«صحوة الناتو»… خلفيات وأبعاد

حسن شقير

في عددها الصادر في 09-10-2009، نشرت مجلة «Foreign Affairs»، دراسة مطوّلة لمستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق زبغنيو بريجنسكي، جاءت تحت عنوان »أجندة جديدة للناتو نحو شبكة أمن عالمية«، والتي جاءت عقب اجتماع قادة الدول الأعضاء في الحلف لمناسبة الذكرى الستين لتأسيسه.

في تلك الدراسة اللافتة، أشار بريجنسكي إلى أنّ الدول الأعضاء، كلفت الأمين العام الجديد الحالي للناتو، أن يطوّر مفهوماً استراتيجياً جديداً للحلف… ينعامل على الأقلّ مع أربع من المتغيّرات الأساسية، وهي باختصار «توفير عائدات سياسية مقبولة للناتو، تحديد معنى التزام الأمن الجماعي في الفقرة الخامسة في معاهدة إنشائه، إشراك روسيا في علاقة ملزمة ومجزية للطرفين، وأخيراً الاستجابة للإشكاليات الأمنية العالمية المستجدة».

حول هذين المتغيّرين الأخيرين، تتركز هذه المقالة، وذلك نظراً إلى ارتباطهما الوثيق بما يحدث اليوم في المنطقة العربية، وعلاقتهما المؤكدة بما جرى في مقاطعة ويلز البريطانية أخيراً في قمة الدول الأعضاء لحلف الناتو، والمقرّرات والتوصيات الصادرة عنها… والتي يمكنها أن تُنعش بعضاً من متغيّرات بريجنسكي الأربع.

لقد حدّد بريجنسكي في تلك الورقة، إطار العلاقة المستقبلية بين الحلف وروسيا، ضمن الإلزام والإفادة المتبادلة بين الطرفين، وذلك في مراهنة الدول الأعضاء في حلف الناتو، على أنّ روسيا لا بدّ لها – ولو في مرحلة أولى – أن تعيش الشراكة مع الحلف، في حال تعذّر الانضمام لديه، وخصوصاً أنّ هذه الأخيرة – ودائماً بحسب تقدير الناتو-، ستكون مضطرة للتعاون السياسي والعسكري مع منطقة اليورو – أطلسي، وذلك حفاظاً على الأمن الأوروبي، فضلاً عن إشراكها في شبكة أمن عالمية مع هذا الحلف.

لقد أقرّ بريجنسكي في تلك الدراسة بصعوبة إقناع القيادة الروسية الحالية بذلك، إلا أنّ المراهنة برأيه، تكمن في ضيق الخيارات الآسيوية أمام روسيا، وخصوصاً لناحية علاقتها الاقتصادية بالصين، وكذلك علاقاتها ضمن منظمة شنغهاي، ودول الاتحاد السوفياتي السابق… وقد أفرد بريجنسكي في تلك الدراسة مقاربات، اعتقدها حتمية في توجه روسيا المستقبلي.

لم يطابق حساب الحقل عند بريجنسكي حساب البيدر الروسي، ذلك أنّ الأيام والسنوات اللاحقة لتلك الدراسة، برهنت أنّ القيادة الروسية، تنحو نحو مزيد من الاستقلالية في علاقاتها السياسية مع الحلف الأطلسي، وقد ظهر ذلك جلياً في الأزمة الأوكرانية الراهنة، فقد قامت روسيا بتقديم مصالحها الحيوية وأمنها القومي، في هذه الأزمة، على كلّ المصالح السياسية الصغيرة، أو حتى على بعض الإغراءات اليورو – أطلسية الضيقة… فسارعت إلى ضمّ القرم، وذلك من دون اكتراث لكلّ ذاك الصراخ الأطلسي، وتابعت في تحذير الغرب من العبث بالحديقة الخلفية لروسيا من خلال إغواء أوكرانيا بضمّها إلى الحلف الأطلسي، وقد واجهت سياسة العقوبات الأطلسية بحقها، بعقوبات مماثلة، وبمزيد من الانفتاح نحو الصين، وتوقيع اتفاقيات اقتصادية ضخمة معها، وكذا الأمر مع دول البريكس ومنظمة شنغهاي، وذلك كمقدمة لعزل وتطويق النظام المالي المفروض أميركياً على العالم… هذا فضلاً عن انفتاحها على منطقة الشرق الأوسط، والاتفاقيات الأخيرة مع إيران حول آلية تبادل السلع بالنفط…، ومدّ الجسور الروسية العسكرية والاقتصادية نحو مصر والعراق، وبعض دول المغرب العربي أيضاً… ناهيك عن انفتاحها على بعض دول أميركا اللاتينية، وذلك في الحديقة الخلفية للولايات المتحدة.

لم يكن البديل الروسي، لسقوط نظام الأحادية القطبية لأميركا في العالم، يكمن في الارتماء بالحضن الأطلسي الأرحب للفضاء الأميركي، ولم تكن فكرة الشراكة الأمنية مع روسيا للحفاظ على الأمن الأطلسي، كما أرادها بريجنسكي، فكرة دغدغت القطب الروسي الصاعد… فلقد اعتمد هذا الأخير سياسة التوسعة كبديل لسياسة ضيق الخيارات التي حاول الأطلسي فرضها عليه.

من هنا، وانطلاقاً من ذاك الفشل المدوّي في جرّ الدبّ الروسي نحو العربة الأطلسية، وتحديداً لناحيتي السياسة والاقتصاد من جهة، والأمن من جهة ثانية، لم يكن أمام الأطلسي، والحال كذلك، إلا أن جعل «داعش» وتعظيم خطره القادم على أوروبا، رافعةً حقيقية للفشل الذي أصاب سياسات الناتو واستراتيجيته تلك تجاه روسيا… فكان الاجتماع الأخير لقادته في مقاطعة ويلز البريطانية، ولم تكن المقرّرات الصادرة عنه، إلاّ محاولة ٌ أطلسية لتطويق روسيا وتحجيم دورها القادم في الشرق الأوسط برمّته، وفض الشراكة الأمنية – العسكرية التي تعمل روسيا على بنائها مع دول المنطقة، وذلك لصالح شراكة أمنية – اقتصادية – سياسية أطلسية مع هذه الدول، والشماعة اليوم، هي جاهزة على الدوام… إنها «داعش» وخطره المحدق على هذه الدول، بجغرافيتها وأنظمتها معاً!

لم يخطئ رئيس شرطة دبي بالأمس في تغريدته على موقع «تويتر»، عندما أعلن صراحة، أنّ فزاعة صدام حسين لدول الخليج، تتكرّر مجدداً مع «داعش»، والعين الأميركية والأطلسية، هي على الدوام على تلك الصناديق المالية التي تتكدّس في هذه الدول…

في أذار من العام ٢٠٠٩، صرّحت رئيسة وزراء ألمانيا، أنجيلا ميركل، في ما خصّ توسيع الناتو وأجندته الجديدة «إنني لا أرى ناتو عالمياً، ربما يكون بإمكان الناتو أن يقدم خدماته، خارج منطقته، ولكن لا يمكن أن يصبح هناك أعضاء في الحلف من مختلف أنحاء العالم».

رويداً رويداً، تنجلي الصورة أكثر فأكثر، عن كثيرٍ مما يحدث اليوم في العالم، وفي منطقة الشرق الأوسط تحديداً، وتداعيات الأزمة الأوكرانية على الأمن الأطلسي برمته، وانعتاق روسيا من نير الاستلحاق بحلف الناتو، وفقاً لشروط أميركا، وبعض دوله الأخرى، والاستعاضة عن ذلك بسياسات جديدة، تؤسّس أكثر فأكثر، لتراجع النفوذ الأميركي والغربي في مواقع النفوذ العالمية، لصالح روسيا الصاعدة، وخصوصاً بعد الموت الرحيم لمنظومة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، واللذين كانا حتى الأمس القريب، يمثلان سوطاً أميركياً وأطلسياً لتأديب بعض الدول… لأجل ذلك كله، يمكننا أن نفسّر أن «الصحوة» الأخيرة لحلف الناتو في الانفتاح على منطقة الشرق الأوسط، وتأطير بعض من دوله الخليجية وغيرها من الدول العربية، والتي ما زالت تأتمر بالسياسة الأميركية، وتطويق محاولة بعضها في الانعتاق من النير الغربي – ولو جزئياً -، بحيث يكون محاربة «الإرهاب الداهم عليها»، عنصراً جاذباً ومطوِّقاً لها في أنٍ واحد! وخصوصاً بعد تضخيم خطره على أنظمتها، فضلاً عن وجودها! فإنّ ذلك كله يستبطن في صورته الخلفية، جزءاً من التعويض الأطلسي، لما أمله بريجنسكي في دراسته تلك… وتنفيذاً عملياً لرؤية ميركل لدور وأجندة الحلف العالمية الجديدة في ظلّ احتدام الصراع الدولي الحاصل لدوزنة النظام البديل للأحادية القطبية الأميركية في العالم.

خلاصة القول: لا يمكننا رؤية الناتو يتجه اليوم نحو الشرق الملتهب، وبالحجج المبيّنة أعلاه، إلاّ أنه جزء من استعمار مقنّع جديد، وذلك بأدوات ودولٍ محلية هذه المرّة، اعتادت على تقديم الطاعة لسيدها الأميركي… هذا فضلاً عن المحاولة المتكرّرة لإدخال الكيان الصهيوني في ما يُسمّى بالشرق الأوسط الكبير، بعد أن أخرجته المقاومة اللبنانية في حرب العام ٢٠٠٦، ونظيرتها الفلسطينية في حرب العام ٢٠١٤… وهذا كله تحت ستار «داعش»، ونفثها على الحدود، واستغلالها لتهديد السلم والأمن الدوليين… فلقد لفتُ إلى ذلك في مقالة لي نُشرت منذ عام تقريباً بتاريخ 27-09-2013، والتي جاءت تحت عنوان «داعش… والسلم والأمن الدوليين على الحدود».

باحث وكاتب سياسي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى