صباحات

في الشام تنام سنونوة ويصحو الحمام. في الشام من طقوس النسور ألّا تنام

يحرس قاسيون ضوء الشمس. يستفيق التاريخ على كتف الجغرافيا يسائلها ويبثّ عتابه. هنا طريق بيروت، كيف صارت غابة، كانت جرداء بالأمس، يهمهم نبوخذ نصر لصلاح الدين فيسمع الحاضر صوت الهمس. تدندن حلب في أذن الياسمين ويزمجر الساحل والموج غضب. يقول ها قد جئنا، وكلمة السرّ إلى حلب. دمشق حيث لعبة التاريخ والجغرافيا وحيث ترسم أو تسقط الخرائط، في الحروب لا مكان للعتب. ففي دمشق فولاذ السيوف مختلف وخيط الحرير موشّى بالذهب، وصوت فيروز كالغيم في السماء يحمل رذاذ المطر، يحاكي الصباح، ورائحة البن بين الحارات القديمة وعطر الياسمين فوّاح.

للناس روع وللعطر ضوع وما الظاهر الا سوق وهدايا وعلب. في دمشق تختبر كل اللغات لكن، لا تختبروا لغة السلاح. لا تقاس المدن بالأحجام بل بعمرها

كما تتباهى الصبيّة بمقاس خصرها. دمشق لؤلؤة لم تكتشف بعد يخبّؤها محار

في عمق محيط لم تطله يد صياد ولا وصل إليه بحّار. لا تلامسوها إلا برفق كما بيوت الشعر وأوتار العود وشعر الحبيبة، وتسلسل الحروف. ففي سرها نداء سحر إن غضبت صار شعر الجميلات غابة من السيوف.

كل ألف سنة تحكي الشام حكايتها للمدن البعيدة، كلّ ألف سنة تكتب الشام قصيدة

فيسمع التاريخ وتنصت الجغرافيا ويولد العالم بحلّة جديدة، وتكتب قواعد الحرب من جديد. كلّ ألف سنة تربط الشام شعرها وتشمّر عن زندها وتقول: لا يفل الحديد إلا الحديد. كلّ ألف سنة يحضر فيها الله، كلّ ألف سنة يهديها نصراً، ونصر الله قد وعد. من نبوخذ نصر إلى صلاح الدين، جاء دور الأسد.

لبيروت التي لا يتعب فيها الصوت ولا ينهك حبّها للحياة موت. بيروت التي تسهر للصبح وفيها كلّ أنواع الناس حتى تجّار الرذيلة. يسهر عمال النظافة وباعة الصحف والحبر وبعض من العيون القتيلة. وفي قلب التمدّن الصارخ في كل شيء ينام شيخ القبيلة.

يبقى فيها صوت جبران وفيروز بين الجدران، وتبقى مدينة الأفكار وعاصمة الحرف. تبقى المدينة التي لم ترعبها آلة الاحتلال ولم تعرف معنى الخوف، يبقى فيها من ينادي بأعلى الرصاص والصوت: بيروت لن تصير مدينة عميلة، لن تموت الأخلاق ولن تنتحر الفضيلة. ستبقى بيروت أمّ التناقضات، مهد العرب والعروبة الأصيلة.

في بيروت التي تبهر بالأضواء وآخر صيحات العصر والسهر، فتغار باريس ومدن الغرب وتتساءل من علم من، ومن أبهر من ومن انبهر. لبيروت تتلى كلّ بيوت العشق وتتدلّى كلّ عروق الورد، وتعربش شجيرات صبّار، وتعانق الشمس أرصفة كما النجوم لا يتعبها ليل ولا نهار. لا يقام فيها بين العقل والقلب حصار ولا انقطاع ودّ ولا جدار. للفلسفة نصيب، وللأشعار. كما لسماسرة الصفقات والمرابين وباعة اليانصيب ومقاهي الرصيف وتجار العقار. للمدينة الساحرة حتى بظلمتها وظلمها، بقوتها وضعفها، بالحب والشجار

نعلّق البيانات المكتوبة بالحبر على جدرانها ونلوذ إليها، كباراً كما كنا ونحن صغار.

مدينة الأصوات، منبر الصوت المباح. تعرف سرّها، لا تموت ولا تصير مدينة للأموات والأشباح. عند ساعة الحقيقة، الصوت صدّاح. لكن بيروت عندها تجيد لعبة الحرب كلعبة الحبّ وتتقن استخدام السلاح.

بيروت مدينة العشق والشغف لكل شيء، وكل ما فيها ساحر فاتن. بيروت من قال في الحق لا تسامح لا تصالح لا تمالح لا تهادن. بيروت ستبقين سيدة المدن وعشيقة الثوار ومصنع الأخبار في السر والعلن، رغم فنّ الإشاعات وصناعة النفاق ورغم حروب الفتن. رغم أكوام النفايات وأكاذيب السياسة وزعامات الأنابيب، ومال النفط والعصبيات، ورغم تجار السلاح والمخدرات وساسة العمالة والعمولات وباعة الشعر والشعارات. ستبقين مرساة الحبّ الأبدي والحبر البلدي، والطريق إلى الله، يا عاصمة الأماكن.

في قلب المحيطات وعلى تخوم الصحراء، ولدت مدينة الحضارة والتجارة والصناعة فسمّيت صنعاء.

منها الحرير والضمير ومنها العرب نسل لا مكان للرمل فيه ولا للبغاء، تدفّقوا وتشقّقوا كما سدّ مأرب وقالوا مع الرسول لهم اذهبوا أنتم الطلقاء.

لصنعاء التي في شوارع حاراتها القديمة للبنّ معنى وللشعر مغنى، للعمران خرائط وللأسواق شرائط ففيها الشريعة القديمة وعلم البناء. قبل ناطحات السحاب بألف سنة بنت أبراجها وطاولت عنان السماء. علّمت الحرف الذي جاءها من الشام وكتبت للشعر التهجئة والمدح والهجاء. منها بردوني الشعر نهر دافق كما للبردوني نهر في بلاد الشام صيفاً وشتاء. وفيها للفكر مكتبات وبلقيس ملكة العدل، تقود مملكة لا سيارة بِاسم النساء.

بين صنعاء والصحراء حكاية عمر، فطين بنائها من لِبن ونار وماء. وطين ملوك الرمال في قصورهم رمل وتبن ودماء. لصنعاء قلبي نابض بالحبّ، وللصحراء حرب، حتى ينتصر الكنار على الببغاء. قارب الشعر بحوره، وخط الحرير عائد، والحرب هوية وانتماء. وقاربت صنعاء نصرها، فطوبي للمنتصرين ولو شهداء.

بين دفء القلب وحرارة الطقس توازن، في الصحارى قلوب متجمّدة.

عطر الروح غلّاب وعطر الورد خلّاب.

المناصب والمكاسب نهاية الأفكار الجميلة.

المنافق يتفوّق بالمنطق على أهل الحقّ بالمفرقّ، إلّا أنّ فضيحته بحساب الجملة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى