لبنان يودّع عملاق الطرب والموسيقى ملحم بركات
ودّع لبنان أمس، الموسيقار الراحل ملحم بركات، في كنيسة مار نقولا للروم الأورثوذكس في الأشرفية، حيث غصّت الكنيسة بالعائلة والمحبّين والأصدقاء. وحضر مراسم الدفن ممثل رئيسَي مجلس النواب نبيه برّي والوزراء تمام سلام وزير الثقافة روني عريجي، وعدد كبير من النوّاب والوزراء السابقين والحاليين، ونقيب الفنانين جان قسيس، وممثلون عن القادة الأمنيين، إلى جانب حشد كبير من الفنانين والسياسيين والإعلاميين والممثلين والملحّنين والكتّاب والشعراء ومحبّي الموسيقار.
ومن بين الشخصيات والفنانين والإعلاميين الذين حضروا الوداع: الرئيس إميل لحود، العميد شامل روكز، الملحّن سمير صفير، الإعلاميّ جورج غانم، مادونا، إيلي أيوب، الشاعر نزار فرنيسيس، هشام الحاج، معين شريف، وائل جسار، وسام الأمير، سابين، فادي لبنان، الموزّع طوني سابا، إحسان صادق، ميشلين خليفة، راغب علامة، عصام كاريكا، الإعلاميّ جورج قرداحي، إلياس الرحباني، زين العمر، صابر الرباعي، غسان الرحباني، ناصيف زيتون، فارس كرم، الشاعر طوني أبي كرم، وطوني حنا.
وتقدم الحضور أفراد عائلة الراحل الكبير: زوجته رندة عازار وأبناؤه مجد ووعد و«ملحم جونيور»، وابنته غنوة، وطليقته الفنانة مي حريري والدة نجله «ملحم جونيور». واتّخذت عائلة الراحل قراراً بعدم فتح نعشه وداعه، ليبقى محفوراً بصورته الجميلة النابضة بالحياة لدى جمهوره.
بعد صلاة الجنازة، ألقى المطران الياس عودة عظة عدّد فيها مزايا الراحل وقال: بالأمس عزف ملحم بركات لحنه الأخير، ومشى في طريقه.
غصن آخر من شجرة هذا الوطن ذوى، وقامة فنية كبيرة رحلت أمس، فنان مشاكس عُرف بموهبته الموسيقية وصوته العذب وألحانه الشجيّة، غادرنا والوطن يغلي والمواطنون يئنّون.
ملحم بركات لم يكن يحتاج إلى ألقاب، اسمه صنو الفنّ والإبداع، موسيقاه زرعت الفرح في القلوب وألحانه أطربت الجميع، أليست هذه ميزة الفن؟
الفنّ لغة الروح وتعبير عن رهافة الإحساس، الفنّ لغة الإبداع، تلك النعمة المنزلة على البعض للتعبير بفنّهم، بالشعر والموسيقى، والرسم، والنحت، والغناء، وما شابه، عن أسمى المشاعر وأرقّ الأحاسيس. الفنّ هو الرافعة التي تنتشل الإنسان من صغائر الحياة لتحلّق به في أرجاء الجمال. الجمال ليس عنصراً مادياً أو صفة ينعت بها شيء، الجمال في ذاته هو الله، يقول أفلاطون: إن منبع كلّ جمال هو جمال أول ينفث، بمجرد وجوده، الجمال في كل الأشياء التي نسميها جميلة.
وأضاف: ملحم بركات، ربيب الفنانين الكبار في قريته الصغيرة كفرشيما، عاش في الزمن اللبناني الجميل، وعاصر عمالقة الفنّ في لبنان والمنطقة، وعمل مع المبدعين فأبدع. منذ شبابه أحبّ الموسيقى وتتلمذ على كبار أمثال زكي ناصيف وتوفيق الباشا وفيلمون وهبي. تعاون مع الرحابنة وروميو لحود وغنّى مع فيروز وصباح وسلوى وغيرهن، كما وزّع ألحانه العذبة على عددٍ من المطربين.
أحبّ لبنان حباً كبيراً، وغنّى له، كما بقي وفياً له وللغته اللبنانية، في زمن تخلّى الكثيرون عن وطنهم ولغتهم. معه انطوت صفحة مشرقة من تاريخ الفنّ اللبناني، لكن عاشق الموسيقى هذا، وإن رحل بالجسد، سوف يبقى في ذاكرة هذا الوطن وفي وجدان أبنائه، صوتاً صادحاً يحمل الفرح، وموسيقى راقية تخترق القلوب.
ملحم بركات عاش حقبة جميلة من عمره في زمن الكبار، لكنه رحل في زمن انحطاط كلّي، لعله أراد الهرب منه إلى العالم الرحب، عالم الحقّ والحرّية والجمال.
الإنسان والإبداع الإنساني يرتبطان ارتباطاً وثيقاً بالحرّية، والحياة هي الحرّية. أن يكون الإنسان حرّاً يعني أن ينطلق من خلال الفعل الخلّاق، أي الإبداع، إلى تمام الوجود وكلّيته، إلى اللامتناهي.
ولفت عودة إلى أنّ النشاط الإبداعي هو هذه الحركة نحو اللامتناهي والمتعالي، حيث تكتسب الأشياء عمقاً ومعنى وطابعاً وأهمية تتعارض مع الضحالة والتفاهة والغثاثة والسطحية التي يتّصف بها العالم الأرضي. هل تعب ملحم بركات من الضجر على هذه الأرض فحرّكه القلق الخلاق، الذي ينتاب المبدعين ويحرّك شوقهم إلى الأبدية، ودفعه إلى التخلّي عن تفاهة هذا العالم وخوائه؟
وقال عودة: لبنان يودّع ملحم بركات اليوم، واللبنانيون، وسوف يغمره تراب كفرشيما التي أحبّ، لكنّ الموت لا يشكّل بالنسبة إلينا نهاية، بل بداية حياة سمتها الانعتاق من صغارات الجسد وتفاهات العالم الفاني، إلى رحاب الملكوت، حيث لا حزن ولا وجع ولا تنهّد، بل حياة لا تفنى.
وكانت كلمة للشاعر نزار فرنسيس قال فيها:
يا شمعة الإلهام غصّي وانطفي
وتكسّري يا قلام شعري ونشفي
أيّا طرب من بعد منّو بينسمع
راح الحنون الصادق الخيّ الوفي
راح المجد لبنان عَ كتافو انرفع
راح اللي كان بحبّ الله مكتفي
راح اللي كان الزهر يحنيلو سَمع
صارت وراقو فوق نعشو منتّفي
واهتز عرش الموهبة ملحم وقع
قومي يا ألحانو ومن بعد منّو وقفي
طالي النجم اللي بالسما جبينو سطع
ممنوع هالنجم لي زرعو يختفي
تعبان سرّب قبل ترمو من الوجع
ولما الأمل من طول أيامو انقطع
سكّر عَ حالو باب هالعمر وغفي
قوم ملحم… قوم… هيدي مش إلك
ليش الغفا؟ نبض الحياة بيسألك
الموت يمكن بالجسد يقدر عليك
لكن صعب عن عرش فنّ ينزلك
إنت الملك… والمملكة بإيديك
الإبداع تاج… بإيد الله مكلّلك
من وقت ما غمّضتن عينيك
طفيوا بعينيي كل نجمات الفلك
والفنّ عندي صار بعدك هيك
كل ما حدا غنّى التفت صوب القبور
أنطر الموت يزيح… ويطلّ الملك!
وانتقل بعدئذٍ الجثمان إلى بلدة كفرشيما على أغاني الموسيقار الراحل، وهي المرّة الأخيرة التي سيدخلها محاطاً بعائلته وأبنائها ورفاق دربه.
وقد انطلق موكب الجنازة سيراً على الأقدام من مفرق كفرشيما وصولاً إلى مثواه الأخير في كنيسة مار بطرس وبولس حيث سيدفن، وقد زيّنت الطريق بصوره رافعاً يده ويقول «بخاطركن»، ولافتات كثيرة، منها ما كتب عليها: «يا ناحت اللحن بريشة الفرح»، و«يا صوتاً أسكر الخمر طرباً وملأ القلوب عشقاً».
ورافق الموكب عدد من الفنانين، وعزف لأغانيه من فرقة موسيقى بسوس، فهو لم يكن يريد أن يودَّع بالدموع بل بالموسيقى والفرح التي لطالما نشرهما بألحانه وأغنياته. بعدئذٍ ووري جثمان الراحل الكبير في الثرى في مدافن العائلة.
وتتقبل العائلة التعازي اليوم الإثنين 31 تشرين الأول وغداً الثلاثاء 1 تشرين الثاني ابتداءً من الساعة الحادية عشرة قبل الظهر لغاية السادسة مساءً في صالون كنيسة القدّيسين بطرس وبولس للروم الأرثوذكس في كفرشيما.
فلسطين تعزّي
أعلنت السفارة الفلسطينية، في بيان صدر أمس، أن السفير الفلسطيني أشرف دبور قدّم التعازي لعائلة الموسيقار الراحل ملحم بركات بِاسم فلسطين، وذلك في كاتدرائية مار نقولا في الأشرفية، ووضع إكليلاً من الزهور، كما تقبل التعازي إلى جانب عائلة الراحل.
كذلك قدّم وفد من الاتحاد العام للفنانين الفلسطينيين في لبنان، ضمّ رئيس الاتحاد المخرج محمد الشولي، نائب الرئيس وليد سعد الدين وأمين السرّ محمد عيد رمضان، التعازي لعائلة الراحل، ووضعوا إكليلاً من الزهر بِاسم الاتحاد.
وذكر البيان أنّ الفنان الراحل ملحم بركات مشهود له بمواقفه الوطنية تجاه الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.