مبادرة حادة الزوايا في لوزان… هل جرى تدويرها في لندن؟
سومر صالح
شكّل انهيار اتفاق جنيف 9/9 لحظةً فارقةً في مسيرة الاستقطاب الأميركي الروسي في سورية، ليس لأهمية الاتفاق بحدّ ذاته فقد سبقته اتفاقات شبيهة وسقطت كاتفاق 15 تموز ، ولكن لأنّ روسيا أدركت سلفاً أنّ نتيجة اتفاقات كهذه مع الولايات المتحدة، ليس الانتقال الى مسارٍ سياسيٍّ متوازن وفق القرار 2254 بل مسار «انتقالي جذري» وفق بيان جنيف الأول 2012 بحذافيره وهيئته الصورية، فالعملية العدائية الأميركية على موقع الجيش السوري في جبل الثردة في دير الزور 17/9 عززت هذه الرؤية لدى القيادة الروسية، وبغضّ النظر عن موقف اوباما كيري من العملية، أصبح من الجليّ لدى القيادة الروسية أنّ العبثية في إدارة الفوضى في سورية باتت معلماً لنهاية حكم اوباما، فكان القرار، حسم المعركة في حلب رداً على العبثية الأميركية، وأمام عجز أوباما عن إدارة النخبة الداخلية الاميركية، قفز عن عجزه الداخلي خطوة تصعيدية في سورية، وفي ظلّ حالة السيولة الدولية والحاجة الاميركية لتأكيد هيبتها والتخبّط الداخلي الاميركي والاندفاعة التركية والسعودية وحتى الاسرائيلية الى عمل عدوانيّ محتمل في سورية، كان القرار الروسي واضحاً في عدم انتظار الخطوة الاميركية التالية في سورية، سواء أكانت خطة ب أميركية أو دعم خطة ب إقليمية، وحتى لا تقع روسيا في مطبات «الأفغنة»، أو تصبح في لحظة اتخاذ قرار حرجٍ نتيجة عملٍ عدائيٍّ واسع غير محسوب للولايات المتحدة في سورية، لم تنتقل روسيا الى الخطة ب كردّ افتراضي، بل تجاوزتها الى المرحلة ب في شرق المتوسط بتصديق اتفاقية الوجود الدائم في شرق المتوسط 7/10 ، أيّ أنها قطعت الطريق على الادارة الاميركية في خيارات العمليات العدائية ضدّ سورية، واعلنت صراحة أنّ استهداف القوات السورية يعني استهداف روسيا، هذا الموقف قاد الى تصعيد النبرة الاميركية العدائية ضدّ سورية، موقف قابلته روسيا بالتحدي عبر منظومات اس300 و بانتسير ولاحقاً توجه القوة الضاربة البحرية الروسية الى سواحل سورية، فبات واضحاً أنّ روسيا مستعدة لكلّ الخيارات الأميركية بما فيها الحرب، ولكن لنزع فتيلها أعلن الرئيس بوتين صراحة أنه لا يريد الحرب ورمى الكرة في ملعب «الشركاء» في إشارة إلى الاميركي.
هذه الخطوات الروسية عمّقت المأزق العسكري الأميركي، ومأزق الهيبة في حدّ ذاته، فبات من الضروري أن يتحرك طرفٌ ما لتأمين مطار آمن لأوباما بعد أن رفع سقف تصريحاته، فكانت مبادرة دي ميستورا في 6/10 ضمن هذا الإطار، ولعلها كُتبت بأقلام ادارته وطبعت في مطابع وزارة دفاعه، متضمّنةً في لحظة طرحها «فقط عملية إخراج مسلحي تنظيم «جبهة النصرة» من الأحياء الشرقية لحلب، و معلناً السيد دي ميستورا استعداده للتوجه إلى جبهات القتال شخصياً لمرافقة خروج المسلحين»، مبادرةٌ لاقت ترحيباً مبدئياً من عدّة أطراف فاعلة في الازمة السورية ومنها روسيا، ولكنها بقيت في إطار المبادرة في خضمّ الاستقطاب العسكري الاميركي الروسي الحادّ، ولكن، مع هبوب رياح التهدئة المؤقتة باعتبارها خيار الضرورة الحاسم عادت هذا المبادرة الى العلن على شكل «خطة تفصيلية عملياتية تتضمّن تسلسلاً واضحاً للخطوات، وللتفاوض مع الأطراف المعنية»، قُدّمت كأحد مقترحين لاجتماع لوزان حول سورية 15/10 مع المقترح التركي الذي يبدو أنه لم يحظ بأهمية في الاجتماع نظراً لسقفه العالي في موضوع «المنطقة الآمنة».
ولكن، هل هذه المبادرة قابلة للحياة أم أنها فقط وسيلة لتبريد الصراع والاستقطاب عبر عمليات التشاور الثنائية والمتعددة الاطراف حول بنودها؟ يبقى الجواب محكوماً في طبيعة بنودها وما تحمله من تفاصيل في ثناياها، من هنا لا بدّ من تقديم رؤية حول مضمونها بداية، فالمبادرة أشبه بما تكون بمثلث حادّ الزاويا في رؤوسه الثلاث، فالرأس الأول هو مضمون المبادرة، فهي بالأصل لا تسري على المجموعات المسلحة الموجودة في شرق حلب، أيّ هي محاولة من طرفٍ ما صاغ تلك المبادرة لمنع تقدم الجيش السوري في تلك الأحياء تحت مسمّى هدنة، وحماية «جبهة النصرة» تحت اسم تلك الفصائل، فتخفيض العدد من 8000 مقاتل لجبهة النصرة الى ما دون 900 واضح في مقصده، ومن المستبعد أن تقبل روسيا عرضاً كهذا مع قرار القيادة السورية تطهير كلّ الأحياء الشرقية لحلب، أمّا الرأس الحادّ الثاني فهو موضوع «الإدارة المحلية» المستقلة الذاتية القادرة على مواصلة العمل بدون أيّ تدخل قبل الحكومة السورية، وهو أمر يعني الفدرلة في سورية، وهو خط أحمر سوري لن تقبل به القيادة السورية وترفضه بشكل قاطع بوصفه «أمراً واقعاً» وليس» إرادة شعبية» غير متوفرة بطبيعة الحال…
وبالانتقال الى الرأس الحادّ الثالث فهو قضية «الضمانات المكتوبة من روسيا أو من خلالها من الحكومة السورية بما يتعلق بوقف الأنشطة العسكرية وتوفير الممرات الآمنة للمقاتلين والاحترام الكامل للإدارة المحلية»، فعندما يصدر طلب كهذا من «وسيط» دولي من المفترض أنه يمثّل الأمم المتحدة، وسورية عضو أصيل مؤسس في هذه المنظمة، يجب مخاطبته مباشرة وليس عبر وسيط كما يطلب السيد دي ميستورا، فمجرد الطلب عبر وسيط، أيّ أنها رسالة «عدم الاعتراف بشرعية الدولة السورية»، وهو أمرٌ مخالف لمبادئ الأمم المتحدة ولأغراض تكليف الوسيط دي ميستورا بمهامه، وهو تجاوز يحمل طابع الخبث لن تقبل به حكومة دمشق، هذا إذا ما اضفنا أنّ كلّ هذه الاجراءات «ستكون بمثابة تدبير مؤقت إلى حين الاتفاق على حلّ سياسيٍّ أوسع في سياق العملية السياسية»، وبالتالي من غير المتوقع أن تطبق فقرة واحدة من هذه المبادرة مع هذا البند الخطير في نص المبادرة.
ومع هذه الملاحظات يبدو أنّ فرص نجاح هذه المبادرة ضئيلة إنْ لم نقل إنها معدومة في صيغتها الحالية، ولكن مع نفحات الأمل المعقولة وعدم التشنّج في المواقف الصادرة عن المؤتمرين في لوزان، واتجاه الوزير كيري الى لندن مباشرة من لوزان لمتابعة تفاصيل اجتماع لوزان مع الرباعية الأوروبية وما صدر من مواقف بريطانية تطالب «بفصل النصرة عن الفصائل المعارضة»، يبدو أنّ هنالك مسعىً ما لتدوير تلك الزوايا الحادّة في المبادرة الاميركية لدي ميستورا، وهو محور اجتماعات الاثنين في «لوزان 2»، تحت يافطة عريضة تأسيسية لمنع تقسيم سورية أو فرض أجندات إسلامية مستقبلية في نظامها السياسي يؤسّس لها «لوزان 1» بالاتفاق على «الحفاظ على سورية كدولة موحدة مستقلة علمانية» أيّ العودة الى إعلان فيينا الأول 30/10/2015 ببنده الأول وهذا يعني إمكانية تأسيس مسار مواز لمسار فيينا في لوزان يراعي جملة التطورات الميدانية في سورية، ويحتوي الوجود الروسي في سورية بواقعه الجديد، ومن السيناريوات المحتملة لتدوير تلك الزوايا البدء بخروج تدريجي لكلّ المسلحين من الأحياء الشرقية لحلب وليس فقط «جبهة النصرة»، فالخلاف ليس على العدد بل على المبدأ بذاته، ولعله أمرٌ ليس معقداً كثيراً لدى الطرف الاميركي، فهو يملك السلطة والأمر أو رفع الغطاء السياسي عن تلك الفصائل، وخروجهم باتفاق يبقى أقلّ وطأة على الولايات المتحدة من خروج فصائلها بهزيمة نكراء على يد القوات السورية المدعومة من حلفائها الى آخر مدىًّ تذهب فيه هذه المعركة.. ومعه إذا ما تمّ تدوير هذه الزاوية يصبح موضوع الادارة الذاتية خارج التطبيق موضوعاً ونتيجةً…
هنا قد يقول قائل إنّ الولايات المتحدة لن تقرّ بالهزيمة في الأحياء الشرقية لحلب بهذه البساطة باعتبارها مركز الصراع الحالي في سورية، نقول هنا إنّ الوقائع الميدانية والاستراتيجية في سورية قد تجاوزت أوهام تلك الإدارة والتي باتت عاجزة تماماً عن تغيير تلك الوقائع سواء في حلب أو في عموم سورية، وبات خيارها العقلاني هو التعامل مع الأمر الواقع العسكري السوري، الذي يتطوّر تسليحاً وتكتيكاً كلما تصاعد الخطر الاميركي، وهي مسلّمةٌ باتت تعلّق على جدران غرف التخطيط الاستراتيجي في واشنطن، وتبقى معها تلك الأعين شاخصة الى منع الخلل في التوازن الاستراتيجي في الشرق الاوسط خصوصاً بين سورية والعدو «الاسرائيلي»، فمنظومات «اس 300» و«بانتسير».. هي دروس للولايات المتحدة في عبثية القرارات الاستراتيجية، ستدفع عليه الولايات المتحدة الكثير من المليارات لتقليل مفاعليه على أمن حليفتها «اسرائيل» وعلى عموم الصراع في «الشرق الاوسط».