«أصل العالم» للروائيّ السوريّ وليد السابق… مأساة «كافكاوية» بين الواقع والخيال
نظام مارديني
وليد السابق، الروائيّ السوريّ المقيم في مونتريال ـ كندا، في باكورته «أصل العالم» الصادرة عن «دار الآداب»، تصميم الغلاف نجاح طاهر، 2016، في 222 صفحة من القطع الوسط ، يردّ إلى الرواية السورية الحديثة رونقها بأسلوب طليّ ومضمون جحيمي.
منذ البدء إشارة موحية من سفر التكوين: «فأمطر الربّ على سدوم وعمورا كبريتاً وناراً من عند الربّ من السماء، وقلب تلك المدن، وكلّ الدوائر، وجميع سكّان المدن، ونبات الأرض. ونظرت امرأتُه من ورائه، فصارت عمود ملح».
فالنقلة رأساً إلى ساحة جريمة: «يوسف قتل رجلاً. ثم فرّ وفي رأسه تتصارع الأفكار: كانت حياته في ما مضى هادئة بسيطة، لا شيء مميّزاً فيها، والآن بات قاتلاً، وماذا يفعل الآن هو المشرف على مقبرة البلدة، يسقي ورودها ورياحينها. ها هو الآن وحيد في البريّة. قتل رجلاً وسرق دراجة نارية، والآن يدخل خلسة قصراً منيفاً، فتح خزائنه: ملابس وحلى ومعاطف.
يتخيلّ ويرى في آن سيدة القصر تخرج من الحمّام:
«لو أنّ المرأة نصف العارية رأته لاقتربت منهُ. مساء الخير أيُها الغريب. مساء الخير أيّتها المرأة نصف العارية. من أنت. أنا يوسف من البلدة القديمة في الشرق، البلدة التي تنام في التاسعة وتستيقظُ في الخامسة صباحاً، البلدة التي لا يُقتلُ فيها رجلٌ كلّ يوم.. وماذا تفعلُ هنا؟ جئت فقط لأرى صور الميّت. كل اللصوص يقولون هذا. لكنني لست لصّاً. ومن تكونُ إذاً، أتعتقد أنّي لستُ أُلاحظ عينيك تجولان في عري جسدي، تمسحانه كما تمسحُ الريح جناح طائر. يخجلُ يوسف وينظر في الأرض السوداء المرمريّة. لا عليك، فأنا من ظهرت عليك شبه عارية كما تظهر الجنّّيات للصيّادين. ماذا ستفعل الآن؟ سأعودُ إلى البلدة، فما ينتظرني هناك كثير. دع عنك البلدة والأموات، وتعال نقضِ ليلتنا سويّاً. وسينتبهُ يوسف عندما تقترب المرأة أنّ علامة سوداء زُرعت أسفل شفتيها، أو ربّما لن ينتبه. وسيصعد بالمرأة نحو غرفة النوم الملكيّة، وسيقدّم لها كهديّة الفستان الأحمر الفاقع. سيشمّ في جسدها القريب وهو يُلبِسها الفستان رائحة العطر الخفيف نفسه. وسيقول لها بأنّ النحل في المملكة الأرقى بين المخلوقات يتعرّف خليّتهُ من رائحة الملكة. وعندئذٍ ستبتسم المرأة نصف ابتسامة، وستظهر البقعة السوداء واضحة تحت شفتيها.
يعود أدراجه ويعيد الدراجة النارية إلى مكانها. يشغل باله الآن نفض التراب عن جثّة تاجر ثري دفن بالأمس في المقبرة، وسحبها إلى الخارج، فإذا هي شبهه، ولما أدرك أنه تحوّل إلى زوج المرأة العارية في القصر المنيف فسرق ساعة الميت الذهبية، ومضى إلى القصر الخيال.
أخرج من جيبه مفاتيح القصر. لا بدّ أنّ المرأة نصف العارية ما زالت نائمة، ربّما تكون قد استلقت على ظهرها الآن، وثنت ركبتها اليمنى، فشكّل ظلّ المصباح الصغير مثلّثاً على الجدار اسفل النافذة. يدٌ ممتدّة إلى الخارج، ويدٌ ترتاحُ فوق البطن العاجيّ، بينما تتكوّر الملاءة أسفل قدميها.
أسند يوسف رأسه على جذع الشجرة وصورة المرأة نصف العارية لا تفارقهُ. ولو أنّ أحداً ينظُرُ الآن في عمق بستان البرتقال، لرأى رجلاً بثياب فاخرة يجلس على الأرض ويستندُ بجذعه إلى شجرة. ولو أنّنا نستطيعُ إضافة ملاكاً أو ملاكين عاريين يُحلّقان قريباً من الرجل، وامرأة عارية إلّا من شال ورديّ شفّاف تميل بجذعها نحو السماء، لبدا المشهد شبيهاً بتلك اللوحات الزيتيّة التي يرسمها تشكيليُو العصور الوسطى، أو ربّما عصر الباروك لأساطير قديمة. شيء يشبهُ الحياة في لا نظامها وعبثيّتها. شيء يشبهُ الكون في فوضاهُ المنظّمة، فوضاهُ اللاأخلاقيّة الخلّاقة».
من البلدة القديمة إلى المدينة الجديدة، وفي المدينة كما في البلدة فقراء طيبون وأثرياء منعزلون، لكن ليس ليوسف في المدينة سوى كوابيس وسيّدة القصر نفسها، وهناك أيضاً باع الساعة الذهبية وخلع عنه ثياب الميت الفاخرة وانتهى به المطاف إلى حيّ الفقراء، فعادت إليه روحه الهائمة، فهنا كل شيء حقيقتي وقائم بذاته. تعشّى في مطعم شعبي وحاول أن يبات في فندق رخيص :
«أحسّ يوسف بالتعب والنعاس، ثم جاء الطعام وأثقل معدتهُ، فأصبح النوم مطلباً وأمنية. لكن كيف سينام وأين. لا يمكنهُ الذهاب إلى أحد الفنادق الرخيصة. مساء الخير يا سيّدي. مساء الخير. هل أجد عندكم غرفة لأنام فيها. بكلّ سرور سنعطيك غرفة مريحة. شكراً لك، أحتاجُ لبطاقتك الشخصيّة، لأملأ بيانات الغرفة. لكنّني لا أملك بطاقة. كيف لا تملك بطاقة. ربّما تقصد أنّك قد أضعت بطاقتك. لا، يا سيّدي، فبطاقتي قد تركتها في محفظتي في جيب الثريّ الميّت. ولماذا تترك بطاقتك في جيب ميّت. لأنّ الميّت هو أنا، فقد متّ هذا الصباح في جثّة الرجل الميّت. لا بدّ أنّك مجنون. سأطلب لك السلطات، لترى ما قصّتك.
أنت الآن يا يوسف تحيا على هامش الزمن. تحيا وأنت ميّت، ميّت في جسد التاجر الثريّ، وقاتلٌ في جسد المتسوّل الفقير. أنت الآن يا يوسف غير موجود، لا انتماء ولا هويّة ولا مكان لكَ في هذا العالم. أنت لست حيّاً ولست بميّت، شيء يشبهُ المادّة الخام قبل تشكّلها. شيء يشبهُ الأحلام، حيث يُخلَق فيها واقع، وأشخاص، وأحداث، ثم تتلاشى عندما نستيقظ. أنت يا يوسف لا مكان لك في عالمنا هذا، ولا مكان لك في العالم الآخر».
فإلى نزل رخيص في حي الفقراء، وتنعّم بثمن الساعة الذهبية فيما بقي من زمانه. بنفَس كفكاوي ينتقل في حافلة إلى دائرة المحفوظات المغلقة وها هو يجيل النظر فيما يراه من النافذة، لكنه وعلى الدوام يفكّر بتلك المرأة نصف العارية، ما دفعه إلى العودة إلى ذلك القصر المنيف، فالتقاها من جديد غارقة في سبات عميق. من مكان إلى مكان تراوح غربة يوسف مكانها ولكن فجأة وصدفة يجد نفسه وجهاً لوجه أمام المرأة نصف العارية :
لكنّ نظراتها الناريّة أجهضت كلّ شيء. صدّقيني، أنا لستُ لصّاً، ولا أريد إيذاءك أبداً، قال يوسف بعدما استجمع ما بقي في حلقه الجافّ من كلمات. المرأة صامتة لا تنبس ببنت شفة، ترى الشبه المثير بين زوجها الميّت ويوسف، ولا تستطيع أن تشيح بنظرها عنهُ. يوسف بدأ يحسّ بالضيق والحزن. حزن كذاك الذي يأتي بعد أن تأتي وترحل الأشياء الجميلة التي انتظرناها طويلاً. ترحل مسرعة، ولا تترك لنا الوقت لنسرق منها بعض ذكريات. لستُ لصّاً… صدِقيني، لم أسرق شيئاً، ولا أريد أن أسرق شيئاً. يكرّر يوسف نفسهُ مؤكّداً في وجه المرأة الصامت. يفكّر يوسف لو أنّها تقول أيّ شيء، لتحرّكت النقطة السوداء أسفل التقاء شفتيها، ولربّما يمكنه لحظتها أن يمدّ اصبعهُ ليرى ملمسها. مفاتيح القصر، تقول المرأة نصف العارية أخيراً.
ثم كان لا بدّ من العودة إلى البلدة القديمة، ووقف على الجسر هناك قبل أن يلقي بنفسه في المياه الجارية تحته:
«رمى يوسف نفسه في النهر، فاستقبلتهُ المياه الباردة كصديق قديم. أرسلتهُ في العمق، قبل أن تدفعهُ إلى حياة أخرى. إلى الفناء النهائيّ الأخير.
ولو أنّنا نفهم لغة المياه والنهر لسمعنا شيئاً كهذا. لقد جاءنا زائرٌ جديد. مسافرٌ جديد في الرحلة نحو اللاشيء. في الرحلة العبثيّة التي لا تنتهي. مسكين هذا الكائن، مسكين!
سيرى الأطفال الذاهبون إلى مدارسهم صباحاً جثّة رجل تطفو فوق صفيح الماء الأزرق. تطفو على ظهرها وعيناها نحو السماء. نحو سماء خلقتهُ مشاعاً حراً في أزمنة سعيدة، قبل أن تدجّنه الحياة، وتدفعهُ رقماً في القطيع».
هي رواية المأساة في قماشة كافكاوية برع وليد السابق في رسم تفاصيلها متّخذاً من الصراع بين القرية والمدينة، وبين الفقراء والأغنياء، وبين الواقع والخيال أساساً لنهوض سريالية عربية من طراز مغاير للمألوف.