موسيقار الفنّ يرحل موجوعاً في غفلةٍ من الوطن
جهاد أيوب
هو صاحب الموهبة المتوهّجة، هو خامة صوتية متدفّقة، يملك طبقات صوتية عالية ومؤدّية باقتدار. هو واحة من العطاء الموسيقي والغنائي والتمثيلي والكلام، والانتقاد.
هو جدلية رافضة، مُحبّة، عاشقة، وصاخبة. يعطي رأيه ويدير كبرياءه من دون أن يلتفت إلى الوراء. إنه ملحم بركات، صاحب التطرّف في مواقفه، ولا يعرف المجاملة إلا إذا أحبّ، حينئذٍ يلغي كلّ العيوب، ويصبّ ماءه في خانة الدفاع عمّن أحبّ أو العكس، إذ لا مجال للحلول الوسط في مواقفه. ويصب جام غضبه من دون تردّد على هذا وذاك.
ملحم بركات صارَع الموت، وصارَع البقاء في الفنّ متميزاً، وصارَع الأفضلية كي يبقى في الواجهة زعيماً وحاكماً في مملكته، ولا ضرر إن مدّ صوته لسانه السليط إلى مملكة غيره. لا يخاف من خطأ ارتكبه، ولا يكترث من حرب قرّر خوضها. البعض اعتبروه مجنوناً في فنّه وصراعاته ورأيه، وآخرون اعتبروه طيّباً. أما أنا، كاتب هذه السطور، فأعتبره صديقاً مزاجياً بامتياز، صافياً بإنسانيته، ثائراً كلّما شعر بالخطر يقترب منه ومن وطنه.
عرفته في كلّ الظروف، عرفت أطباعه، وجادلته من دون الوصول إلى تغيير رأيه. وبصراحة دائمة في رأيه السياسي يصيب، ولكن في رأيه ببعض الزملاء لا يصيب دائماً لكنه يكشف جحودهم علناً.
والده كان يفرض عليه الاستماع إلى عبد الوهاب وكبار الفنّ اللبناني أمثال وديع الصافي وصباح، تتلمذ على وتر التراث وعشقه. في المدرسة طلبوا منه الغناء صغيراً، وفي سنّ الـ15 قرأ مقالة في جريدة، فلحّنها حتى أصبحت أخباره تكتب في الصحف والمجلات. وسار مع رفيق دربه عصام رجّي الذي سبقه إلى الشهرة، ودخل مدرسة الأخوين رحباني من دون أن ينال فرصته الكبيرة، وتركهم مهاجراً إلى دنيا الأسطورة صباح فاحتضنته أكثر من 12 سنة كأخ وابن في منزلها، وارتبط بعلاقة عاطفية مع شقيقتها. وذات مساء، وفي منزل المطربة صباح، كان يدندن «المجوّز الله يزيدو» فسمعتها صباح، وفرضتها فرضاً في مسرحيتها، مقتنعة أن هذه الاغنية ستكون حديث المواسم وستشهر ملحم. وبالفعل هذا ما حدث، والأهم أنها ـ أي صباح ـ أصرّت أن يقدّم لها بركات أكثر من لحن في أسطوانتها الشهيرة «صباح وكبار الملحنين»، إلى جانب محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وبليغ حمدي ومحمد الموجي وفيلمون وهبي، وهو الشاب الواعد.
وذات رحلة من مصر إلى بيروت عبر الخطوط الجوية اللبنانية، علم بوجود عبد الوهاب فذهب إليه ليُسْمعه لحن «صدفني كحيل العين» لصباح. أعجب عبد الوهاب باللحن قائلاً: «إيه ده الجنون الجميل؟»، فردّ ملحم: «هذا اللحن لملحم بركات وستغنّيه صباح… تذكّر هذا الاسم جيداً ولن تنساه أبداً، وسيُحدث انقلاباً في الشرق»، وانسحب عائداً إلى مكانه.
ملحم بركات الذي خنقت موهبته الحرب الأهلية اللبنانية 1975، وأعاقت تفوّق مسيرته الغنائية هاجر إلى الأردن، ثمّ إلى سورية حيث كانت الانطلاقة الأوسع والأهمّ. في سورية نام داخل سيارته المتواضعة بعد كلّ وصلة غنائية صغيرة في «شيراتون». كان آنذاك طوني حنا الأكثر بريقاً وشهرة وثراء. وفي خلوته داخل سيارته خرج لحن «على بابي واقف قمرين». هذا اللحن الأجمل، والأبقى والأروع أحدث ضجة في الغناء العربي. وحينذاك تعاقدت إدارة الفندق معه، وانتقل من السيارة إلى جناح خاص، وبدأت الشهرة الأوسع والأقوى والراسخة، وثبّتها ملحم بأسلوب غنائيّ لا يقدر عليه غيره، وتفوّق حتى أصبح مدرسة.
ذات يوم، ذهبت لإجراء حديث مطوّل معه في منزله الخاص بعدما انتشر أنه أصبح مفلساً مادياً. استقبلني بالترحاب والمحبّة، وحينما سألته عمّا يشاع حول إفلاسه، انتفض غاضباً، وطلب منّي الخروج من منزله، فرفضت الخروج لأنني مدعو من قبله للغداء، حينئذ قال: «أنا اخرج وأنت ابق في البيت».
فعلاً، تركني مع ابن شقيقته، وغاب لساعتين، ليعود محمّلاً بالمأكولات الشهية، حينذاك قلت له لن أتناول الطعام إلا إذا أكملنا الحوار، وبالفعل أكملناه، وصرّح تصريحه الخطير الذي نُشر في الصفحة الاولى من جريدة «البلد»: «أنا سأحارب أميركا إذا قرّرت قتال المسلمين، ومحاربة والاسلام»، ثمّ أصرّ أن يسكب البازيلا والأرزّ والكبّة والفتّوش شخصياً.
ملحم بركات أوّل من اتصل معزّياً بالأسطورة صباح، استقبلته في العاشرة من صباح اليوم الثاني على رحيلها، فبادر إلى القول: «هذه المرأة أهمّ فنانة على الأرض، صنعت مجداً لا ينضب ولولاها لا فنّ متطوّراً في لبنان والبلاد العربية، لو شهدت أيامها الفضائيات لكانت نامت واشتغلت تحت أقدامها… كانت تقول الناس يحبّونني وسيدفنوني إذا متّ. هي سبقتني وأنا سألحق بها».
ملحم بركات الصوت المندفع الثاقب والواثق، هو الممثل الكاريزميّ المقتدر، وهو الملحّن البصمة التي شكّلت امتداداً لمدرسة فيلمون وفريد الأطرش حتى غدت بصمة شعبية خاصة بملحم.
ملحم الذي غيّبه الموت ظهر أمس مات أكثر من مرّة. مات بسبب ما يعانيه لبنان من حروب، ومن فساد في السياسة والمجتمع والمال والدولة كما كان دائماً يقول لي كلّما التقينا. ومات بسبب الزعبرات العربية التي قيل إنّها «ربيع عربي» وشتّتت الوطن الكبير، ولكن الحرب والتآمر على سورية كانا الأكثر إيلاماً بالنسبة إليه.
ملحم الصارخ، الرافض، المحبّ، العاشق، الغنيّ بمواقفه، رحل قبل فجر الجمهورية، وقبل أن تشرق الشمس في سورية، وقبل أن يكمل ما كان يأمل أن يحقّقه في الفنّ. رحل من دون أن يسجل أسطواناته، واكتفى بأرشيف حفلاته، رحل من دون أن يفرح بأولاده وأولاد رفاقه وبشباب الفنّ. نعم، رحل قبل أن يكبر لكون الشيب غمر فؤاده وعمره لكنه ترجم الفرح والشباب والقيمة والجنون والكبرياء والوطن والحبّ والعشق بصوت لن نبعده عن مسامعنا، وبألحان شكّلت ذاكرة خصبة وغنية بالنغم الشرقي. وبِاسمٍ سنردّده دائماً هو الفنان ملحم بركات… هكذا كبارنا يسقطون في غفلة من الوطن الصغير ووسط انقسامات الوطن الأكبر.