مصر إلى اليسار درّ… أي خطر استراتيجي يتهدّد جناحي العروبة؟
د. مهدي دخل الله
ليس معنى اليسار هنا الخط الاشتراكي، فهذا الموضوع لم يعد راهناً والمنطقة تواجه أشرس غزو إرهابي وحضاري عرفه تاريخها منذ حروب الفرنجة. يسار مصر هو ليبيا، البلد الذي يعيش التطبيق الخالص «للفوضى الخلاقة» حيث يقتل الجميع الجميع كما كان الفيلسوف الانكليزي هوبس يقول. المطلوب من مصر اليوم أميركياً الاتجاه نحو اليسار، نحو ليبيا، وإدارة ظهرها إلى الشام، حليفتها الطبيعية عبر مراحل التاريخ كلها.
لا يمكن فهم أي موقف سياسي إلا عبر إعادته إلى مرجعيته الإستراتيجية. فالدول العظمى، بشكل خاص الولايات المتحدة الأميركية، تعرف ما تريد، وهناك إستراتيجية شاملة لها أدواتها المتنوعة بحسب المناطق والمراحل وإمكانيات الاستخدام. الأهداف الأكثر بروزاً في هذه الإستراتيجية هي إعادة السيطرة على منطقة الشرق الأوسط بما يعزز اتجاهات السيطرة الأميركية على العالم. أدوات هذه الإستراتيجية متنوعة، منها البايدنية، نسبة إلى جو بايدن نائب الرئيس، وهي تقسيم العراق وغالبية دول المنطقة باستخدام معايير طائفية وإثنية. ومنها البريجنسكية- نسبة إلى زبينغيو بريجنسكي- الذي يرى في سيطرة الاسلاموية السياسية على المنطقة شرطاً ضرورياً لتطبيق الإستراتيجية الأميركية. ومن هذه الأدوات إطالة أمد الفوضى الخلاقة والاقتتال غير المحدود بين الجميع.
وتبرز مصر مشكلة من مشاكل هذه الإستراتيجية بسبب ثقل هذا البلد العربي وموقفه ودوره التاريخي. الأداة المتاحة للتخلص من هذه المشكلة هو الاحتواء السعودي لأرض الكنانة. والتوجه يكون في إقناع مصر التخلي عن «هموم المشرق العربي» والاستدارة نحو ليبيا حيث توجد «قطعة الحلوى» التي تتلهى بها القاهرة كحصتها من قالب الحلوى الكبير في الشرق الأوسط.
المعادلة بسيطة تعيد إلى الأذهان التحالف السعودي- المصري في عهد الملك فاروق ومراسلات الشريف حسين- مكماهون قبل الحرب العالمية الأولى.
يركز حكام السعودية على ضرورة أن تترك مصر «الجزيرة العربية» لقوتين إقليميتين تتوافقان عليها والتوافق غير الاتفاق منهجياً هما السعودية و«إسرائيل» وصراعهما الإقليمي مع الرأس الثالث: إيران.
مراسلات حسين مكماهون ركزت على دولة عربية في المشرق العربي لا تضم أرض الكنانة. لكن المشكلة أن بريطانيا قسمت المشرق مع فرنسا وفق سايكس بيكو. بعد ذلك قامت ثورة قومية ناصرية في مصر عام 1952 . جمال عبد الناصر اتجه نحو الشرق أي نحو الحليف الطبيعي والتاريخي: الشام والرافدين. بل إن قوميته العربية تمددت إلى اليمن لتزعج الإستراتيجية السعودية المتفقة مع إستراتيجية الوارث الأميركي للاستعمار البريطاني الفرنسي.
«إسرائيل» دخلت عام 67 على الخط كي تبعد مصر عن المراكز الحيوية العربية في دمشق وبيروت وبغداد. لم تتفق «إسرائيل» والسعودية عندها بالتأكيد، لكن مرة أخرى نؤكد أن التوافق consensus غير الاتفاق agreement، أما النتيجة فواحدة.
اليوم يبدو الهدف المشترك لأميركا والسعودية و«إسرائيل» منع مصر من أن تمد الجسور الطبيعية نحو بلاد الشام والرافدين. وما دامت مصر تطمح أن تكون قوة إقليمية، وهذا حقها، حسناً فلتتجه نحو الغرب حيث الكعكة الليبية تنتظر. ويمكن لمصر أيضاً أن «تتسلى» بالسودان من وقت لآخر. المهم أن لا تنظر إلى جهة شروق الشمس تجاه توأماها في العروبة. فعزة العرب وعظمتهم تحققت عبر ثلاث دول، الأموية في دمشق والعباسية في بغداد والفاطمية في «المحروسة». هذا المثلث العروبي لا تريد الولايات المتحدة أن تراه قائماً من جديد، ولا تريده السعودية أيضاً.
مشكلة هذه «المؤامرة الإستراتيجية» أنها تتناقض تماماً مع طبيعة الأشياء وطبائع البشر. هناك فطرة ومنطق وطبيعة تحكم الوجود وفق منظور حدده خالق الكون ومصوره. الدليل تجده في التاريخ أي في صيرورة الوجود عبر الزمان. منذ الفراعنة والهكسوس كان الشام والرافدان ومصر جناحي الوجود الطبيعي لهذه المنطقة. اقرؤوا التاريخ: صلاح الدين ومحمد علي وزنوبيا والأمويون والفاطميون وعبد الناصر، ما كان ممكناً أن تقوم دولة قوية في مصر مندون الشام، ولا دولة في الشام من دون الكنانة.
هكذا يبدو واضحاً أن الإستراتيجية الأميركية تعاند طبيعة الأشياء، أما إرادة «الشوام» بكل بقاع الشام الطبيعية وحواضرها من اسكندرون وحتى حيفا ساحلاً ومن غزة والقدس وعمان وحتى حلب – وما فوق حلب براً، فإنها إرادة تبنى على الفطرة… أي على طبيعة الأشياء. والصراع اليوم هو بين الطبيعة وأعدائها.
وزير وسفير سوري سابق
mahdidakhlala gmail.com