نحو إعادة صياغة الوعي العربي

راسم عبيدات ـ القدس المحتلة

على ضوء ما يشهده العالم العربي من فتن مذهبية وطائفية وعرقية واثنية، وسيادة ثقافة الإقصاء والتكفير والتخوين «والتدعيش» للوعي والحياة الاجتماعية والثقافية في المناطق التي سيطرت عليها ما يُسمّى بدولة الخلافة في العراق والشام، وما رافقها من تفكّك للدولة المركزية الى دويلات طائفية ومذهبية، تتحكّم فيها ميليشيات وبلطجية وزعران، وعكس هذه الثقافة لنفسها، ليس فقط على الواقع السياسي العربي، بل هذه الثقافة التخريبية والمدمّرة تطال بشكل أساسي النسيج المجتمعي في العالم العربي، حيث أصبحنا امام مجتمعات عشائرية وقبلية وجهوية وطائفية ومذهبية، لا يربطها رابط بواقعها ومحيطها الوطني والقومي، وواضح أنّ هناك مشروعا سياسيا خطيرا، يجري تنفيذه من أجل نحر هذه الأمة، وجعلها امة خارج التاريخ البشري العاقل، بحيث تتحوّل دولها الى كيانات اجتماعية هشة ودول فاشلة كما هي الحال في الصومال وليبيا والعراق الذي تتعرّض للتفتيت والتقسيم، وهذا المشروع تشارك فيه قوى محلية المتأسلمون الجدد ، «داعش» و»النصرة» والسلفية والإخوان المسلمون والوهابية، ورغم اختلاف التسميات فهي نفس المنتج والماركة والمصنع، ولكن مقتضيات السياسة والعلاقات الدولية، تقتضي تغيير التسمية بناء على الدور والوظيفة والمهمة لكلّ واحدة منها، هذه القوى وغيرها من القوى المتأسلمة الأخرى والتي تريد ان تعلي حزبيتها وهويتها المذهبية فوق هويتها الوطنية والقومية، وهذه الثقافة عكست نفسها هواجس وخوفاً عند باقي مركبات ومكونات المجتمعات العربية الأخرى، حيث وجدنا العديد من تلك المركبات والمكونات تنسحب نحو هويتها الطائفية والمذهبية على حساب الهوية الوطنية والقومية، وبدأت بخلق تنظيماتها السياسية ومؤسساتها المجتمعية على أسس مذهبية وطائفية وعرقية، وبما يكشف بأن المستهدف من هذا المشروع الخطير، هو الفكر والهوية القومية العربية، وهذا المشروع الخطير، ليس حوامله فقط هم القوى المتأسلمة، بل هناك قوة دفع كبيرة تقف خلف هذا المشروع، تشارك فيها قوى عربية وإقليمية ودولية، حيث أننا نقف على مفترق طرق ومعركة مصيرية ومفصلية، حيث تخاض الآن حرب شرسة وطاحنة لتصفية وإزالة ما تبقى من جيوب المشروع القومي، وحيث جرت وتجري عملية تصفية لتركته، هذا المشروع الذي شهد تراجعاً كبيراً بعد اتفاقيات كامب ديفيد، بخروج مصر بثقلها العسكري والسياسي والبشري من هذا المشروع، وليبلغ المشروع ذروته بتدمير العراق ومن ثم احتلاله، حيث جرت خلخلة كبيرة وشروخ عميقة في جدار النسيج المجتمعي العراقي، وانقسم المجتمع العراقي مذهبياً وطائفياً وعرقياً وأثنياً، ولم نعد امام مجتمع عراقي ودولة مركزية واحدة دولة ديكور ، يجمعها نفس الهدف والمصير، او ان مصلحة العراق فوق مصلحة الجميع، بل تمّ استدخال الفتنة الى المجتمع العراقي، وفق مخطط مدروس وممنهج مشروع الفوضى الخلاقة الأميركي ، فواضعو وأصحاب هذا المشروع، أرادوا له التقدم على محورين، محور أسلمة الفتنة سنية – شيعية وتطييفها بجعلها إسلامية مسيحية، على ان يجري نقل الفتنة من مستواها الرسمي الى الشعبي، وهذا الدور عهد به للمرجعيات الدينية، وعربياً وإقليمياً ودولياً، كان يجري تصفية حساباتهم والصراع على مصالحهم فوق أرض العراق وبدماء العراقيين انفسهم، حيث أصبحنا أمام عملية تقسيم حقيقية للجغرافيا العراقية دويلات سنية وشيعية وكردية، تتناحر وتتصارع، وتفعل فعلها في تدمير المجتمع العراقي، وبما يلغي هويته القومية.

ودخل عامل جديد على خارطة ولوحة الصراع والتقسيم في العراق، هو سيطرة دولة الخلافة على قسم كبير من الأراضي العراقية، وما قامت به من جرائم ومجازر وحشية، تصل الى حدّ التطهير العرقي و»الهولوكست» بحق الأيزيديين في جبال سنجار قرب الموصل، والعرب المسيحيين في العراق العائد وجودهم في المنطقة وتحديداً في الموصل الى حوالى 2000 عام.

وخطر «داعش» لم يعد مقتصراً على العراق وسورية، بل تمدّد نحو لبنان والأردن، وهذا الفكر وتلك التيارات تنمو وتتكاثر في البيئة والمجتمعات المغلقة والمتخلفة، والتي لم تعرف الحياة المدنية وتداول السلطة والمجتمع المدني، كالسعودية والإمارات وقطر وغيرها، ولذلك مقاومة تلك الجماعات التكفيرية والشاذة والمغرقة في التخلف والرجعية في المشرق العربي ذي الحضارة والمدنية والمؤسسات الحزبية والمدنية، يدفع بهذا الخطر وتلك الجماعات، لكي ترتد نحو نحو دفيئاتها وصنّاعها وحواضنها والبيئة المناسبة لها في الخليج العربي.

حملة هذا المشروع والمخطط، يدركون جيداً بأنّ نجاح هذا المشروع يتوقف بشكل أساسي، على تصفية حوامله الأساسية، مصر وسورية، فبتصفية هاتين الحلقتين يسقط المشروع القومي، بشكل نهائي، وتفقد الأمة خصائص وجودها كأمة، ويستعاض عنها بدويلات مذهبية وطائفية وعرقية، أو دول دينية غير قادرة على البقاء، لأنها غير قادرة على التعبير عن كلّ مكوّنات ومركبات مجتمعاتها.

كان واضحاً أنّ مشروع الفتنة تقدم نحو العراق، ولكن كان مطلوباً له وللفوضى الخلاقة، ان تتقدم باتجاه حلقات وجيوب المشروع القومي الأخرى، التي تقف في وجه المشروع الأميركي للمنطقة، فكانت الحرب العدوانية التي خاضتها «إسرائيل» بالوكالة لأول مرة على المقاومة اللبنانية وفي المقدمة منها حزب الله في تموز/2006، لخلق ما يُسمّى بالشرق الأوسط الكبير، ولكن لم تنجح اميركا و»إسرائيل» في ذلك، بفعل صمود حزب الله.

على ضوء ذلك رأت اميركا أنه من أجل ضرب حلقات المشروع المقاوم والممانع، إقليمياً وعربياً، ايران سورية وحزب الله والمقاومة الفلسطينية، فلا بد من التقدم على صعيد شعبنة الفتنة المذهبية، وخلق ادوات جديدة مقبولة شعبياً وجماهيرياً قادرة على لعب هذا الدور، بعد أن استنفذت الأنظمة الدائرة في فلك اميركا قدراتها على لعب هذا الدور، حيث لم تعد مقبولة لا جماهيرياً ولا شعبياً النظام التونسي، اليمني، المصري، الليبي ، فكانت ثورات ما يسمى بالربيع العربي، الاستفادة منها من اجل عقد صفقة مع الإخوان المسلمين لتسليمهم السلطة في تلك البلدان، مقابل حماية المصالح والأهداف والمشاريع الأميركية في المنطقة، والاستفادة منهم وتطويعهم من أجل تقدم المشروع الأمريكي في المنطقة مشروع الفوضى الخلاقة ، وبالفعل بعد تسلم الإخوان للسلطة في تونس ومصر وليبيا، صعد الإخوان بدعم مباشر ورئيسي من مشيخات النفط قطر والسعودية من حربهم المذهبية تجاه ايران وحزب الله وسورية، ولعبوا دوراً مركزياً في الحرب التي تشن على سورية، من اجل كسر هذه الحلقة المركزية، باعتبارها آخر جيوب المشروع القومي الذي تجب إزالته وتصفيته، ولكن تعثر المشروع هنا، حيث صمدت الحلقة السورية ومعها الحلقة اللبنانية المقاومة، وتعثر مشروع الإخوان، بسبب عقلية الإخوان الإقصائية وفكرهم الانغلاقي وعماهم السياسي وجهلهم وتخلفهم الإداري، وتم إسقاط هذا المشروع عبر الإرادة الشعبية، التي عبّرت عنها الجماهير المصرية، حيث تمّ عزل الرئيس المصري مرسي، وجاء على انقاضه حكم العسكر بقيادة السيسي،والذي حتى اللحظة الراهنة،يواجه ازمات داخلية وحالة من عدم الاستقرار وعدم وضوح رؤيته وبرنامجه السياسي على الصعيد الخارجي، وإن كانت الحرب العدوانية الأخيرة على قطاع غزة، قالت بشكل جلي وواضح بأن هذا النظام لم يخرج من العباءة والحضانة الأميركية، وواضح ايضاً بأنّ الجماعات التكفيرية والإخوان المسلمين سيدخلون مصر في اتون الفتنة المذهبية والطائفية، تلك الفتنة التي تستهدف مصر كحاملة للمشروع القومي.

ولذلك بات من الملح، أن تجري عملية مراجعة شاملة للفكر والوعي العربي، مراجعة وصياغة تطال المفاهيم والبرامج والرؤى، من اجل خلق مجتمعات مدنية، تتسع لكل أبناء الوطن الواحد، تتساوى فيها في الحقوق والواجبات، وتصان فيها الحريات العامة والخاصة والكرامات، ويجري التعبير فيها عن همومهم وطموحاتهم، وتوحدهم عبر مشروع عربي نهضوي قومي واحد، فالدول الدينية لن تكون بأي شكل من الشكال جامعةً وموحدا للأمة، ومعبرة عن هويتها وقوميتها، بل ستغرق المجتمعات العربية في اتون صراعات وخلافات ومذهبية وطائفية وعرقية، تجرنا الى الخانة التي يريدها أصحاب المشاريع المشبوهة لأمتنا، مشاريع التفتيت والتقسيم على أساس الثروات والعوائد والمذهب والطائفة.

Quds.45 gmail.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى