النازحون تحدّ قومي وإنساني يستوجب المواجهة بتعاون وثيق بين لبنان وسورية
بيروت – عبدالله خالد
أفرزت الحرب الكونية على سورية، بالإضافة إلى التدمير الممنهج لموقعها ودورها ووظيفتها وصولاً إلى إسقاط نظامها السياسي لمنع إمكانية استمرار تهديده للمخطط الأميركي – الصهيوني الذي يستهدف تثبيت الاحتلال الصهيوني لفلسطين والهيمنة على ثروات المنطقة، معضلة النزوح السوري من المناطق التي طاولها الدمار والخراب هرباً من استمرار المعارك أو من ظلم الإرهاب التكفيري الإلغائي. لقد تشتّت النازحون السوريون من كلّ بقاع الأرض وبشكل خاص في الدول المجاورة، ومنها تركيا التي كانت قد أعدّت مخيمات النزوح قبل بدء الحرب – في مؤشر واضح على أنها حرب مفتعلة – وهكذا جمع النازحون في مخيمات هي أشبه ما تكون بمعسكرات اعتقال تنتهك فيها أبسط حقوق الإنسان، وتمارس فيها كلّ أنواع الضغوط لتحويل القاطنين فيها إلى بيئة حاضنة للإرهاب وتتمّ فيها عملية تحويل الشباب إلى مقاتلين يتمّ إرسالهم إلى جبهات القتال لمقاتلة الجيش العربي السوري.
أما في لبنان فعلينا أن نتذكر أنّ محاولات قد جرت لاستكشاف إقامة مخيمات في منطقة عكار بالتزامن مع المحاولات التركية. ولكن تلك المحاولة لم تنجح لأسباب كثيرة يأتي في مقدمتها طبيعة التوازن القائم في لبنان الذي لا يسمح بخوض مواجهة مكشوفة ضدّ سورية. وقد يكون هذا الأمر هو العامل الأبرز لانتهاج سياسة النأي بالنفس التي تعكس عدم الرغبة في التواصل مع الحكومة السورية رغم المعاهدة والاتفاقات المعقودة بين الدولتين، بالإضافة إلى فتح الحدود لدخول النازحين بحجة العامل الإنساني دون أن يتمّ التدقيق في طبيعتهم لحصر أعدادهم ونوعياتهم، وهذا ما أضفى الغموض على هذا الملف وسمح باستغلاله من أكثر من طرف يتعاملون معه وفق مصالحهم، متجاهلين مصلحة النازحين أنفسهم والسعي لاستخدامهم كورقة في الصراع الدائر في المنطقة. وهذا ما أدخل في صفوفهم أطرافاً متعدّدة من ضمنها المسلحون الذين يقاتلون النظام في سورية ومجموعات تكفيرية متعدّدة.
لا يحتاج المراقب الراغب في معرفة حقيقة أوضاع النازحين إلى المزيد من الوقت لتلمّس أوضاعهم الصعبة ومعاناتهم واستغلال واقعهم المعيشي لإدخالهم في مشاريع لا علاقة لها بها، وإنْ كانت تصبّ كلها في إطار منع عودتهم إلى سورية والسعي لإضفاء صفة اللاجئين عليهم وطرح إمكانية توطينهم وتجنيسهم وإدخالهم في إطار لعبة الأمم الهادفة إلى جعلهم أدوات في محاولة إثارة التناقض الطائفي والمذهبي التي برع الغرب في استخدامها. وكانت المفاجأة أنّ النازحين رفضوا – كما رفض الفلسطينيون من قبل – التخلي عن هويتهم الوطنية، وأقدموا على المشاركة في انتخابات الرئاسة بكثافة مذهلة أطاحت بكلّ أوهام محاولة استدراجهم إلى مواقف ومواقع لا يرغبونها.
صحيح أنّ النازحين شكلوا رقماً لا قدرة للبنان على تحمّل تداعياته الديمغرافية والاقتصادية والاجتماعية ولكن حلّ هذه المعضلة لا يكون بإعطائها طابعاً عنصرياً لضرب العلاقة اللبنانية – السورية التي أثبتت نجاحها في تحرير جنوب لبنان ومواجهة المخططات المعادية. كما أنّ أيّ حلّ لمعضلة النازحين يحتاج إلى تعاون وتنسيق بين الدولتين لمعالجتها ووضع الحلول لها. ولا يفيد هنا اللجوء إلى المجتمع الدولي بدلاً من التفاهم اللبناني – السوري بسبب سياسة النأي بالنفس التي تزيد الأمور سوءاً ولا تخدم مصالح البلدين.
وإزاء الشعور بأنّ معضلة النازحين أصبحت قنبلة موقوتة يمكن أن يستخدمها أيّ طرف لتمرير مصالحه الخاصة على حساب النازحين بالدرجة الأولى دون أن يدخلوا في عمق حلّ قضيتهم ودون أن يقلصوا تداعياتها على الداخل اللبناني. وفي غمرة تفاقم مخاطر هذه المعضلة سعت بعض القوى الحية في المجتمع اللبناني بمشاركة بعض الشخصيات الوطنية لأن تتصدّى لمعالجتها. وهكذا عقد «اللقاء الوطني للنهوض والتغيير» سلسلة لقاءات انتهت إلى إقرار سلسلة من التوصيات جمعت في مذكرة وكلفت لجنة بمتابعة هذا الموضوع عبر إيصالها إلى من يفترض بهم أن يتصدّوا للمعالجة التي تتطلب تنسيقاً وتعاوناً بين المسؤولين في لبنان وسورية. وهكذا شكلت لجنة ضمّت: عصام نعمان، زاهر الخطيب، علي دندش، سايد فرنجية، عادل يمين، موريس نهرا، سركيس أبو زيد، وجيه فانوس وعبدالله خالد، سلّمت المذكرة للرئيس تمام سلام والسفير السوري على عبد الكريم علي، وجالت على فعاليات وطنية لوضعهم في أجوائها.
وهذا نص المذكرة: «تتوالد الأزمات والفضائح والمآسي في لبنان كالفطر. بعضها نتاج عيوب بنيوية واختلالات داخلية، سياسية، اقتصادية، واجتماعية. وبعضها الآخر نتاج تدخلات خارجية تنطوي على مخططات خبيثة لتمزيق النسيج الاجتماعي للبلد كما لبلدان الجوار، واستغلال العصبيات المذهبية والطائفية والعرقية لتنفيذ مشروعات تقسيمية، محلية وإقليمية. ولعلّ أخطر الأزمات والتحديات القائمة والماثلة قضية النازحين السوريين الذين هجّروا من ديارهم بسبب الحرب في سورية وعليها، كما بفعل تنظيمات الإرهاب والعنف الأعمى. وازدادت قضية النازحين تعقيداً بفعل عاملين خطيرين: التمييز الفئوي ضدّهم، وتقصير الحكومة اللبنانية في معالجة أزمتهم المتفاقمة. فبعض اللبنانيين يمارسون بدوافع شتى لوناً من التمييز الفئوي يتعارض مع الروابط الأخوية والمصالح الاقتصادية التي تجمع البلدين التوأمين والجارين.
التمييز الفئوي اقترن بجهل معظم المسؤولين وتجاهلهم خطورة قضية النازحين وأبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والديموغرافية، وتغاضي الحكومة عن وجود نحو تسعين ألف نازح خارج سلطة الدولة وعرضة لخضوعهم لسلطة الإرهابيين وتهديدهم الدائم. إلى ذلك، لا يجوز الاكتفاء برفع الصوت خافتاً في المحافل الدولية طلباً لمساعدات مالية لا تغني ولا تسمن من جوع. ولا يجوز السكوت عند بند «العودة الطوعية» للنازحين السوريين الوارد في قرار مجلس الأمن رقم 2254 الذي جاء الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون بغية تسويقه لدينا. ولا يجوز أن ترفض الحكومة اللبنانية التواصل مع الحكومة السورية للتوافق على أسس ومناهج لإعادة النازحين إلى ديارهم وبيوتهم، كما لتوحيد المواقف من الدول الكبرى والأخرى المعنية بغية تعظيم الضغوط عليها لحملها على المشاركة جدياً في خطط لإعادة النازحين إلى ديارهم بالسرعة الممكنة.
في غمرة مخاطر هذه القضية المتفاقمة شارك جمع من الشخصيات الوطنية وممثلي القوى الحية في اجتماع مخصص لتدارسها عقده «اللقاء الوطني للنهوض والتغيير» وانتهى إلى إقرار التوصيات العملية الآتية:
أولاً: اعتبار النازحين السوريين قضية وطنية وقومية وإنسانية خطيرة تهدّد بتداعياتها لبنان وسورية بالدرجة الأولى، ولا يجوز تالياً التهاون في معالجتها، أو الاعتقاد بالقدرة على ذلك بمعزل عن سورية، أو بالإصرار على تجاهلها وتجاوزها.
ثانياً: رفض إضفاء صفة اللاجئين على النازحين السوريين المهجرين قسراً من بلادهم لما لمصطلح اللاجئ من تداعيات وتبعات تلحق أضراراً بالغة بلبنان وسورية معاً.
ثالثاً: وجوب مبادرة الحكومة اللبنانية فوراً إلى التواصل مع الحكومة السورية من أجل التوافق على سبل وأشكال التعاون الفعّال لمعالجة قضية النازحين، وتوحيد المواقف والضغوط في المحافل الدولية للحصول على المساعدات المالية والعينية اللازمة لإعادتهم إلى ديارهم.
رابعاً: اتخاذ قرار في مجلس الوزراء بتكليف وزير الخارجية الاتصال بنظيره وزير الخارجية السوري بغية التعجيل في وضع أسس التعاون لمعالجة قضية النازحين بما يؤدّي إلى اعتماد خطط جدية لإعادتهم إلى ديارهم وبيوتهم.
خامساً: دعوة هيئات المجتمع المدني اللبناني إلى التواصل والتعاون مع نظيرتها في المجتمع المدني السوري، كما مع الحكومة السورية إذا اقتضى الأمر، من أجل المشاركة في خطط ناجعة لمساعدة النازحين على العودة إلى ديارهم وبيوتهم.
إنّ «اللقاء الوطني للنهوض والتغيير»، إذ يدعو اللبنانيين، مسؤولين ومواطنين، إلى وعي قضية النازحين والارتفاع إلى مستوى خطورتها والمبادرة إلى اتخاذ إجراءات فعّالة في هذا السبيل، يؤكد أنه سينهض بهذه المسؤولية بكلّ ما يملك من عزيمة وإمكانات وقدرات». وبموجب هذه المذكرة فإنّ لجنة المتابعة المنبثقة عن اللقاء الوطني للنهوض والتغيير ألزمت نفسها ببرنامج عمل يفترض أن تسعى لتحقيقه يأتي في مقدّمته اعتبار معضلة النازحين قضية وطنية وقومية وإنسانية تهدّد بتداعياتها لبنان وسورية، ولا يجوز تجاهلها ولا يمكن حلها إلا بتعاون وثيق سوري ـ لبناني، لأنّ الحلّ المنفرد من قبل أحد أطرافها سيعقد القضية بدلاً من أن يسهم في حلها، خصوصاً بعد أن تمادت لعبة الأمم في تحويل النازحين إلى لاجئين والسعي لتوطينهم وتجنيسهم، وتكليف وزير الخارجية جبران باسيل الاتصال بوزير الخارجية السوري وليد المعلم لوضع أسس التعاون الكفيلة بعودة النازحين الآمنة إلى ديارهم وبيوتهم، وهم الذين نزحوا حفاظاً على حياتهم بالدرجة الأولى بعد أن فقدوا المأوى وضاقت بهم سبل الحياة نتيجة صعوبة الأعباء الميعشية التي واجهوها.
وفي قناعتي أنه لا بديل عن السعي لتحقيق التواصل والتنسيق بين هيئات ومؤسسات المجتمع الأهلي والبلدي في سورية ولبنان وصولاً إلى تشكيل قوة شعبية ضاغطة مشتركة تعمل في الاتجاهين وصولاً إلى بلورة تصوّر مشترك يؤدي إلى الضغط لحث الحكومة اللبنانية على الإسراع في التواصل مع الحكومة السورية من أجل التوافق على سبل وأشكال التعاون لمعالجة قضية الناوحين وتوحيد المواقف لممارسة الضغوط في المحافل الدولية للحصول على المساعدة المالية والعينية اللازمة لإعادتهم إلى ديارهم وإجهاض مخطط توطينهم وتجنيسهم وحث الحكومة السورية على إعلان توفير الظروف الملائمة للعودة الآمنة للنازحين إلى ديارهم وتوفير الظروف الملائمة لممارسة حياتهم الطبيعية في ديارهم أو الإقامة المؤقتة في مراكز الإيواء التي وفرتها الحكومة لهم بانتظار استكمال مقومات عودتهم إلى ديارهم.