازيين ومحارقهم، بما تشتهي سفن رعاة الفاشية والصهيونية في واشنطن، بل انتصرت غزة ومعها فلسطين كلها، والأمة وشرفاؤها، والعالم وأحراره، وتبخر الانقسام الفصائلي أمام أسطورة الوحدة الميدانية والسياسية الفلسطينية، بل تصرف القادة الحقيقيون في الأمة والإقليم على قاعدة وصفها الشاعر يوماً:
وان الذي بيني وبين بني أبي وبين بني عمي لمختلف جداً،
إذا أكلوا لحمي وفرت لحومهم وان هدموا مجدي، بنيت لهم مجداً
وان ضيعوا غيبي حفظت غيوبهم وان هم هووا غيّي هويت لهم رشداً
ولكن هل يكفي أن لا تجري الرياح العاتية في المنطقة بما تشتهيه سفن أعدائها، حتى نقول أننا انتصرنا؟!
هل كانت هزائم أعدائنا وحدها، حيثما واجهوا مقاومة بطولية، كافية لكي نعتبر أنفسنا منتصرين؟
بالطبع لا، إذ تثبت كل انتصاراتنا على أعدائنا أنها لم تكن كافية وحدها لنبني مجتمعاتنا ودولنا كما نريد، بل كما تقول المعادلة الهندسية في الرياضيات كانت «ضرورية ولكنها لم تكن كافية».
فلكي تكتمل انتصاراتنا في كل مجال المطلوب منا جميعاً، أهل الانتصار والفرحون به، مراجعة جذرية عميقة، لا مكابرة فيها، ولا إنكار لحقائق ووقائع تفرض نفسها على الأرض.
هذه المراجعة هي شريكة المقاومة في مواجهتها للأعداء، وسند المصالحة في ردم الهوة بين مكونات أمتنا والإقليم، ولصيقة المشاركة التي لا مكان فيها للإقصاء والإلغاء والاجتثاث، بل هذه المراجعة باتت مطلوبة اليوم أكثر من أي وقت مضى لكي نتحرر من سجون الماضي وصراعاته وعصبياته، ولكي نبني الحاضر بكل تعقيداته، ولكي نطلّ على المستقبل بكل رحابته ووعوده.
عشية العدوان على غزة قلنا «المعركة الكبرى… والمراجعة الكبرى» واليوم نقول بعد أن انتصرنا في المعركة على العدوان لا بد أن ننتصر في المراجعة وبها أيضاً.
الأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي