سؤالٌ هجينٌ في زمنٍ صَعب؟
عدنان كنفاني
من الغريب أن تطرَح جهة ما موضوعاً للبحث تحت عنوان أسئلة بحث «عوامل الشرخ الاجتماعي في سورية» !! لجمع معلومات تسعى بمجملها لتأكيد «سلبية» هذا العنوان.
وقد كان لي رأي أبديته، قلت فيه… أختلف معكم في عنوان الموضوع، عندما نقول «الشرخ» وهي كلمة واسعة المدلولات، تحسم مسبقاً نتائج طرح الموضوع على أن مسألة الشرخ أمر واقع، وهذا ما أعتبره عكس الواقع على الأرض، فالشرخ قطع وتمزيق، ما يعني تفكك المجتمع والبلد، وهذا ليس صحيحاً، فالبلد قائمة، والحكومة موجودة، والشعب موجود، والجيش موجود على رغم قسوة الأحداث والصخب المفبرك الذي يجري ويدور، ليس من فعل ذاتي، بل من فعل خارجي، دبّر وخطط واشترى وباع ودعم وموّل.
علينا أن ندرك أن سورية عاشت أكثر من 400 سنة تحت الحكم العثماني المتخلّف، الذي وضَّع ثقافات هزيلة تدميرية ساهمت إلى حد كبير في «تجهيل» الأمّة، وتفقيرها، ومحاولات تعميق «ما يبدو فوارق اجتماعية» على خلفية بيك وباشا وسيد ومسود وفلاح ومدني، كلها تحت شعار الدين، حتى أصبح الهاجس العام هاجساً دينياً متزمّتاً وجافاً لا يتطوّر، وغير قابل للتطوّر، وهذا على عكس ما ينادي به الدين الإسلامي.
ثم جاء الاستعمار الفرنسي، وهو استعمار يهدم ولا يبني كما هو معروف، ويسرق ثروات البلاد، ويطمس مآثر البلد وتاريخها وذاكرتها، واشتغل على وتر الطائفية والإقليمية والمذهبية ولم يفلح، فقد تصدت له كل التركيبة الاجتماعية في سورية، «صالح العلي، وسلطان الأطرش وهنانو والأشمر والخرّاط» وغيرهم، من كافة الطوائف والمذاهب والثقافات.
وقبل ذلك لم تنجُ سورية من غزوات استعمارية لم يكن أولها حملات نابليون والاسكندر وهولاكو والتتر، ولم يكن آخرها حرب الفرنجة، وأكاد أقول أن لم تبق أمّة على وجه الأرض مرّت بعصور قوة ولم تغزُ سورية، ولم تكد تقوم سورية من كبوة الاحتلالات حتى توالت عليها صنوف المؤامرات، التي أججت نار الانقلابات المتتالية ساعية لوضع عوائق أمام محاولة النهوض والتطوّر.
وكان على سورية دائماً أن تصبّ كل جهدها، الاقتصادي والعسكري تحسّباً من التمدد «الإسرائيلي»، ومحاولة دائمة لرفع الجاهزية الدفاعية، ونصرة المقاومة، ما تسبب في تقليص الاهتمام في موضوعة بناء البلد ورفاهه، ووفّر أرضاً خصبة لتهالك اقتصادي، الآن تبدو آثاره المثيرة للجدل عندما نعلم يقيناً أن أكثر الذين «ركبوا» موجة المعارضة، كان المال الدافع وراء ذلك وليس الفكر ولا المعاناة، على رغم وجود ملامح هذا المسار الخاطئ في سلوك الدول، ولا يمكن بأي حال أن نتّهم مجتمعاً ما بالشرخ وهو ما تسعى إليه الدول المخططة والساعية لتدمير البلد وبفعل غرباء مرتزقة قدموا من أرجاء الأرض، ومن مزابل بلادهم لتنفيذ ما رُسم لهم.
لو أعملنا الحكمة في بداية ما جرى لأدركنا حجم «مؤامرة» شاركت فيها أطراف كثيرة ولا أبرئ أحداً من بقايا الاستعمار القديم والجديد، وكل ذلك، وتداعيات «الربيع العربي العتيد» كانت لمصلحة «إسرائيل» بامتياز، كمحطة متقدمة للاستعمار الجديد، ولوجدنا أن غالبية من خرج في الشوارع على تهمة الحريّة من الجيل الصغير سنّاً ودون العشرين من العمر وبدافع انتفاعي وانفعالي آني، الصوت له قيمة، والاعتداء قيمة، ولحمل السلاح قيمة، والقتل والاغتصاب والذبح، ولكل فعل ثمن على قد الفعل، إلى أن وصل الحال إلى «داعش».!
هذه الطفرة الغريبة عن البيئة والتاريخ والدين والحاضرة، ومهما كان لها من أثر آني فهي حتماً إلى زوال لأنها حركة فكرية متطرّفة غوغائية خارجة عن قيم الواقع والناس والأرض والجغرافيا، وعن الفكر الحداثي الفطري الطبيعي لمنظومة البشر.
هذا الـ داعش الذي خلقته وربّته دول كبرى، ودعمته وموّلته دول أجيرة، وسهّلت تحركاته دول إقليمية تحمل أحلام الماضي البائدة.
وتبقى سورية نسيج وحدها، تملك خصوصية فريدة من حيث التركيبة السكانية، والتيارات الفكرية المتنوعة، والثقافات المتنوعة، والانتماءات الدينية المتنوعة أيضاً، فيها نماذج مختلفة تتماشى وتتعايش مع البيئة والمكان والجغرافيا، كان ذلك منذ أزمان سحيقة وبعيدة تحت ظل دولة جامعة، ولا يعقل أن تتفرّد كل كتلة، صغيرة أو كبيرة باستقلال جغرافي مستقل ما دامت تشكل بمجموعها منظومة الوطن، واجبات وحقوق، بل كانت وحدة في الدفاع عن الوطن في مفاصل كثيرة، من دون الالتفات إلى فوارق طبقية أو دينية أو سياسية، فسيفساء جميل، لحمة واحدة في التصدي لكل مؤامرات الاستعمار قديماً وحديثاً.
من هذا المنظور علينا أن نلقي جانباً كل محاولات التشكيك المذهبي والديني، فالانقلابات التي حدثت في سورية، ودائماً، والحركات التي يطلقون عليها ثورات أو انتفاضات عرقية مذهبية لم تكن أكثر من حراك سياسي للاستئثار بالحكم، ومن تنظيمات تنفّذ أجندات خارجية كما حصل بأحداث حماة من قِبل «الإخوان المسلمين» الذين استهدفوا كل المذاهب من دون استثناء.
هذه اللوحة الفسيفسائية التي يمثّلها نسيج المجتمع السوري، والمغرقة في القدم، لا يمكن أن يصيبها شرخ قاطع، قد ترتبك إلى حين لكنها سرعان ما تستعيد وهجها كي تستمر الحياة.
نعم نعاني من مشاكل كثيرة، كما تعاني دول أخرى، لكنها مشاكل لا يمكن أن تترك أثراً على القيمة الوجودية لسورية.
يبقى أمر أخير، سؤال ينتظر إجابة واضحة ومحددة من الذين يزاودون على سورية حكومة وأرضاً وشعباً.
منذ بدأت الأزمة في سورية، أو لنقل قبلها، لو وافقت الحكومة السورية، ممثّلة برئيسها «المستهدف الأول»، لو أنها قبلت وأعلنت موقفها، أن تسير في ركب أميركا، وتعترف بـ «إسرائيل»، وتتخلّى عن دعم المقاومة الفلسطينية واللبنانية، وتطرد الفصائل الفلسطينية من أرضها، ترى كيف سيكون الموقف والحال.؟ هل كانت ستعاني سورية مما تعانيه الآن، أم سيتوّجونها، ورئيسها، على هرم الرضا والاستحسان.؟!