تحرير سعر الصرف في مصر.. تعويم للجنيه أم للأزمة؟
إنعام خرّوبي
تشهد القاهرة منذ أيام حراكاً اقتصادياً لافتاً، فبعد اتخاذ القيّمين على إدارة البلاد سلسلة قرارات، وصفها البعض بأنها غير مسبوقة، لدعم وتحفيز الاستثمار من أجل إنعاش الاقتصاد الواهن عبر إعفاءات ضريبية وطرح أراض بأسعار مغرية وسرعة فضّ منازعات الاستثمار، أعلنت مصر أمس تحرير سعر صرف الجنيه ورفع أسعار الفائدة.
وخفّض البنك المركزي سعر الصرف بنسبة 32.3 في المئة ليصل إلى سعر استرشادي مبدئي عند 13 جنيهاً للدولار مقارنة مع ربط العملة عند مستوى 8.8 جنيه للدولار منذ آذار الماضي.
وفي حين يرى البعض أنّ تحرير سعر الجنيه المصري خطوة إيجابية ضرورية «وإنْ جاءت متأخرة»، في رأيه، ويُتوقع أن تحقق الاستقرار لسوق الاستثمار في مصر، يبدي البعض الآخر تخوّفه من هذا القرار حيث أنّ البنوك لا تملك الإمكانيات الكافية من النقد الأجنبي لتلبية احتياجات المواطنين والمؤسسات، وكان الأجدى اتخاذ قرارات وإجراءات تتعلق بالسياسات الاقتصادية بشكل عام مع تحميل البنك المركزي مسؤولية الرقابة والتدخل بشكل غير مباشر لضبط سوق الصرف.
وأشار مراقبون إلى أنّ تحرير سعر الصرف ليس له أثر إيجابى على الصادرات المصرية لأنّ المستفيد الوحيد من هذا النظام هو الصادرات الزراعية فقط لأنها تنتج فى مصر على عكس الصناعة التى تعتمد على الاستيراد من الخارج لمستلزمات الإنتاج.
وفي السياق، يرى الخبير الاقتصادي الدكتور لويس حبيقة في اتصال مع «البناء» أنّ القرار المصري «لا يعتبر خطوة إيجابية، رغم أنه لم يكن أمام البنك المركزي خيار آخر بسبب الأزمة الاقتصادية الحادة»، متوقعاً أن تكون النتيجة «تراجعاً كبيراً للجنيه». ويضيف: «إذا بقي البنك المركزي المصري على خيار تثبيت سعر الصرف فسوف يستنزف ما لديه من عملات صعبة وهذا خطر جداً. التحرير يعني سقوط الجنيه، بينما الحلّ لا يكون بهذه الطريقة بل بتنشيط الاقتصاد المصري الذي يعاني منذ سنوات. الأمور لا تُحلّ نقدياً بل اقتصادياً».
من جهة أخرى، أعلنت مديرة صندوق النقد الدولي كريستين لاغارد أمس أنّ تعويم الجنيه المصري «خطوة محلّ ترحيب» تظهر جدية الحكومة في التصدي للمشكلات الاقتصادية التي تواجهها البلاد، في حين اعتبرت مؤسسة «بلومبرغ» المعنية بالشأن الاقتصادي العالمي أنّ مصر اتخذت خطوة غير مسبوقة بتبنّي قرار تعويم الجنيه وتحرير سعر الصرف أمام العملات الرئيسية، وفقاً لآليات العرض والطلب، ملمّحة إلى أنّ التدابير التي اتخذتها السلطات المصرية تجعلها تقترب من تأمين قرض صندوق النقد الدولي. كما أعلن محافظ البنك المركزي المصري طارق عامر أنّ بلاده تأمل باستكمال برنامج القرض البالغة قيمته 12 مليار دولار من صندوق النقد الدولي خلال الأيام القليلة المقبلة وحصلت على تعهّدات من الصندوق ودول مجموعة السبع والصين وحلفاء عرب لسدّ الفجوة التمويلية البالغة 16.3 مليار دولار في السنة المالية الحالية 2016-2017.
وفي المقابل، يؤكد حبيقة أنّ صندوق النقد «يقدّم اقتراحات قابلة للتفاوض لكنه لا يملي شروطه على هذه الدولة أو تلك». وقال: «صحيح أنّ هناك شروطاً لمنح القروض ولكن يحق للدولة المعنية قبول الاقتراح أو رفضه أو تأجيله».
عرف لبنان تجربة مماثلة وجرى في نهاية العام 1992 تثبيت سعر الصرف الاسمي للعملة اللبنانية، إلا أنّ أبرز سلبيات هذا الإجراء هو نمو الدين العام بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ لبنان المعاصر، فما هو الفرق بين التجربتين اللبنانية والمصرية وهل يمكن أن يشهد انهياراً لسعر صرف عملته؟ يجيب حبيقة: «لبنان لا يواجه هذه المشكلة لأنّه قادر على الدفاع عن سعر الصرف. هناك فرق كبير بين لبنان ومصر لأنّ لبنان لديه احتياطي نقدي يبلغ 50 مليار دولار، أما الاحتياطي المصري فهو لا يتجاوز العشرين ملياراً، وهذا الفارق كبير جداً مقارنة بعدد السكان في كلا البلدين». ويضيف: «في مصر الاقتصاد يعاني هيكلياً بينما في لبنان لا تزال هناك مناعة، وقد شهدنا كيف تحركت العجلة الاقتصادية بعد انتخاب رئيس للجمهورية. مشكلة الاقتصاد اللبناني سياسية إدارية أكثر مما هي هيكلية، لذلك بمجرد استقرار الوضع السياسي يتأثر الاقتصاد إيجاباً، أما في مصر فهناك مشكلة في بنية الاقتصاد، لذلك نجد أنّ المصريين يهاجرون إلى بلاد أخرى ومنها لبنان حيث يعمل نحو 100 ألف عامل مصري بأجور زهيدة جداً، وهذا دليل على صعوبة الوضع الاقتصادي في مصر، حيث يفوق حجم السكان حجم الاقتصاد ما ينتج عنه فائض عمالة كبير جداً.
إذاً لا مجال للمقارنة لا بالقوانين ولا بالهيكلية. مصر تُقارن بالجزائر أو بسورية على سبيل المثال، في حين يمكن مقارنة لبنان مع دول عربية أخرى مثل تونس أو الأردن».
ومع تعويم الجنيه مقابل الدولار، فإنّ المستهلك المصري هو المتضرّر الأول من ذلك، حيث تستورد مصر أكثر من 70 في المئة من إجمالي استهلاكها من جميع السلع والمنتجات، ومع قيام الحكومة بتعويم الجنيه فإنّ ذلك سوف يتسبّب بموجات صعبة من ارتفاعات الأسعار، وبالتبعية فسوف ترتفع معدلات التضخم إلى مستويات قياسية. وفي هذا الإطار، يتوقع حبيقة «تراجع الجنيه وهذا ما سيؤثر على الداخل المصري، فالمصريون الذين يقبضون رواتبهم بالجنيه قوتهم الشرائية متدنية جداً، ونخشى أن ينضمّ المصريون إلى المهاجرين في قوارب الموت نحو المجهول هرباً من الوضع الاقتصادي الصعب».
رغم تباين الآراء حول آثار قرار تحرير سعر صرف الجنيه، يبقى الإجماع على أنّ كلّ هذا ليس كافياً ما لم يقترن بسياسة اقتصادية إصلاحية شاملة تبدأ من الاستفادة من موارد البلاد وحسن استخدامها لزيادة الإنتاج، وبالتالي فرص العمل، مع النظر إلى الحجم السكاني في مصر باعتباره مصدر قوة لا عبئاً، والخروج من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد الحقيقي بالتركيز على قطاع الصناعة وتحقيق التوازن بينه وبين القطاعات الأخرى، وإلا فإنّ هذا القرار سيؤدّي في النهاية إلى تعويم الأزمة.