الهويات الإثنية في التحوّل الآسيوي تهدّد وحدة الاجتماع واللسان وتؤخّر التنمية

كتب مفيد نجم

لم تواجه الدولة الوطنية العربية التي قامت بعد الاستقلال قضايا الواقع الاجتماعي المحلي بمكوناته الإثنية والدينية والطائفية المختلفة، وحاولت القفز فوق الواقع، لا سيما في مرحلة المد القومي الذي غيّب تلك القضايا باعتبارها معوقات لتحقيق هدف الوصول إلى الدولة القومية، ما جعل تلك القضايا تظل تمثل تهديداً كامناً ومستمراً للاستقرار ووحدة المجتمع والأمن الوطني.

كتاب «اللغة والقومية والتنمية في جنوب شرق آسيا» الذي حرره لي هوك غوان وليو سيريادينانا، وشاركت في كتابة أبحاثة مجموعة من الباحثين، وصدر بترجمة ياسر شعبان في منشورات «كلمة»، يقدم دراسة مستفيضة للنجاحات والإخفاقات التي واجهتها سياسات اللغة في العديد من تلك الدول مثل أندونيسيا وماليزيا وسنغافورة والفيليبين، والحلول الناجعة التي قدمتها تلك الدول للخروج من دوامة الصراعات المحلية، وصولاً إلى الاستقرار وتحقيق التنمية المطلوبة.

شغلت مسألة الهوية خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي حيّزاً مهماً من المناقشات الجريئة في العالم الغربي نجم عن التحول الذي أحدثه قيام الاتحاد الأوروبي من ناحية، وازدياد أعداد المهاجرين القادمين من ثقافات وأعراق مختلفة. وركزت تلك المناقشات على ضرورة قيام مجتمع متعدد الثقافة تُحترم فيه حقوق الأفراد الثقافية واللغوية، على عكس ما يحدث في دول جنوب آسيا التي لا تزال متأثرة إلى حدّ بعيد بالمفهوم التقليدي للقومية، وهذا ما ينطبق تماما على واقع الدول العربية التي تتألف من قوميات وإثنيات مختلفة.

يركّز الباحثون الذين أعدوا دراسات هذا الكتاب على إظهار تأثير العولمة في عملية الإدراك المتزايد للعلاقة بين اللغة والتنمية، لناحية امتلاك المعرفة العلمية لأغراض التنمية الاقتصادية، ما يدفعهم إلى التركيز على دراسة سياسة اللغة في دول جنوب شرقي آسيا وعلاقتها ببناء الدولة القومية والتنمية، وصولاً إلى الكشف عن تأثير تلك السياسات في تحقيق الوحدة القومية والترابط الاجتماعي وتكوين الهوية القومية والعرقية، بعد الاعتراف المتنامي حول أهمية الوصول إلى حلول لها، وأهمية الدور الذي تلعبه على صعيد تحقيق التنمية.

تتناول الدراسة الأولى تجربة دولة الفيليبين على صعيد سياسات التعليم ثنائي اللغة، إذ تعتبر اللغة التالوجية هي اللغة القومية والرسمية التي يقبلها معظم الفيليبيين كرمز لغوي قومي للوحدة والهوية، في حين تشكل اللغة الإنكليزية ميزة مهمة، لا سيما على صعيد الوصول إلى فرص اقتصادية، ما جعل هذه اللغة منذ سبعينات القرن الفائت تحظى بمكانة متقدمة في التعليم والمجتمع، إلى جانب الدور الذي لعبته في تأسيس النظام التعليمي لأبناء الأثرياء على عكس أبناء الطبقة المحرومة. أما في سنغافورة متعددة العرق والتي ركزت على دور اللغة في بناء القومية فإن ذلك لم يمنع أيضاً من اعتماد استراتيجية ثنائية اللغة الأم واللغة الإنكليزية.

في ماليزيا لعبت سياسات المشاركة العرقية دوراً مهماً في الوصول إلى اتفاق بين الأعراق المختلفة يقيد لغة الملايو كلغة قومية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى السياسات التعليمية. لكن التطبيق الذي شوّهته التفسيرات لاقى معارضة قوية من جماعات المجتمع المدني.

من ناحيتها عمدت فيتنام تحت تأثير العولمة إلى تغيير لغتها وسياساتها الإعلامية لكي تفيد من الفرص التي منحتها العولمة ومن الهجرة الكبيرة للفيتناميين من خلال بناء قومية لا إقليمية عبر تدريس اللغة الفيتنامية لتلك الجاليات في الخارج واستخدام الإنترنت والبث الإذاعي والتلفزيوني، لكن هذه السياسة كانت محدودة النتائج.

يتسم المجتمع الأندونيسي بأنه مجتمع متعدد اللغة والجماعة العرقية، إلا أن اللغة الملاوية كانت المستخدمة بين القوميين في زمن الحركة القومية الأندونيسية في بداية القرن العشرين رغم أن تلك اللغة هي لغة إحدى الجماعات الأقلية.

ساهم الاحتلال الياباني في انتشار لغة البهاسا بعدما ألغى اليابانيون التعليم الهولندي في البلاد. وبعد استقلال أندونيسيا حلت هذه اللغة مكان اللغة الهولندية فكان على جميع المؤسسات والجهات الرسمية والتجارية والتعليم استخدامها، ما جعل القضية القومية الأندونيسية مرتبطة باللغة البهاسية على نحو وثيق ساهم في انتقال القيم القومية الأندونيسية إلى الشعب.

تعلك السيادة للغة البهاسا لم تمنع وجود ثلاث لغات هي اللغة القومية واللغة المحلية التي يستخدمها سكان الأقاليم واللغة الأجنبية المستخدمة في التواصل مع الأجانب، ولعبت كلّ منها وظيفة اجتماعية. فوجود تلك اللغات كلّها جعل إجادة الطلاب للغة القومية غير جيدة، ما اقتضى بذل جهود لتطوير هذه اللغة. إلا أن التحديات التي فرضتها العولمة جعلت أندونيسيا تولي اللغات الأجنبية مزيداً من الاهتمام.

لعب الأدب المعاصر ولا يزال أدواراً في تشكيل رؤى أفراد الشعب لبلادهم، وبعدما كانت الأعمال الأدبية تكتب باللغة الملاوية الصينية ولا تحظى بالتقدير، بات كبار الناشرين يعيدون كتابتها وباتت الأطروحات الجامعية تركز عليها، لكن الحركات اللامركزية أخذت في السنوات تطالب بالاعتراف بالأعمال المكتوبة باللغات الأخرى، ما يجعل مستقبل الأدب الأندونيسي متعدد الثقافة، مرتبطاً بهذا الانفتاح والتعددية والتواصل متعدد الثقافات.

إن كثرة الأعراق وتعددها في دولة مثل ميانمار 135عرقاً جعل اللغة مصدر المشاكل الحقيقية التي تواجه قيام القومية الميانمارية، رغم محاولات الحكومات الاشتراكية والعسكرية هناك صبغ الشعب الميانماري كلّه بالصبغة البورمية، لا سيما بعد جعل تلك اللغة اللغة الرسمية للبلاد.

وجود اللغة القومية لم يمنع الحكومات هناك من السماح للأقليات العرقية بالقيام بالأنشطة الثقافية وبحرية التحدث والتعبير بلغاتها. والغريب أن فرض اللغة البورمية في التعليم لم يثر استياء في مناطق الأقليات نظراً إلى السماح لها بتدريس لغاتها في الفصول السابقة للتعليم الجامعي، لكن الحكم الاشتراكي الذي قام في بداية الستينات من القرن الماضي سارع إلى إغلاق مدارس الإرساليات لجعل اللغة البورمية الوسيط الوحيد للتعليم في جميع فصول التعليم الجامعي وما قبل الجامعي، ورغم ذلك لم تمنع الأقليات من الاهتمام بثقافاتها وتطويرها. وتظهر الدراسات المفارقة التي قامت عليها سياسات الحكومة العسكرية، فرغم موقفها المعادي للاستعمار راحت تولي قدراً كبيراً من الأهمية للغة الإنكليزية.

تايلاند هي أقل دول جنوب شرقي آسيا التي تشهد مشاكل الناجمة عن تعدد الأقليات العرقية فيها بسبب الاختلاط القائم بينها بسبب الظروف التاريخية التي عاشتها البلاد. هذا الوضع المستقر جعل الهرم اللغوي فيها موازياً للهرم الاجتماعي داخل المجتمع من دون أن تظهر هناك أيّ منافسة بين هذه اللغات أو الجماعات العرقية، فلكل لغة أو جماعة دورها ووظيفتها ومكانتها داخل المجتمع. وجود أربع لغات تايلاندية إقليمية جعل لغات الأقليات غير تايلاندية، وهي تحتل مرتبة أقل في هرم اللغات، في حين أن اللغات الكلاسيكية والدينية مثل البالية والعربية غير موجودة في هرم تلك اللغات. ولحلّ مشكلة اللغات غير التايلاندية اختيرت سبع لغات لتمثيل اللغات الأجنبية والدينية ولغات الأقليات.

تكشف الدراسات في هذا الكتاب أن اللغة ما برحت تشكل قضية خلافية، وتباينت السياسات في دول جنوب شرق آسيا حيالها. وتكشف أن تصنيف السكان التايلانديين على أساس اللغات التي يتم التحدث بها يظهر أن السكان يتوزعون على ستين جماعة عرقية، لذا لجأت تايلاند إلى سيناريو لغوي يتألف من ثلاثة مستويات اجتماعية لغوية. ورغم ذلك فإن اللغات الأجنبية مثل الإنكليزية والفرنسية ظلت موجودة وزاد الاهتمام بها.

تخلص الدراسات أيضاً إلى أن اللغة لا تزال تشكل قضية خلافية، وتباينت السياسات في دول جنوب شرق آسيا حيالها، ففي حين كانت السياسات في البداية تركز على بناء قومية أحادية اللغة ظلت الجماعات العرقية المختلفة تتحدث لغاتها الخاصة بوصفها جماعات ثقافية تملك حقاً في تكلم لغتها. لذلك اختلفت سياسات تلك البلدان واتسم بعضها بالتشدد، فيما اعترف البعض الآخر بحق الاختلاف واستخدام اللغات الخاصة بكل مجموعة، تحت الضغط الذي شكلته متطلبات التنمية في هذه البلدان، خاصة بعد ظهور العولمة والتحديات التي فرضتها عليهم.

«العرب»

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى