الأسابيع الإحدى عشرة الأصعب آتية!
سومر صالح
البعض يعتبره هدوء ما قبل العاصفة، والبعض الآخر يعتبره إحدى وسائل إدارة السياسة الخارجية الأكثر فاعلية، وفريقٌ آخر يعتبره حدث البدء بالانتقال إلى شكل آخر من النظام الدولي بنسق دوليّ آخر، وبين هذا وذاك يتضرّع الكثير من الكهنة ورجال الدين إلى الله ومعهم نفرٌ لا بأس به من شعوب الدول المأزومة ألّا تكون أوطانهم مسرحاً لحرب دولية ثالثة لا تبقي ولا تَذَر بوجود حمقى في إدارة السياسة الإقليمية بعضهم يتربع عرش السلاطين بأوهامه، وبعضهم يظنّ السياسة والحرب نزهة في يخت فاخر، إنّه بلا شك تحشيد القوة العسكرية الروسية الضاربة في شرق المتوسط، مع إصرار على استنفاد كامل الوقت المتاح لإنجاز التسوية السياسية، تجلّى بامتناع الطيران الروسي بأمر رئاسيّ عن التحليق وشنّ الضربات فوق الأحياء الشرقية لمدينة حلب لمدة زادت عن العشرين يوماً حتى تاريخه، بدأت بمساعٍ روسية لإنجاح مبادرة الولايات المتحدة بعقد جولة من المباحثات في لوزان بتاريخ 15/10/2016 ، أمرٌ لم يكلّل بالنجاح لاحقاً، ومع ذلك بقيت حالة تعليق القصف الجوي مستمرة وكان آخرها هدنة 4/11/2016 ، وبدا جلياً أنّ القيادة الروسية تستهلك الوقت عمداً لتجاوز مرحلة الانتخابات الأميركية التي ستجري في الثامن من الشهر الحالي، لسببين: الأول هو عدم تحوّل تلك الضربات الروسية سلاحاً وأداة انتخابية فعّالة بيد الإدارة الأميركية الحالية لتحشيد الرأي العام الأميركي وراء المرشحة عن الحزب الديمقراطي هيلاري كلنتون ضدّ المرشح الجمهوري دونالد ترامب الذي أبدى خطاباً متقارباً مع روسيا، والسبب الثاني هو إعطاء فرصة أخيرة لإدارة الرئيس المنتهية ولايته باراك أوباما لمراجعة كلّ سياساته في سورية وعدم إفساح المجال للبنتاغون لعقد اتفاق مع أردوغان لمشاغلة روسيا وسورية بهجوم مباغت على مدينة الباب وإعلان منطقة عازلة في الشمال السوري. وهو خطٌ أحمرٌ ينذر بمواجهات إقليمية إنْ أقدم أردوغان على هذه الخطوة منفرداً. أمرٌ كان حاضراً في أجندات زيارة رئيس الأركان التركي خلوصي آكار مؤخراً الى موسكو، معززاً بدخول العلاقات الاقتصادية المشركة آفاقاً واعدة بتفعيل خط «السيل التركي» والكلام عن دور روسيّ مستقبليّ في بناء محطات كهروذرية في تركية. إذا نستطيع القول إنّ الحسم الروسيّ ما زال مجمداً إلى حين الانتهاء من الانتخابات الرئاسية الأميركية، من دون أن نعني أنّ العمليات العسكرية سوف تبدأ فور انتهائها، فالأمر ليس بهذا اليسر سياسياً، أمّا عسكرياً فكلّ مقوماته باتت جاهزة وحاسمة وهيّ رهنُ قرار الرئيس بوتين والقيادة السورية. وصحيح أنّ الإدارة الأميركية الحالية مستمرة في مهامها الى موعد تسليم الرئيس المنتخب الجديد، إلّا أنّ الظرف الأميركي حساسٌ جداً في الداخل الأميركي وحساباته معقدة جداً، خصوصاً في قطاعَي السياسة الخارجية والدفاع، حيث أنّ فترة الأسابيع الإحدى عشرة الواقعة بين يوم الانتخاب 8/11/2016 ويوم التنصيب الرسميّ 21/1/2017 هي فترة تشهد تحوّلات وتغييرات كبيرة في الفرع التنفيذي الحكومة الأميركية . وهي مرحلة انتقالية لا تقتصر فقط على رئيس جديد ووزراء جدد، بل تشمل أيضاً على آلاف من التعيينات السياسية البديلة في شتى الوكالات الفيديرالية، وعلاوة على ذلك فإنّ الفترة الانتقالية هي مرحلة يتسنّى للرئيس المنتخب أن يعكف خلالها على تحديد القضايا ذات الأولوية التي يتعيّن عليها أن يترجمها إلى سياسات، وبالتالي أيّ سياسة روسية في هذه المرحلة الحساسة تواجه المصالح الأميركية أينما كانت ستكون أساسية في صياغة ملامح المرحلة الانتقالية وتحديد معالم السياسة الخارجية والدفاعية للرئيس الجديد، في ظلّ ظرف دوليّ معقد وبنية دولية آخذة بإعادة التشكّل. وبالتالي قد تأتي العملية الروسية بنتائج يمكن تفاديها بمزيد من التريث من إدارة أميركية جديدة، علاوة على أنه من الممكن أن تفهم هذه العملية العسكرية على أنها نقطة ضعف أميركية تحاول من خلالها روسيا تقويض الهيمنة الأميركية، احتمالٌ من شأنه دفع صقور الإدارة الحالية الى ردود أفعال خطرة وعدائية تحت مسمّى الحفاظ على الهيبة الأميركية، أمرٌ سيتعزز إنْ فاز ترامب، حيث يخشى هؤلاء الصقور خصوصاً في البنتاغون و»سي أي آي» من سياساته التقاربية مع بوتين. هذا الأمر سينعكس استقطاباً حاداً في الأزمة السورية، وتبني خيارات كانت الإدارة الأميركية تتجنّبها حتى الآن كتزويد الفصائل المعارضة بمنظومات الصواريخ المضادة للطائرات ومنظومة صواريخ أرض – أرض أيضاً. وقد تتوسّع تلك الخيارات الى إحياء سيناريوات عدائية أميركية ضدّ القوات السورية وحلفائها في سورية، وبدأنا نرى الهواجس الأميركية تنعكس خططاً استباقية في سورية كإعلان قوات سورية الديموقراطية قسد البدء بـ «تطويق الرقة»، ليصبح مسرح العمليات العسكرية واضح المعالم تقريباً مع مطامع عدوانية تركية في مدينة حلب وتغاضٍ أميركيّ عن فكرة «المنطقة العازلة» التركية، ومشروع عدوانيّ أميركيّ على مدينة الرقة السورية. وهذا كله لمحاصرة الخيارات الروسية فور البدء بمعركة حلب الكبرى واستعادة الأحياء الشرقية للمدينة. من جهة مقابلة يتحدّد ويرتبط السلوك العسكري الروسي في حلب جزئياً في تغيّرات الموقف الأميركي، فهل يتوقع الروس تغيّرات حادّة في التعاطي الأميركي مع الأزمة السورية بعد الانتخابات الرئاسية؟ هذا السؤال يبدو منطقياً، ولكن من الواضح أنّ لعبة الحسابات السياسية تلك ليست في حسابات روسيا، التي حسمت قرارها بضرب «جبهة النصرة و»أحرار الشام» وكلّ الفصائل المرتبطة بهما، لكنها ما زالت تستهلك الوقت لتجنّب حساسية المرحلة الانتقالية الأميركية عبر سياسة الهدن الإنسانية الأحادية الجانب والدعوات المستمرة إلى تسوية عسكرية في مدينة حلب يخرج بعدها كامل المسلحين إلى مناطق أخرى، هذا يضعنا أمام ثلاثة سيناريوات في المشهد العسكري لمدينة حلب، السيناريو الأول بدء روسيا بعمليات عسكرية جواً وبحراً وتقدّم سوريّ على الأرض لتطهير المدينة دون مراعاة حساسية المرحلة الانتقالية التي حدّت من آثارها السلبية سياسة بوتين بتعليق الضربات الجوية لفترة طويلة مع دعوات للتسوية تجاهلتها الفصائل المحسوبة على واشنطن. والسيناريو الثاني هو استمرار روسيا بسياسة تعليق الضربات الجوية مع تحشيد واستعداد كامل للمعركة ريثما تتضح معالم السياسة الدفاعية والخارجية للرئيس الجديد، أمّا السيناريو الثالث فهو العودة إلى شنّ ضربات جوية وبحرية صاروخية ضدّ معاقل الإرهاب في مدينة حلب من دون أن يرافقها تقدمٌ بريّ على الأرض ريثما تتسلم الإدارة الأميركية الجديدة مهامها مطلع العام المقبل.
والحقيقة، أنّ تبني أحد هذه السيناريوات هو ترجيحٌ صعبٌ ويرتبط بدائرة التفاعل والتجاذب والصراع الإقليمي والدولي على سورية. فحلفاء الولايات المتحدة قد يستغلون فترة المرحلة الانتقالية الأميركية لتبني سياسات أكثر عدائية ضدّ روسيا في سورية، وهو أمر سيحسم السيناريو الأول مثلاً، ونجاح ترامب قد يرجح السيناريوين الثاني والثالث مع بقاء السيناريو الأول قائماً في أيّ لحظة… ونجاح كلينتون قد يعزز الشعور الروسي بأنّ الإدارة الحالية مستمرة في سياستها، وخصوصاً مع ترشيح كلينتون لنائب الرئيس الحالي بايدن كوزير للخارجية في إداراتها إنْ نجحت، وهو حدث سيرجّح السيناريو الأول…
إذاً كلّ السيناريوات محتملة وترجيح أحدها رهن بمعطيات الآتي من الأيام والأحداث.. وختاماً تشكل المرحلة الانتقالية الأميركية في هذه الانتخابات تحديداً مرحلة بالغة الحرج، لأنها تزامنت مع استقطاب دوليّ حاد وعلوّ صوت الصقور في وزارات الدفاع والخارجية، ليس فقط في الولايات المتحدة بل في منظمة الاطلسي أيضاً المذعورة من تنامي القوة والنفوذ الروسيين على تخومها، وضعٌ سينعكس حرجاً على كلّ السياسات والاستراتيجيات المتعلقة بالصراع على سورية. وهي مرحلة تحتاج للتعقل والهدوء كما تحتاج للحسم، إنْ اقتضى الأمر، حسمٌ بات قريباً في حلب، فإمّا التسليم أميركياً بأنّ المعركة مهما طالت فهيّ محسومة لصالح محور روسيا ــ إيران ــ سورية، أو الاستعداد لتبعات هزيمة أدواتها ليس في حلب فقط بل على كامل الجغرافيا السورية، وليكن ما يكون بعدها من حسابات… فالثابت أنّ سياسة الاستنزاف والأفغنة المتبعة أميركياً لن تعمّر أشهراً معدودات على أبعد تقدير.