خفوت الصوت الثقافيّ في وجه «الداعشيّ»
جورج كعدي
لم يَرْقَ صوت المثقّف عندنا بعد إلى ما كان عليه، تاريخيّاً، صوت المثقّف في الغرب، يوم كان جان بول سارتر أو ألبير كامو أو أندريه مالرو أو لوي أراغون أو بابلو نيرودا يحرّكون شوارع ومدناً وأوطاناً، بل رأياً عالميّاً ينتظر مواقفهم وآراءهم ويتأثّر بها، تأييداً ومبايعةً، أو رفضاً ومناقشةً. كانت ثمّة حيويّة فائقة فكريّاً وفلسفيّاً وإيديولوجيّاً وفنّياً، وكان كلٌّ يعبّر في حقله وميدانه فيلقى تعبيره أصداء تتردّد طولاً وعرضاً، على شكل دوائر تتّسع من الدائرة النخبويّة الضيّقة، إلى دائرة المثقّفين والطلاّب الأوسع، فالدائرة الشعبيّة على مستوى الوطن، ومنها إلى دول المحيط والقارّة أوروبا المتفاعلة ثقافيّاً فالعالم المتابع في جهاته الأربع. تفاعلٌ شاملٌ مبنيّ على نزعة إنسانيّة ما انطفأت شعلتها، إلى عقود قريبة، وعلى روح تضامنيّة مع القضايا العالميّة أنّى نشأت وبرزت واستدعت موقفاً من الرأي العام العالميّ، ومن المثقّفين في طليعته. قضايا فلسطين وفيتنام وكمبوديا وبراغ والجزائر ورواندا وسواها العديد، لم تدع المثقّف في الغرب، بل كامل مجتمعاته الحيّة أيضاً، في وضع اللامبالاة والحياد السلبيّ، فرأينا جان جينيه مستميتاً في دفاعه عن قضيّة الشعب الفلسطينيّ المذبوح، وقبله ألبير كامو مكرّساً جزءاً كبيراً من نضاله الفلسفيّ والإنسانيّ لقضيّة التحرّر الجزائريّة، وأندريه مالرو منغمساً إلى الأعمق في مناهضة فاشيّة فرانكو، وجان بول سارتر مطلقاً أعنف السجالات حول العديد من القضايا الساخنة في حقبة الحيويّة الفكريّة والالتزام والنضال الإنسانيّ ضدّ الظلم والوحشيّة والاستعمار.
المفارقة المؤسفة اليوم، الناتجة في أحد جوانبها من مقارنةٍ مع الأمس، أنّ تصدّي مثقّف أمّتنا المستهدفة لمسألة «داعش» ووحشيّتها وهمجيّتها غير المسبوقة في التاريخ البشريّ، يكاد يتراوح بين حدّي التوصيف النظريّ البارد والسخرية الهجّاءة التي ليس الأوان أوانها ولا المقام مقامها، ولا المعلن كتابةً أو شفاهةً في مستوى خطرها الجدّي الداهم وحدثها الجلل الذي يرتّب مآسي ومذابح لجماعات وأفراد، ما لا يدع مجالاً للترف الفكريّ من أبراج عالية خاصّةً في صحافة سوداء تتغذّى من النفط والغاز أو للمزاح والتندّر وابتكار النكات الرديئة عبر مواقع اللاتواصل المشؤومة، الآفة الفاتكة بنا بشراً والوافدة إلينا من منبع الأوبئة والآفات، الولايات المتحدة الأميركيّة.
ظاهرة «داعش» البهيميّة يعوزها صوت إنسانيّ أقوى بكثير، صوت على قدر من القوّة والشدّة والحزم والرزانة، ملؤه الحرارة الإنسانيّة لا البرودة «العقلانية». صوت مرتفع جدّاً يتصدّى للهمجيّة، يثوِّر الوجدان، يستنهض الهمم، يحضّ على الموقف والتحرّك، يجمع، يحشد، يقود، يخلق القضيّة ويبقي شعلتها متّقدة حتّى تتبدّل الأحوال ويزول خطر الحال الشاذّة وتهديدها.
لا قائد فكرياً للأمّة اليوم يخلف زعيماً في الفكر والعقيدة والثورة والنهضة والتغيير وحَمْل الشعلة وبذل النفس حتّى الشهادة مثل أنطون سعاده الذي تفتقده الأمّة في لحظة مصيريّة بامتياز تسمها مؤامرات التفتيت والفتن الطائفية وإطلاق الوحوش «الداعشيّة» و«النصرويّة» وسواها لتفتك بالجسد الفاقد مناعته، والمضيّع سانحة نهضة لم يُحسن التقاط شعاعها الذي عَبَر سماءها مثل نجمة سَعْد وأَمَل أطفأها ظلام العمالة والجهل والتآمر.
أإلى هذا الحدّ يصعب أن تُنجب أمّة الخصب والحضارة والغنى الإنسانيّ والتاريخيّ مثقّفاً نهضويّاً، قائداً وثائراً، يقبض مجدّداً على الشعلة، ينير بها درب الناس كي يثوروا ضدّ أحوال الرِجْعة والرِدّة والتخلّف والتنابذ والتناحر والطائفيّة والمذهبيّة والانقسام… يدلّهم على الطريق القويم، طريق النهضة والوحدة، فتنبعث أحلام الأمّة وآمالها من تحت ركام الموت ويُهزم مشروع «داعش» الكابوسيّ الظلاميّ.
المثقّف المطلوب صوتاً، وفعلاً مساهماً، ليس ذا صفة زعامة أو قيادة، إنّما يكفي أن يكون مثقّفاً ذا التزام ونزعة إنسانيّة وإيمان بالقدرة على التغيير، كي تتمّ المعجزة وتلوح بشائر الخلاص.