الـ«تخوم» التركية… هندسة جيوسياسية جديدة
سومر صالح
انتهاك رئيس النظام التركي للحدود الجنوبية لتركيا ليس حدثاً عابراً أو مغامرةً شخصيةً غير محسوبة، لها دوافع عاطفية تتمثل فقط باستعادة أمجاد عثمانية دُثرت مع مطلع القرن المنصرم، فقليلٌ من التمعّن في الداخل التركي يظهر أنّ الرئيس التركي بات يحظى بشعبية قومية توركسوية قلّ حدوثها في تركيا بما فيها تأييد أطراف معارضة لسياساته الإقليمية كانت حتى الأمس القريب تتخندق ضدّ سياساته وتتحالف مع خصومه الإقليميين، فمن كان يعاند أردوغان بسياساته المتهوّرة في سورية بات اليوم يشدّ على يده بما يخصّ الأمن القومي التركي وفق رؤية جديدة مشتركة زاوج أردوغان وطاقمه الأمني بين إسلامويتها الإقليمية السنية وقوميتها التركية وملحقاتها التركمانية مما شدّ أزر معارضيه لصالح هذه الرؤية، وبتحليل سياسيّ لما يجري يتضح أنّ فكرة التدخل العسكري التي طرحها أردوغان مع بدايات العام 2012 في سورية لإنشاء منطقة عازلة عسكرياً مع فرض للحظر الجوي عليها، ليست ذاتها مشروع أردوغان اليوم وإنْ حافظت على شكلها الخارجي بستار «المنطقة العازلة»، والتي بدأت تدقّ البوابة العراقية عبر استخدام ذات المصطلح للتلميح لمرحلة في ما بعد معركة الموصل، فرؤية أردوغان وهندسة داوود اوغلو للتدخل في سورية عبر منطقة عازلة كانت حتى العام 2015 محصورةً بأهداف تكتيكية في مراحلها الأولى لإضعاف الدولة المركزية وإنشاء منصة قضم متسارع للأراضي السورية عبر أذرع ميدانية سورية، تتضمّن فرض «الإسلام السياسي» كمشروع سياسيّ في سورية كنتيجة، ولكن طرأ تعديل على هذه الرؤية مع تأسيس الكرد لـ «قوات سورية الديمقراطية» ودخول المشروع الكردي في سورية مرحلة التمدد العلني المستقلّ بدعم أميركيّ وصمت روسيّ.
هنا أُضيف إلى بنك الأهداف السابقة لمشروع أردوغان هدفٌ يتلخص بتقويض المشروع الفيدرالي الكردي ومنع التواصل الجغرافي بين كانتوناته الثلاثة لا سيما اتصال عين العرب بعفرين، ورغم كلّ هذه الهواجس والأهداف لم تسعف الظروف الإقليمية والدولية أردوغان لتمرير مخططته في الشمال السوري، حتى في الداخل التركي حيث كان مخططه هذا أبرز أسباب خسارة الأكثرية البرلمانية في انتخابات 7 حزيران 2015، والتي تلتها انتخابات مبكرة، ولكن مع 24/8/2016 دشّن أردوغان مرحلة جديدة من سياسته بإعلان عمليات «درع الفرات» بغطاء جويّ ومدفعيّ تركيّ واشتراك بريّ لوحدات الدبابات والمشاة جزئياً لدعم الفصائل المعارضة في سيطرتها على منطقة جرابلس السورية ولاحقاً كامل الشريط الحدودي بين سورية وتركيا غربي نهر الفرات بطول 91 كم، وبعمق يريده أردوغان بعمق 45كم ، وهنا بدأ التحوّل التركي الداخلي بتأييد كامل لأردوغان في عدوانه على سورية ومحاولته فرض «المنطقة العازلة» كأمر واقع…
هنا يمكن طرح التساؤلات حول المتغيّرات التي أدّت الى نقل المشروع التركي من إطاره النظري الى التنفيذ على الأرض مسنوداً بتأييد المعارضة التركية… في هذا الظرف الاقليمي الحساس والمحفوف بمخاطر الانزلاق الى مواجهات اقليمية ودولية؟
يظهر جلياً من التصريحات التركية أنّ هدف العلميات العسكرية التركية في سورية والعراق لم يعد ينحصر بمقتضيات الحرب الداخلية على العراق أو سورية وظروفها وحتى أطرافها والنواتج المتوخاة عن الصراع، بل تعداها إلى محاولة إعادة كتابة اتفاق لوزان 1923 والتي حلّت محلّ اتفاقية سيفر 1920 واتفاقية انقرة الانجورا 1926 ، بما يتيح لأردوغان تحقيق هدفه بمنع التواصل الكردي ليس في سورية فقط بل فصل أكراد سورية عن العراق وفصل أكراد سورية عن أكراد تركيا بإقامة الجدار الفاصل الذي استكمل منه 200 كم من أصل 700 كم المزمع تشييدها، فالموقف التركي من الصراع الأميركي/ الروسي في سورية بات حساساً لأيّ من الطرفين، الأمر الذي منح أردوغان هامشاً كبيراً للمناورة بين طرفي الصراع شاقّاً طريقه في عمق الأراضي السورية، بعكس الحالة العراقية التي لم تمنحه هامش المناورة ذاتها إلّا من خلال الضغط على الولايات المتحدة في سورية، كما أنّ تطور الصراع بين روسيا والولايات المتحدة في أكثر من مكان لدى تركيا فيها أوراق يمكن اللعب من خلالها لا سيما القرم واوكرانيا وآسيا الوسطى، كلّها عوامل جعلت من تركيا ومشروعها السياسي الخاص عاملاً مفصلياً في ترجيح كفة أحد الأطراف الدولية، ومع الانخراط المتزايد لروسيا في سورية والولايات المتحدة في العراق وسورية، أدرك أردوغان أنّ هندسةً جيوسياسيةً باتت مؤكدةً كنتيجة لنزول القوتين الأكبر في العالم ميدان المنازلة العسكرية وهو أمرٌ لم يحدث بهذه الحدّة منذ أزمة الكاريبي 1962 ومفاعيلها، ظرفٌ دوليٌّ حادٌّ الاستقطاب وفّر لأردوغان فرصة السير بمشروعه الخاص على خط التماس بين هذين المشروعين مستغلاً تنافس الطرفين على استقطاب تركيا، ولكن بات الجميع يدرك جيداً أنّ العالم ليس في طور استبدال نظام دوليّ بآخر انطلاقاً من الوضع السوريّ، فالأمور لم تصل بعد إلى مرحلة الحرب العالمية رغم حدّة التصريحات وقرقعة السلاح، بل نحن أمام إعادة ترتيب هذا النسق الدولي بما يتيح وضعاً دولياً جديداً قد يكون ثنائيّ القطبية أو متعدّد، وبالتالي الوضع التركي الجديد في الشمال السوري والعراقي هو وضعٌ عدوانيّ غير مشروع، ما يحتّم زواله في نهاية الصراع إنْ بقيّ في إطاره الفجّ التركي الطابع، وأنّ الحدود الموضوعة سابقاً ستبقى أقلها في مناطق العدوان التركي، من هنا بدأ أردوغان بمشروع «التخوم» عوضاً عن مشروع «المنطقة العازلة» التي مآلها الاندماج مع الوطن الأمّ في نهاية الصراع عبر عملية سياسية على اعتبار أنها «منطقة فصل بين طرفيّ نزاع»، بينما «منطقة التخوم» وهي منطقة فصل وتنافس وصراع بين الدول أسبق بالوجود عن مفهوم الحدود، ترتبط بصراع القوى والتوسع الحيوي، من هنا كانت الإيماءات التركية بتعديل اتفاق لوزان بفقرته 3 وتعديل اتفاق انقرة 1926 بكليته، والادّعاء بمناطق حلب والموصل على أنها مناطق تركية، وهذا يفرض معادلات جديدة في منطقة الصراع بعكس «المنطقة العازلة» التي كما ذكرت مآلها الوطن الأمّ مهما تعقّد الصراع وطال، فالصراع على «التخوم» يفرض نظرياً أحد ثلاثة احتمالات، الأول هو تقسيم منطقة التخوم بين الدولتين وفق اتفاق دوليّ جديد، والاحتمال الثاني أن تضمّ منطقة التخوم بكاملها الى أحد الطرفين على قاعدة الانتصار الكامل، والاحتمال الثالث هو تحويل منطقة التخوم الى دولة أو مناطق سياسية ذاتية ذات نظام سياسيّ مستقلّ تسمّى بـ الدول العازلة وتتمتع هذه الدول بسيادة وحياد نظري يمكّنها من الحياة وقد وجد هذا النوع من الدول للتخفيف أو الحجز من التوتر بين القوى الكبرى المتنافسة والتقليل من إمكانية التصادم بينها ومن أمثلتها دول البنلوكس هولندا، بلجيكا، لكسمبورغ التي نشأت عام 1943 بموجب معاهدة «فردان» للتحجيز بين المانيا وفرنسا.
هنا يتضح لدينا الهدف التركيّ الحقيقيّ من عمليات الجيش التركي العدوانية في الشمال السوريّ والإصرار على العمليات العسكرية في العراق والوجود الدائم هناك في قاعدة بعشيقة والقواعد التركية الصغيرة في إقليم كردستان العراق، بالعمل على إنشاء «كيانين عازلين» ذات نظام سياسيّ معترف بهما تحقق من خلالهما هدفها بمنع التواصل الكردي الإقليمي، وتعزز نفوذها الإقليمي وتسيطر على أهمّ الطرق البرية بين إيران وسورية بما يقوّض النفوذ الإيرانيّ أيضاً وتشرف من خلالهما على أهمّ احتياطيات النفط والغاز في سورية والعراق، ويبقى الكلام التركي عن فرض «منطقة عازلة عسكرياً» سورية الطابع ترتبط بظروف الصراع الداخلي في سورية أمرٌ للاستهلاك الاعلاميّ ولشدّ أزر الأذرع الميدانية السورية العاملة بالأمرة التركية وعدم نفورها من المشروع التركي الرامي إلى تجزئة مناطق عدوان القوات التركية.. وكغطاء سياسيّ لحقيقة مشروعها، فـ «التخوم التركية» مشروعٌ عدوانيٌّ تجزيئيٌّ للعراق وسورية يشتدّ عوده بزيادة حدّة الاستقطاب الاميركي/ الروسي، ويضمحلّ بالتفاهمات الكبرى الأميركية/ الروسية على إدارة المنطقة، دون أن نغفل أنّ الكانتونات الكردية أيضاً هي مشاريع «تخوم أميركية» ضمن سياق مشابه، ولكن مع دخول العدوان على سورية مراحل خطرة نحن كسوريين نثق بقيادتنا وجيشنا وإمكانياته لإفشال مخطط «التخوم التركية» وحتى الأميركية، وجيشنا بانتظار الساعة الصفر لتحرير مدينة الباب ولاحقاً الوصول الى الحدود السورية الشمالية، بعد أن أنذر طائرات العدوان التركي بالإسقاط…