تسخين الحرب الباردة بـِ«داعش» وأوكرانيا
د. عصام نعمان
تتنادى دول وتحالفات وتنظيمات متعددة الهوية والغرض والمصلحة إلى مواجهة «الدولة الإسلامية داعش». آخر الجهود اللافتة في هذا المجال قمة حلف شمال الأطلسي «الناتو» في نيوبورت بمقاطعة ويلز البريطانية. «داعش» لم يكن البند الوحيد في القمة الأطلسية. نافسته في الأهمية الأزمةُ الأوكرانية التي استأثرت باهتمامات زعماء أميركا وأوروبا بعد عودة مناخات الحرب الباردة مع الخصم القديم المتجدد: روسيا.
المشاورات والتحضيرات في شأن توسيع التحالف الدولي المعلن ضد «داعش» تتطلب وقتاً وجهداً إضافيين. ذلك أن تطورات وتحديات نشأت في السنوات الثلاث الأخيرة غيّرت المشهد الجيوسياسي في مشرق العرب، كما في شرق أوروبا، فما عاد في مقدور اللاعبين الكبار تجاهلها عند البحث في توسيع التحالف الدولي المؤلف من عشر دول أطلسية والحريص على استثناء روسيا وإيران.
في هذا السياق، ثمة ملاحظات تتعلق بالدول الكبرى المشاركة والتحديات التي تدفعها إلى التعاون مع غيرها في مواجهة «داعش» أو، ربما، في مهادنته عملاً بالقول المأثور «عدو عدوي صديقي».
الأمين العام لـ «الناتو» أندرس فوغ راسموسن رأى أن «قمة الحلف هذه هي إحدى أكثر القمم أهمية في تاريخه»، مشيراً إلى أزمة أوكرانيا وكذلك إلى الملف الآخر الملتهب المتمثل بتنظيم «داعش». فهل الملفان في المرتبة نفسها من الخطورة والأهمية؟
لئن أوحى الرئيس الأميركي أوباما ورئيس الوزراء البريطاني كاميرون بأن «داعش» هو الخطر الأول بدليل نشرهما افتتاحية مشتركة في صحيفة «التايمز» اللندنية أكدا فيها أن مقاتلي «الدولة الإسلامية «لن يُرهبوا دولتيهما وناشدا الأطلسيين عدم التلكؤ في مواجهة هذا التهديد، إلاّ أن أوباما عاد وأوحى بأن اتخاذ قرار في شأن توسيع محتمل للضربات العسكرية ضد مقاتلي «داعش» في سورية ليس وشيكاً، بل هو لوّح بقائمة عقوبات إضافية ضد روسيا تقوم واشنطن بإعدادها.
فرنسا تشاطر الولايات المتحدة رأيها في ما هو الملف الأكثر خطورة بدليل قيام حكومتها بالإعلان عن تعليق تسليم روسيا حاملة طائرات الهليكوبتر «ميسترال» عشيةَ انعقاد القمة الأطلسية وسط تسريبات عن إعلان عقوبات أوروبية أخرى.
روسيا استشعرت حدّة ردود الفعل الأميركية فردَّ وزير خارجيتها لافروف بقوة: «نشهد تنامياً للخطاب المعادي لروسيا. يمكننا القول إن من يقرع طبول الحرب في كييف يحظى بدعم في الخارج، وفي هذه الحال، في الولايات المتحدة».
دمشق، الأكثر حساسية تجاه موقف الغرب الأطلسي من «داعش»، علّقت بلسان المستشارة السياسية في رئاسة الجمهورية بثينة شعبان على ما يعلنه الزعماء الأطلسيون في شأن الإرهاب بقولها: «لو كان الغرب صادقاً في محاربة الإرهاب الذي يمثله «داعش» لما وجد هذا الإرهاب مكاناً يقف عليه، وما كنا شهدنا ما يجري اليوم في سورية والعراق من جرائم وأفعال مشينة».
لا يخفى على دمشق مآل ما يقوله المسؤولون الإسرائيليون في شأن تنظيمي «داعش» و»النصرة». وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان أعلن بلا مواربة أن «داعش» لا يشكّل تهديداً فورياً لـِ «إسرائيل». لعله تبنّى في هذا المجال مقولة مدير شعبة الاستخبارات العسكرية السابق الجنرال عاموس يادلين بأن الخطر المباشر الذي يمثله «داعش» على «إسرائيل» هو في تحويل الانتباه داخلها وفي العالم عن المشروع النووي الإيراني الذي هو الخطر الإستراتيجي الحقيقي على أمن العالم وعلى أمن «إسرائيل» .
القيادة «الإسرائيلية» لا تكتفي بتبني مقولة يادلين بل تذهب إلى أبعد منها. فقد لاحظت الأجهزة الأمنية المعنية في سورية ولبنان تطورات لافتة تجري على السفح الشرقي لجبل الشيخ بين البلدين بالتزامن مع محاولات حثيثة لجبهة «النصرة» للسيطرة على القطاعين الأوسط والجنوبي في محافظة القنيطرة . فالجيش «الإسرائيلي» لا يكتفي بمساعدة مقاتلي «النصرة» على طرد عناصر قوة المراقبة الدولية من منطقة تواجدها لتسهيل سيطرتهم على معبر القنيطرة والقرى الحدودية المحاذية له فحسب بل يقوم أيضاً بتنظيم حملة بين أهالي قرى حضر وحرفا والمقروصة للمطالبة بضمها إلى الجولان المحتل بدعوى «إنقاذها» من إرهاب مقاتلي جبهة «النصرة» الذين يحتشدون في بلدة بيت جن وجوارها وذلك بقصد تحقيق هدفين عسكريين: الأول، إنشاء شريط حدودي أو «جدار طيّب» كالذي كان أنشأه العميد المرتد أنطوان لحد على حدود لبنان مع فلسطين المحتلة قبل حـرب 2006. الثاني، فصل القرى المار ذكرها عن محافظة دمشق بتطويقها ومحاولة السيطرة على الأوتوستراد الدولي المؤدي إلى دمشق قرب بلدة سعسع.
في شرق لبنان وعلى جرود بلدة عرسال، يحشد «داعش» مقاتليه فيما تشاغل جبهة «النصرة» الحكومة اللبنانية بمفاوضات وضغوط لمقايضة العسكريين المحتجزين لديها بعناصر لهما محكومة ومعتقلة في سجن روميه. كل ذلك بقصد تحقيق أحد مكسبين أو كليهما معاً: «تحرير» السجناء واستردادهم، ومهاجمة عرسال مجدداً لاتخاذها مأوى قبل حلول موسم الشتاء بعد أقل من شهرين.
إلى ذلك، ثمة من يشير إلى تطور بدا محدوداً في مبدئه، لكن احتمال تطوره إلى ما هو أخطر وارد . ذلك أن أنصار الحركات الإسلامية السلفية الكردية في إيران رفعوا، بعد بيعة «داعش»، رايات «الدولة الإسلامية» في المدن الإيرانية ذات الغالبية الكردية وفي أذربيجان الغربية على نحوٍ يحاكي مشهداً مماثلاً صنعه أنصار «داعش» في محافظات العراق الغربية نينوى وصلاح الدين والأنبار ذات الغالبية السنّية.
كل هذه الملاحظات المستمدة من الحال الميدانية في العراق وسورية ولبنان وفلسطين تؤشر إلى حقيقة بازغة هي أن الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا تتحدث بطلاقة عن ضرورة مواجهة «داعش»، لكنها تعالج المسألة ببطء في إطار حربها الباردة المتصاعدة مع روسيا حيث تتحكم بها أولويات ومصالح لا تستجيب بالضرورة مصالحَ العراق وسورية ولبنان وفلسطين بل تصبّ في مصلحة «إسرائيل» أو في مصلحة الولايات المتحدة ومفاوضاتها النووية الإستراتيجية مع إيران.
وزير سابق