حروب التفتيت وصراع الوجود

معن حمية

حروب «إسرائيل» وأميركا وتركيا وحلفائهم وأدواتهم على بلادنا، لا تقتصر أهدافها على الاحتلال وبسط النفوذ وتحقيق المصالح، بل هي حرب تفتيتية لصياغة هويات جديدة وتجهيل الهوية القومية الواحدة التي تعبّر عن حقيقة الانتماء للأرض.

كلّ الغزاة الذين تناوبوا على احتلال أرضنا وقتل شعبنا، اجتمعوا على فكرة واحدة، وتوحّدوا على هدف مشترك، هو تدمير بلادنا إنساناً وهوية وحضارة وتاريخاً.

حروب العدو الصهيوني لاحتلال فلسطين، اقترنت بالمجازر الجماعية التي نفّذتها عصابات الهاغانا وشتيرن والأرغون بحق الفلسطينيين، وأفضت الى اقتلاع وتشريد شعبنا… وهي حروب اتسعت لتطال لبنان في العام 1978 وفي العام 1982، حيث كان الهدف تقسيم لبنان، وصولاً إلى حرب تموز 2006 التي استهدفت تحقيق أمرين متلازمين، تصفية المقاومة، وقد سخّر العدو آلته الحربية وكلّ قدراته العسكرية لتحقيق هذا الأمر، وتدمير فكرة المقاومة. والثاني ما أعلنت عنه وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كونداليزا رايس التي اعتبرت أنّ حرب تموز هي «مخاض ولادة الشرق الأوسط الجديد».

وقتذاك لم تقدّم رايس تعريفاً واضحاً للوليد الذي تنتظره، لكن المراقبين والمحللين والدارسين ومراكز الأبحاث استنتجوا أنّ المنطقة مقبلة على «سايكس بيكو» جديدة، تمنح الطوائف والمذاهب ومتفرّعاتها والاتنيات ومتفرّعاتها هويات مستقلة وجغرافيات خاصة بها. وربط كلّ هذه الهويات بمركز نفوذ وسطوة يشكله الكيان الصهيوني بعد أن ينتزع اعترافاً بدولته اليهودية على أرض فلسطين!

«الوليد» الذي تحسّست كونداليزا رايس مخاضه في 2006، لم يكن ابناً شرعياً لها ولحكومتها، بل نتيجة علاقة بين مشروع صهيوني وآخر أميركي، صارا مشروعاً واحداً.

الداعية الصهيوني شيمون بيريز، الذي تأثر لموته بعض العرب، أصدر في العام 1996 كتاباً على اسم «الوليد» «الشرق الأوسط الجديد»، وفيه تحدّث عن فشل الحروب وعن أهمية السلام!

كتاب بيريز الصادر قبل عشرين عاماً ليس فيه خروج على الاستراتيجية الاحتلالية التوسّعية الاستيطانية التي تعبّر عن المضمون العنصري العدواني للحركة الصهيونية، ولا تخلّياً عن مبدأ الحروب العدوانية الذي التزم به القادة الصهاينة منذ تيودور هرتزل حتى اليوم، وليس فيه نقضاً لمزاعم اليهود التي تعتبر أرض فلسطين «أرض الميعاد»، فهو أيّ بيريز يعتبرها حقيقة ثابتة غير قابلة للجدل. ما يؤكد أنّ مزاعمه عن «أهمية السلام»، هي «ملاطفة» لبعض العرب الذين أبدوا استعداداً لتطبيع علاقاتهم مع العدو الصهيوني والاستسلام لمشيئته، وهذا ما حدث من خلال اتفاق «أوسلو» 1993، واتفاقية وادي عربة 1994.

في «الشرق الأوسط الجديد»، لم يجد شيمون بيريز حرجاً بأن يطالب العرب، بنسيان تاريخهم ودفن ذاكرتهم ومصادرة وعيهم، وقد منحته «أوسلو» و «وادي عربة» وقبلهما «كامب ديفيد» جرأة القول بأنّ العرب خليط غير متجانس ولا يربطهم رابط.

لقد وضع بيريز يومذاك يده الممتلئة سموماً على موضع النزف العربي، وهو كان يدرك فاعلية السمّ اليهودي، حينما ينتشر في بيئة غير متجانسة، وغير موحّدة على هدف وقضية. ووجد ضالته في تخلي معظم العرب عن فلسطين، لا بل تواطئهم مع «إسرائيل» لتصفية المسألة الفلسطينية، واكتشف أنّ هناك هويات ناشئة تتمثل بمذاهب وتيارات، لا تتناقض توجهاتها وأهدافها مع غاية الفكر العنصري التوسعي للحركة الصهيونية.

السلام في الاستراتيجية الصهيونية، طُبّق على من اعتبرهم بيريز خليطاً غير متجانس، فتوسّعت عمليات التطبيع المستتر مع بعض الدول العربية وبعض هذه العلاقات صار معلناً، ووصل حدّ التشارك في الأهداف والغايات، في حين تُرجِم «سلام» بيريز وكيانه العنصري الاستيطاني حروباً شرسة ضدّ قوى المقاومة في أمتنا، من فلسطين إلى لبنان إلى الشام والعراق.

الحقيقة الثابتة الراسخة، هي أنّ الصراع الذي تخوضه أمتنا ضدّ أعدائها، هو صراع مستمرّ، يقول سعاده: «نحن في صراع مع الإرادة الأجنبية، ومع الإرادات الخصوصية المتحالفة معها، ونأبى أن نهادن الواحدة أو نهادن الأخرى، ونأبى إلا أن نحارب الاثنتين معاً، لأنّ لنا القدرة على محاربة الفئتين المتحالفتين. إنّ لنا في الحرب سياسة واحدة، هي سياسة القتال. هذه هي سياستنا الواحدة في الحرب. اما السياسة في السلم، فهي أن يسلّم أعداء هذه الأمة للأمة بحقها ونهضتها».

والحقيقة الثابتة الراسخة أنّ لأمتنا هوية واحدة، وأنّ تعدّد الهويات في بلادنا لن تقوم له قائمة، وأنّ قوى الإرهاب لن تنجح في تحقيق أهداف مشغِّليها، فالإرهاب، عناصر وأفكاراً، لا يحمل هوية هذه البلاد، بل هو نتيجة هجرات من دول معروفة، كما الهجرة الاستيطانية اليهودية المنظمة إلى أرض فلسطين.

في خضمّ حروب التدمير والتفتيت على أمتنا يأخذ الصراع بعده الوجودي، فلا دويلات مذهبية وطائفية واتنية، ولا شرق أوسط جديد كما اشتهته رايس، ولا شرق أوسط متصهين كما نظّر له بيريز، بل أمة مشرقية مشرقة منتصرة بحقها وحقيقتها وهويتها على الاحتلال والإرهاب.

عميد الإعلام في الحزب السوري القومي الاجتماعي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى