لبنان وقاطرة الحلّ الإقليمي
د. رائد المصري
رُبَّما يشكِّل لبنان بعد المسار السريع للتسوية فيه بداية تجربة لمسارات الحلِّ الأخرى في سورية والإقليم، من دون معرفة المعايير والمقاييس التي ستُبنى عليها هذه التسويات وأنساق التحالفات المتبدِّلة بشكل دائم وباضطراد.
فخطاب «الخليفة» المزعوم أبو بكر البغدادي الأخير ونداءاته وتحريضه الانغماسيين وتهديده ووعيده لتركيا ولجيشها وللإخوان المسلمين وحركتهم، يدلّ بشكل قاطع على قرب نهاية هذا التنظيم من خلال معركة الموصل وصولاً إلى الرقة التي انتقل البغدادي إليها مؤخراً، من دون أن ينفعه هذه المرة اللجوء إلى الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والتي حرَّض المقاتلين الانتحاريين بشكل كبير للقيام بـ «واجباتهم الجهادية»، حسب زعمه، وهو ما يعني أنّ منطقتي الموصل والرقة ستشهدان مستقبلاً المزيد من هؤلاء الانتحاريين وحتى في الداخل التركي.
كما أنَّ التطرُّق في نداء البغدادي إلى أهل السنة ومشايخها في العراق ووصفهم بأبشع النعوت والدعوة للتحريض على قتل الكُتَّاب والصحافيين ورجالات الإعلام، هذا كله له دلالاته…
أولاً: التضييق الخانق عسكرياً على هذه التنظيم الإرهابي، وثانياً: التضييق الديني والإعلامي والفقهي الذي مارسه أهل السُّنة في العراق وسورية ومصر وغيرها. وهو ما أفقد هذا التنظيم المتوحّش كلَّ مشروعيته وأوهامه الكاذبة التي حاول البناء عليها في لحظة تخلِّ تاريخية في حياة الأمة. فاستدار باتجاه تركيا لمعرفته مسبقاً أنَّ نظام حزب العدالة والتنمية فيها الذي سهَّل إدخال عشرات الآلاف منهم في أكبر عملية تهريب دولي للإرهابيين في التاريخ الإنساني عابر للحدود إلى سورية، هو وحده القادر على إعادتهم إلى داخل الأراضي التركية بُغية إعدادهم للمعركة المقبلة، أو إعطاء الرئيس رجب طيب أردوغان الحُجَّة والمشروعية من خلال هذه التهديدات بالشروع فوراً للتدخُّل العسكري في العراق في عملية عسكرية واسعة تُعيد خلط الأوراق الأمنية من جديد ويكسب معها البغدادي المزيد من الوقت لجمع المال وإعادة تموضع عناصره الإرهابيين عسكرياً.
الخطوط المرسومة دولياً بالتفاهُم على ضرب الإرهاب والذي كان عملياً وواقعياً على عاتق الجيشين السوري والعراقي وحليفيهما روسيا وإيران وكذلك الجيش المصري، بدأ برسم خطوط التفاهم الأميركية الإيرانية والروسية الإيرانية والسعودية الروسية وأخيراً وأهمّها المصرية السورية، والتي يُمكن لهذه الأخيرة أن تشكِّل انعطافة كبرى وتغييراً كبيراً في معادلات الصراع الإقليمي والدولي.
هذه المعادلات التي بدأت بوضع أوزارها التسووية في محطتها الأولى في لبنان، عبر التقاء الخصوم السياسيين في انتخاب رئيس جديد للبلاد والشروع في تشكيل حكومة وحدة وطنية وتأجيل الملفات الخلافية الكبرى، ستتبعها بالطبع إعادة تطبيع سياسي وعسكري وأمني مع سورية، سبقه في هذا التنسيق وإعادة التموضع التنسيق العسكري والسياسي العراقي لضرب الإرهاب على حدود الدولتين، كذلك سبقه تنسيق وتعاون مصري سوري يزداد زخماً مع زيارة الوفد الأمني المصري لدمشق مضافة إليه قوات عسكرية مصرية للمساعدة ضمن إطار التنسيق والتعاون في مكافحة الإرهاب. وهو ما سيشكِّل علامة فارقة لها انعكاسات إقليمية ودولية على خريطة التحالفات في المنطقة والإقليم.
وما يزيد من ذلك هو حجم الخلاف الكبير الذي اتَّسع مؤخراً بين مصر والسعودية وبالدرجة الأساسية حول نظرة الأخيرة وعملها على إسقاط النظام السوري. وهو ما تخشاه القاهرة من خلال تفشِّي ظاهرة الإسلام السياسي كبديل لنظام قومي علماني نبَذَ التفرقة المذهبية والإثنية وثبَّتَ قواعد الدولة الوطنية وفق المعيار القومي، حيث إنَّ ما باتت تخشاه القاهرة هو التدمير الممنهج لسورية وانتقال هذه الآفات التكفيرية القاتلة فضلاً عن ليبيا إلى الجزائر وتونس والمغرب وكلّ دول شمال أفريقيا بما ينعكس خطراً حقيقياً وداهماً ووجودياً على الدولة الوطنية المصرية وعلى أمنها القومي.
هنا أتت التسوية في لبنان بما وبمن حضر لتشكِّل النواة الأولى لتسويات الإقليم، بعدما أنهكت الحروب كلّ القوى مالياً واقتصادياً، وبعد أن وضعت الدول نفسها على حافة الزوال كيانياً وجغرافياً وديموغرافياً…