حين تحكّم واشنطن الأخلاق في حروبها
سعدالله الخليل
حين قال ألبرت آينشتاين «كم أحتقر الحرب، التي تبدو في غاية البشاعة. وأفضل أن أقطّع إلى قطع على أن أشارك بهذا الحدث البائس»، أطلق أبو النسبية العالمية حكمه المبرم على بشاعة الحروب، بعيداً عن فلسفة الحروب ومبرّراتها، التي لم تنفع القواعد والتشريعات والقوانين بالحدّ منها.
آينشتاين، الذي توفي بعد عقد من وضع الحرب العالمية الثانية أوزارها، لم يتسنّ له أن يعاصر حروب القرن الحادي والعشرين، التي قضت على مئات الألاف من المدنيين، منذ أن اخترعت القوة الكبرى المسيطرة على العالم حربها «الدونكيشوتية» ضدّ مارد الإرهاب، في زمن القطبية الأميركية الواحدة، التي لا منازع لها في قاموس القوة العسكرية، الخارقة لعالم لا مكان للأخلاق في أيّ من المجالات، فكيف بالحروب التي لا مكان للعواطف والنيات الحسنة فيها، خصوصا في ما يتعلق بمصير شعوب محسوبة من الدرجة الثالثة تحت الصفر، في سجلات الدول الكبرى.
أسقطت حروب القرن الحادي والعشرين، ما في جعبة الغرب من ادّعاءات أخلاقية. وإذ نجحت الولايات المتحدة في استثمار أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 وتنامي خطر تنظيم «القاعدة» في تبرير حربها ضدّ أفغانستان وأخفت مراميها الأساسية في إسقاط النفوذ السوفياتي والاقتراب من الحدود الإيرانية، فإنّ حروبها الناعمة المظهر والقاسية المضمون، خلال السنوات الست الماضية، التي سرعان ما تحوّلت من «ثورات وردية» إلى دمار أوطان لا يتوقف، يجتاح الحدود من دون أيّ سعي جدي للحدّ منها، على الرغم من حجم التصريحات والادّعاءات بالسعي لوقف شلال الدم النازف، من اليمن إلى العراق فسورية وليبيا.
يصعب إيجاد ما يمتّ للأخلاق في سجل ما تشنّه الولايات المتحدة من معارك، سواء بالأصالة، أو عبر وكلائها في المنطقة من بني سعود في أراضي الحجاز، إلى منتجات «الإخوان المسلمين» في تركيا وقطر، مروراً بالتيارات المحسوبة على تنظيم «القاعدة» في اليمن والعراق وليبيا.
في أحدث المجازر السعودية في اليمن، التي لم تستطع إخفاءها آلة الإعلام و«البروباغندا» السياسية السعودية والأميركية، بقصف مجلس العزاء في صنعاء، الذي راح ضحيته أكثر من 700 يمني، بين شهيد وجريح، اضطرت قيادة التحالف السعودي لقبول النتائج التي أعلنها فريق التحقيق المشترك. ولم تتوان، في بيان لها، عن الإعراب عن أسفها لما وصفته بـ «حادث غير مقصود نتجت عنه آلام لأسر الضحايا وهو ما لا ينسجم مع الأهداف النبيلة للتحالف وعلى رأسها حماية المدنيين وإعادة الأمن والاستقرار إلى اليمن الشقيق»! لعلّ قارئ البيان يعتقد أنّ الطائرات السعودية ترمي اليمنيين بالورود والمنّ والسلوى!؟
وبالعودة إلى بيان التحالف، فقد اتهم من وصفتهم الرياض بالأركان العامة اليمنية، التي قدّمت إلى المركز معلومات عن وجود قيادات حوثية مسلحة في الموقع، تبيّن لاحقاً أنها معلومات مغلوطة، أيّ أنها حملت اليمنيين من حلفائها، مسؤولية سفك الدم اليمني. وبالتالي، تسعى السعودية لغسل يديها من دماء اليمنيين وهو ما يفتح الباب واسعاً لسلسلة جرائم قادمة، تجد الرياض فيها مخرجاً مريحاً لطيرانها، تحت مصطلح الخطأ غير المقصود وتسجل القضية ضدّ مجهول، مستخدمة الأسلوب نفسه الذي أخرجت واشنطن غارتها الجوية على جبل الثردة، في محيط مطار دير الزور، التي راح ضحيتها ما يقارب 80 شهيدا وحوالى 100 جريح، حيث أعلنت بعد فشل تنظيم «داعش» بالسيطرة على الجبل وامتلاك الجيش السوري زمام المبادرة، أنّ الغارة كانت نتيجة خطأ غير مقصود وعبّرت عن أسفها، على الطريقة المعتادة لتبرير جرائمها، من دون أن تعير أيّ اهتمام لأرواح زهقت بقنابل غاراتها على الأراضي السورية. ولم تعترف بانتهاك أجواء بلد ما يزال عضواً فاعلاً في هيئة الأمم المتحدة ومن المفروض أن تحترم كلّ الدول المنضوية تحت راية المنظمة الدولية، السيادة السورية على أراضيها وتدافع عن أراضيها.
غياب الأخلاق لا يقتصر على الحروب الأميركية في الشرق الأوسط، بل يعدّ نهجاً في المعارك الأميركية الداخلية. وما تشهده حملة الانتخابات الرئاسية بين المرشحيْن الجمهوري دونالد ترامب والديمقراطية هيلاري كلينتون، على منصب رئيس الولايات المتحدة، سواء بما كشفته وثائق سرّبها «ويكيليكس» عن رسالة لأحد أعضاء الحملة الانتخابية لكلينتون، تتضمّن مخططاً لبث معلومات مغلوطة عن المواصفات الواجب توافرها لدى النساء، لشغل وظائف في شركات ترامب، كضرورة توافر وزن معيّن لا يجب تخطيه والإدلاء بمعلومات كاذبة عن العمر الحقيقي وما قد يتعرّضن له من سوء المعاملة، إضافة للتحرش ووجود نية لدى حملة كلينتون، لنشر معلومات كاذبة تتعلق بما يمكن أن تتعرّض له لنساء أثناء ساعات العمل «كقبلة شفاه»، أو تحرش جسدي «تحت الطاولة» أثناء عقد الاجتماعات. في المقابل، شنّ ترامب حملة ضدّ منافسته كلينتون واتهمها باستخدام مواد منشطة واقترح إخضاعها لفحوصات قبل المناظرة المقبلة.
مستوى الانحطاط الذي وصلت إلية الحملة الرئاسية الأميركية، يؤكد أنّ الأخلاق غائبة عما يدور في كواليس واشنطن وفي العلن. وأنّ كلّ شيء قابل للبيع والشراء، بما فيها الأخلاق، ليتحقق قول الشاعر أحمد شوقي «إنما الأمم الأخلاق ما بقيت، فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا»، فحين تحكّم واشنطن الأخلاق في حروبها، تنحو طريق البغايا في الحديث عن الحياء.