صفقة الغاز الإسرائيلي: الأردن من التطبيع إلى الارتهان؟
د. تركي صقر
ينطبق المثل الشائع «إذا لم تستح فافعل ما شئت» على العديد من الحكام العرب، هذه الأيام، الذين تمادوا في مد اليد إلى قادة العدو الصهيوني، جهاراً نهاراً، من دون أن يرف لهم جفن، أمام الجرائم والفظائع المروعة التي ما زال العدو يرتكبها، بحق أبناء الشعب الفلسطيني وسكان الأراضي العربية المحتلة وما يقوم به من زجّ آلاف الأسرى العرب في غياهب السجون، لعقود من الزمن وما يستمر به من قضم للأراضي الفلسطينية وتحويلها إلى مستوطنات غير قابلة للتغيير وضياع حق العودة إلى الأبد، إضافة إلى مضيّه في تهويد فلسطين، من الماء إلى الماء، بما في ذلك القدس والمسجد الأقصى وجميع الأماكن المقدسة وتبديل معالم تاريخها.
طبعاً، لم يخجل هؤلاء الحكام المتخاذلون، من تجاوز كلّ المحرمات ولا من العار والشنار بإقامة العلاقات مع عدو الأمة، القاتل المجرم ومصافحة يديه، الملطخة بدماء أطفالها وتبادل الزيارات معه، بل راحوا يعقدون الصفقات الكبرى، التي تجعل من الكيان الصهيوني مركز القرار والقوة والتفوّق، في المنطقة كلها. وهذا ما دفع بنيامين نتنياهو، رئيس حكومة الاحتلال، إلى التباهي والتفاخر، في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، في دورتها لهذا العام، عندما أشاد، من على منبر المنظمة الدولية، بالعلاقات الوطيدة والمتينة، التي تربط كيانه مع بعض الدول العربية، التي وصلت إلى مستويات غير مسبوقة، كما هي الحال مع النظام السعودي وأنظمة الخليج.
لقد كانت كلمة نتنياهو، من على منصة الأمم المتحدة ومباهاته بتقرّب بعض الأنظمة العربية، من دولته وطلب ودّها، إلى درجة التحالف معها، بمثابة ذبح علني للقضية الفلسطينية أمام العالم. ومع الأسف، كانت وفود المتخاذلين العرب تهلل له. وكادت تهتف بحياته وتصفق له، أكثر من وفود أخرى، عندما قال:
أما الآن، فألقي عليكم مفاجأة من العيار الأثقل، ذلك لأنّ التغيير الأكبر في الموقف من «إسرائيل» يجري في مكان آخر وتحديداً في العالم العربي، حيث ما زالت معاهدتا السلام، اللتان وقعناهما مع مصر والأردن، تشكّلان ركيزة أساسية للاستقرار في الشرق الأوسط، المتقلب. غير أنه يجب أن أؤكد لكم ـ لأول مرة في حياتي ـ أنّ هناك دولاً كثيرة أخرى، في المنطقة، باتت تعترف بأنّ «إسرائيل» ليست عدواً لها. إنها تعترف بأنّ «إسرائيل» هي حليفتها. وإنّ أعداءنا المشتركين هم إيران و«داعش» .
إنّ ما جرى مؤخراً بين النظام الأردني وكيان العدو، بعقد صفقة غاز ضخمة بلغت قيمتها عشرة مليارات دولار، يشير إلى أنّ العلاقات بين هذا الكيان وأنظمة الاستسلام العربية وصلت إلى الذروة، خرقت كلّ المحرمات ووضعت كلّ ما يتعلق بفلسطين وشعب فلسطين، وراء ظهرها. بل تجاوزت مرحلة التطبيع ودخلت مرحلة الارتهان الكامل لمشيئة العدو الصهيوني.
لقد وقّعت كلّ من «إسرائيل» والنظام الأردني قبل أيام، صفقة ضخمة تنصّ على بيع الغاز الطبيعي، من حقل «لفيتان» البحري، لشركة الكهرباء الوطنية الأردنية. وذكرت وسائل الإعلام «الإسرائيلية»، أنّ حجم الصفقة وصل إلى 45 مليار متر مكعب، يمتدّ على مدى 15 سنة، بمبلغ يصل إلى عشرة مليارات دولار. ونقلت وسائل إعلام العدوّ عن وزير الطاقة في كيان الاحتلال، يوفال شتاينتس، قوله، إنّ توقيع الاتفاق مع الأردن هو إنجاز «إسرائيلي» مهمّ جداً، يشكّل علامة فارقة في تعزيز العلاقات والتعاون الاستراتيجي بين «إسرائيل» والأردن والمنطقة كلها. مضيفًا: إنّ هذه اللحظة هي لحظة تاريخية تتحوّل فيها «إسرائيل»، للمرة الأولى، إلى مصدّرة للطاقة والغاز الطبيعي. لا شكّ لديّ، أنّ اتفاقات أخرى ستُوقّع مع دول أخرى. وكذلك، سيتمّ اكتشاف حقول غاز أخرى.
وما أن انتشر خبر الصفقة المشؤومة، حتى اهتزّ الشارع الأردني وتحرّكت الحملة المناهضة للصفقة، لمواجهتها بكلّ السبل. وفي بيان صحافي وصفت الحملة الصفقة بـ «اللاأخلاقية»، لافتةً إلى أنّ اتفاقية الغاز «ستدعم الإرهابي الصهيوني بالمليارات من أموال دافعي الضرائب من المواطنين الأردنيين». معتبرةً أنّ الاتفاقية تفرض التطبيع على المواطنين رغماً عنهم. وستجعل الأردن رهينة بيد العدو.
لا نتوقع أن يصغي النظام الأردني إلى صوت الشارع ولا إلى نداء الاحتجاجات الشعبية الشديدة ولا إلى الغضب الجماهيري العارم، على امتداد الساحة العربية، فهو ماض في تقديم الأردن لقمة سائغة للعدو «الإسرائيلي». هذا دوره الدائم وأساس وجوده. لكنه، بهذه الخطوة الفاقعة، كشف عما كان يخفيه من ملفاته الخيانية. وسقطت آخر أوراق التوت عنه. وأضحى وجهاً لوجه أمام الغليان الشعبي الداخلي، الناقم أصلاً على النظام وسياساته المنحرفة، التي وصلت، بهذه الصفقة، إلى الانتقال من التطبيع الكامل مع العدو، إلى الارتهان التامّ له. وهذا ما لا يمكن أن توافق عليه القوى الوطنية والشعبية الأردنية، أبداً، مهما كانت سطوة النظام وضغوطه عليها ومهما كانت الظروف المساعدة لسلوكه الشائن. وساعة حسابه العسير قادمة، مهما طال الزمن.