التشكيليّ ضياء الحموي: حلب أبجديتي الأولى وقدّيستي في محراب الآلهة

آمنة بدر الدين الحلبي

كان يخطو بفنّه نحو الأبدية، ويحلّق في مساراتٍ نحو الخلق والإبداع، لوحاتُه قصائد من نور، منظومةٌ بألوان من سمواتٍ سبع، تعزف سمفونية الخلود، وما طار من عصافيره تخترق روح الحياة كضبابٍ مسكوبٍ في لوحة حين تحلّق للحرية تصبح مسكونة بالحبّ، وبين ثنايا أجنحتها المحبّة، وعلى ريشها عشقٌ أبديّ منقوش عليه «حلب أبجديتي الأولى وقدّيستي في محراب الآلهة».

الفنان التشكيلي ضياء الحموي ابن حلب الشهباء التي طاولها صوت الموت، وأخمد حنين قدودها، ورعدَ بين كنائسها ومساجدها، وما ترك بين حاراتها الجميلة عنجهية القتل، لتوقف رحى الحياة، وتصادَر نسماتٌ من أكاليل الشوق حين كان يفوح كل ليلة من ثراها المقدس، ويسرح العشق من عينيْها ليكتب تراتيلها بألوانه تلك الحضرات المسائية التي بقيت ذكرى في عالم الاغتراب.

ابن حلب اسماً على مسمى، كان يضيء بألوانه عتمة القلوب، ويضجّ الفرح حين ينثره في طريق الناسكين وأهل الطريق، وما بقي من صوت الموسيقى والأناشيد التي حضرها مع والده في حلقات الذكر منقوشة على خطوطه بانسيابيةٍ تراوح بين الاشتعال والهدوء، تحمله لطفولةٍ ما فتئت تعشّش في روحه وتضمّه بين جناحيها لينقشها دحنون 1 الحياة، لا الساسة لمستها ولا غراب البيْن حطّ على شفاهها.

لا يعرف الحزنُ طريقاً إلى وجهه المكلّل دائماً بالابتسامة، وإن كان يمارسه وجهاً مخفياً على الناس، كي يمنحهم صيرورة الحياة من ألوان ابتدعتها مفرداته المعهودة، ومن مخزونٍ موسيقيّ له إيقاع من أبجدية عشتار، يشتعل تارة مع غروب الشمس، ويهدأ حين ترسم أنامله قصائد من فرحٍ ليقول على إحدى لوحاته: «أستطيع الآن رؤية ابتسامة من الرضا تكسو وجه الله وهو يراقب تحرّشي المتواصل بنظامه الكونيّ العجيب».

حين تعتلي أنامله الفرشاة يضيء الكون ذكاءً، وما ترك على وجهه ينسكب منجزاً إبداعياً بمفردات تَشارَك مع الطبيعة فيها، لتبقى تعزف موسيقاه في ما وراء الطبيعة، وما تجلّى في الكون من معجزاتٍ يصوغها بفرشاةٍ على أنغام الموسيقى الشرقية لتضبط إيقاع اللون في منجزه الفنّي، وتجعله يحلّق بجناحين فوق هام السحب مردّداً من بلاد الاغتراب: «أحمل لبلادي حين ينام الناس سلامي».

اقتلعته الحرب من أرمان 2 الحبّ، من شهباء القداسة، حمل جسده وترك روحه تسبح بين نيرانٍ تمتد ألسنتها إلى مخزونه الثقافي، ويداها إلى عمقه الجغرافي، حتى تعلّم فقه الصمت وامتهن أبجديته، وما سرح من روحه ألماً بقي معلّقاً في انتمائه الطفولي إلى سورية حين يعلن: «أنتمي إلى سوريتي بصرياً وجغرافياً في عمري الطفوليّ، وحين اشتدّ عودي أصبح انتمائي البصري والإنساني يضمّ العالم كله، وما بقي في الذاكرة السورية مزيجٌ من حضارة عربية وإسلامية من شام الحضارة إلى أرمان الفنّ».

من ألوانه صنع أكاليل الشوق، وطار بجناحيْن على متن الريح مشكّلاً لغزاً إبداعياً محيّراً، ورسم منجزاً فنّيا عَبَرَ المحيطات وقرأه الآخر بسلاسة الحنين، وغاص في فجر اللون حين عانق بدر الضياء، ليطالع من مخزونه الثقافي ما بقي على جسد الذاكرة التي دسّ فيها بحثه وتنقيبه من الخطوط العربية، وما تعلّم من الواسطيّ البغداديّ حين غرق في مدارس المنمنمات، وشدّته ألوان القداسة المشرقة بنور الله.

لم يتوقّف عن رسم القصائد وصوغ الحرف، وعزف منفرد على اللون الأحمر تارة والأزرق تارة أخرى، رغم الرحيل عن وطنه الأمّ قسراً، وترحاله الشاقّ، نقشه أيقونات عذاب علّقها على أبواب غربته، ونفض فرشاته، فجمع أحزانه ودفنها في بستانه اللونيّ فتفتحت شفاه الدحنون لتوقظ الحياة من مراقدها، ويعود الدوريّ مُرْخياً جناحيه على متن الضياء.

ضياء الحموي، فنان تشكيليّ معجون بثرى الوطن، من شماله إلى جنوبه، مرتبط حدّ التوحّد ـ توأمان سياميان ـ فرشاته تدقّ النبض تلو النبض وتحمله على متن الريح للشهباء بجناحَي طائر، وما ارتفع إلا للتحليق كي يشمّ عبق الحنين، وعطر الذكريات، وصوت الموسيقى حين تنبعث من بين رماد الأموات، لكن الذات تنبش أخاديد الماضي منذ نعومة أحلامه لتسافر معه إلى جدران الجوامع في حلب حيث تعلّقت ذائقته البصرية بالزخارف النباتية والهندسية إبّان الفترة المملوكية.

منجزاته تملك حنيناً غريباً، وألواناً تحمل سرّ القداسة حين سحرته الزخارف القرآنية الملوّنة، وما سبح في خياله وهن اللحظة، طار إليها وألقى سلاماً على حلب المدينة التي حين يذكرها، دمع قلبه يعزف إيقاعاً على سمفونية الموت، فترسم عيناه ابتسامة الحياة.

مخزونه البصريّ لا حدود له يبحث من خلاله، عن نفسه هو، ليرصد ما تركه المخزون المعرفي خلال سنين من عمره الفنّي بين فرح وحزن، بين سكون وشجون، وما تبقى موتٌ ودمار، وهجرة، في أصقاع العالم، وكأنه مرصود ليطفئ ضياءه، لكن شعلة الحنين للوطن تحييه من جديد في فراغ المساحات والتجاويف ليمتثل ضياء تنير لوحاته القارة العجوز فيلقي وشاحه عليها ليردّ إليها روح الشباب مثل ريح يوسف.

استقبلته السويد بكلّ حبّ، وفتحت أحضانها لمنجزه الإبداعي، فعزف موسيقاه بالألوان عام 2015 في معرض مع النحات جورج بدوي في «ني شوبين»، وفي عام 2016 أقام معرضاً فردياً في مدينة «Nora»، وأيضاً في 2016 شارك في معرض مع فنانين من السويد، وقاب قبلتيْن أو أدنى عاد لنثر ريح الجمال عبر همس الأفق في العالم.

1 ـ دحنون: شقائق النعمان

2 ـ أرمان: اسمٌ لمدينة حلب أيام السريان

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى