القصيدة بوصفها معادِلاً لحياة يرسمها اغتراب الروح في ديوان «كلّهم يركضون خلفك… الصياد والغزالة والغابة»
أحمد الشيخاوي
ككائنٍ ليليّ يقبض على المسألة الوجودية من جوانب العبثية والعدم، يطالعنا الشاعر الفلسطيني المتألق خالد صدقة عبر أجدد إصداراته، بجملة من الإكراهات الحياتية وهي تقود الأنامل وتوجهها إلى ما يشبه الانفجار في وجه نقص العالم وسلبيته، بحيث يتمّ ذلك بالانكفاء على عزلة إبداعية قحّة وسليلها، ما يمكّن أحاسيس الوحدة أن تنطق وتجود به وتتيحه كضرب من الانشطار الذاتي، ولون من النبش في الكينونة.
كغيض من فيض، يمكن أن تحقننا به الغيبوبة في التواءات المعنى المقطّر من لغة سلسة وبسيطة جداً تسم منجز «كلّهم يركضون خلفك… الصياد والغزالة والغابة» في تنويعات سياقية وتلوينات متونية نكاية في المرارة الطافحة التي قد يولّدها الآنيّ كضريبة مباشرة لمحاولات التنصّل من سلطة الذاكرة. لعلّه بعض ما تشي به التقمّصات المتقنة للشخصية الأحادية في حدود سردية ومسرحة نادرة للأحداث.
متوالية مطوّلات مثقلة بكاريكاتيرية المشهد وانحسار الخطاب المقارع بثمثلات الملامة والعتاب الحضاري جداً، للحبيبة الغائبة/الحاضرة كبؤرة لجسد النصّ الإيروتيكي المدغدغ بمعادلات ترجيح المعلوماتية على العنصر الاستطيقي.
ذلك أن العتبة وحدها، تمثل المفتاح السحري لولوج خبايا شعرية ممسوسة بانطباعات العدائية الدالّة على تمزّق الذات.
كأنه تكتّل كوني في مجابهة واحدية شاعرنا، المؤمن حدّ اللامعقول بقضيته، أعزلاً إلّا من شعر يجيء تلقائياً، ومن ظرفية رمادية يلفّها وابل من القلق والشك والوساوس وعدم الاطمئنان لشيء مهما يكن، بما في ذلك الهوية الراهنة.
ومسايرة للطرح المذكور، نقترح التماعات من الديوان نجردها تباعاً كالتالي:
كلّ ما حصلت عليه في نهاية الأمر
أن صار لديّ قصة ما…
أستطيع أن أحكيها لامرأة ما
الحبّ:
أن أضحك الآن فجأة
على نكتة قلتِها في 2012
لستُ حزيناً بما يكفي
لستُ وحيداً بما يكفي
لأخترع القصيدة
يقول الشخص في الكابوس:
من أسوأ الأمور التي قد تحدث لشخص ميت
أن يتذكّر حياته السابقة، بهذا الوضوح.
يقول شخص ميت لنفسه:
لو أنك لم تأتِ
لو أنك لم تأتِ
تقول امرأة وحيدة تجلس على طرف السرير لنفسها:
لِمَ لا يلاحظني أحد؟
لِمَ لا ينتبه لوجودي أحد؟
أقول لنفسي:
وقائمة أهداف مثبتة على باب الثلّاجة:
ألّا أبقى وحيداً
ألّا أبقى وحيداً
ألّا أبقى وحيداً
ألّا أبقى وحيداً
ألّا أبقى وحيداً
ألّا أبقى وحيداً مكتوبة بين قوسين .
أيّها القلب
اِرجعْ إلى الوراء
جيّد جيّد
اِرفعْ رأسك قليلاً
نَعم هكذا، هذا مناسب
والآن اِبتسمْ…
سألتقط لك صورة.
وما زالت لديّ تلك المسافة بيني وبين الأشياء، كأني أشاهد العالم من وراء فيترين، كلّ العالم خلف الزجاج، كلّ العالم هناك. في الداخل، ألصق رأسي على الزجاج، أضغط بشدة كمحاولة يائسة للانتماء.
الكون…
كلّ الكون
رنّة خلخال في ساقك.
أن أضع رأسي المهشّمة
رأسي التي من طحالب ونهايات
على فخذك الأيسر
وأبكي
أبكي بلا سبب.
فقط
عندما أنظر في المرآة
أكتشف كم أنا وحيد
المرآة مثل جهاز تصوير أشعة إكس
تستطيع أن ترى من خلالها بوضوح
الهيكل العظمي لحزنك.
أنا روسيّ في الحبّ
أضع المسدّس تحت ذقني
وأضغط على الزناد
إما أن تقتلني الرصاصة الوحيدة
أو أنجو من حبّك هذا
أنا لا أجرّب حظّي مرّتين
وبلهجة آمرة:
خذني أيها الحبّ،
إلى حتفي.
أنت تقودين وتهتمّين بالطريق
وأنا أهتمّ بمراقبة أصابعك
وبرعاية قطيع الشامات على صدرك.
أعرف فقط
أنه كانت لديّ حبيبية
وأنها ذهبت
إلى الأبد
هذه الليلة…
لا أريد أن أكون وحدي
هذه الليلة
سأخترع حبيبية.
بالتالي، نحن بصدد قضية إنسانية بامتياز، اقتضى صوغها الجنوح إلى قاموس تفاصيل اليومي واقتناص مفردات المتداول والشائع.
كتابة مغايرة تتنفّس ألقها من الإشكالية الوجودية مدبّجة بكمّ من المعالجات التي تركب موجة تعرية ماهية الظلّ عبر مثاقفة لافتة بين الذات والموضوعة إذعاناً لخلفيات التصدّي الحذر لما قد يشوّش على حسّ الانتماء وينغّص على بعض تجلياته.
قضية شائكة ومتشعّبة تلعق ملء الكلمة الصادمة، الوجع العام، متّشحاً بفرو الواحدية في سعيها الحثيث إلى الخلاص والتعدّد.
إنها شعرية تنشقّ عن اللُحمة المركزية لتعود إلى وهجها، «متعنترة» بعنفوان سلوكيات الصعاليك في رؤاهم ومواقفهم الجسورة وعصيان أحلامهم وجموحها وزهدها في التكيّف مع المؤدلج والرسمي والزائف وكل ما من شأنه تبرير أخطاء الواقع.
تلكُمُ عفوية الشعر لمّا يجيء ملء الحمولة وعلى مستوى الوعي، ليستفزّ ويدهش ويربك، متعثّراً بإملاءات هلامية تغذي لهاثاً وركضاً يروم المفقود.
كقصيدة تنهل من غربة الروح بغية اختراع حبيبة مثالية، وهل الأنوثة وإن شاكنا ترهل صورها هاهنا في شتى تمفصلات القول الشعري، إلّا حالة أو مرآة لوجع الأوطان؟
كذلك هي القصيدة الموازية لحياة المعاناة مضاعفة، والرعاف الأبدي لإنسانيتنا، وطعنتنا هنا/هنالك في الانتماء لحبيبة مُكنّاه فلسطين.
شاعر وناقد مغربي