هستيريا الانتقام واستراتيجية الانتصار

د. حسن أحمد حسن

الأمر الطبيعي أن تكون الصورة أكثر وضوحاً بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على حرب مفتوحة واجهتها الدولة السورية، وأثبتت أنها بحق دولة قادرة على الصمود والدفاع عن مقوّمات سيادتها بغض النظر عن حجم التهديدات وقدرات الأطراف المشاركة في عدوانٍ تجاوز مرحلة المؤامرة وانتقل بها إلى حيز التطبيق الفعلي لما تم تخطيطه وإعداد العدة لتنفيذه على أرض الواقع، وجاءت المواجهة الميدانية لتثبت صحة المواقف السورية وتفضح زيف كل ما تمّ تسويقه ضدها بالاعتماد على إمبراطوريات إعلامية فقدت بريقها بفضل الصمود السوري الذي ترك تداعياته النوعية وعلى مختلف الصعد والميادين السياسية والعسكرية والدبلوماسية، فقِلَةٌ هم الذين كانوا يتوقعون أن تتخلى وواشنطن و«تل أبيب» عن أبرز المحسوبين عليهما في المنطقة: زين العابدين بن علي وحسني مبارك، لكنهما فعلتا ذلك كأن شيئاً لم يكن، وقلةٌ قليلة كانت تحسب أن واشنطن وأتباعها سيتفرجون على محمد مرسي وجماعة « الإخوان المسلمين» وهم يقبعون وراء القضبان بعد وصولهم إلى السلطة وتبنيهم سياسة الإذعان المطلق والاستعداد التام لإحراق المنطقة، تنفيذاً لما ورد في مشروعي « الفوضى الخلاقة» و»الشرق الأوسط الجديد» بحدوده المرسومة وفق خريطة حدود الدم التي ابتكرها تفكير الكاو بوي الهوليوودي، وبخاصة بعدما تبين أن «أخونة» المنطقة هي البوابة الأوسع والأنسب لاجتياحها عبر أعاصير «الربيع العربي» وأن تنظيم «الإخوان المسلمين» هو حصان طروادة القادر على نقل متطلبات النخر والتقويض إلى داخل أسوار الدول وتهيئة المناخ المناسب أمام الفكر الوهابي التكفيري ليعصف بجغرافية دول المنطقة وديموغرافيتها في آن معاً، وفي الوقت نفسه قلّة كانت تظن أن الدولة السورية تستطيع الصمود في مواجهة حرب شبه كونية لأكثر من أسابيع، وفي أفضل الأحوال لأشهر قليلة، علماً أن الحرب التي واجهتها دمشق على امتداد ثلاثة أعوام ونيف هي حرب مركبة ولم تشهد لها البشرية مثيلاً، فهي حرب تقليدية وحرب عصابات وشوارع، وحرب عسكرية وسياسية واقتصادية ودبلوماسية واستخباراتية ومعلوماتية، حرب يشترك في قوام جيوشها المهاجمة المكون الداخلي والإقليمي والدولي، ووقودها الرئيس من حملة الفكر التكفيري ورعاة الإرهاب الممنهج برعاية من يدعي محاربة الإرهاب، ورغم من ذلك كله استطاعت سورية الصمود وأثبتت للعالم أجمع إمكان مواجهة الإرهاب والقضاء عليه عندما تتوافر الإرادة وعوامل القوة الذاتية والموضوعية، فكيف استطاعت سورية فعل ذلك؟ وما سر إخفاق أطراف التآمر والعدوان في تفتيت الدولة السورية كغيرها من الدول التي اجتاحها زلزال «ربيعهم» المزعوم؟ وهل يمكن البناء على الصمود الأسطوري لسورية في كسرالعاصفة، وتغيير اتجاهها، والتأسيس لمرحلة جديدة عنوانها الأبرز: إعادة رسم مستقبل المنطقة وفق إرادة شعوبها المتناقضة بالضرورة مع إرادة قوى العدوان وبسط السيطرة والنفوذ على منطقة تحتل الصدارة في استراتيجيات جميع القوى الفاعلة على الساحة الدولية؟


في اختصار شديد يمكن القول: إن الإعصار الذي بدأ بتونس وامتد إلى مصر وليبيا لم يكن إلاّ المقدمة الموضوعية المطلوبة لتهيئة البيئة الاستراتيجية للانقضاض على سورية، لأنها عقدة العقد في طريق استباحة المنطقة، وطالما أنها رفضت التخلي عن ثوابتها فإن الانتقام منها أصبح ضرورة غير قابلة للتأجيل لأن مرور الوقت يعني تبلور صحة الموقف السوري أكثر فأكثر، وهذا يعني تجذير نهج المقاومة الكفيل بسحب البساط من تحت أرجل اللاعبين الإقليميين والدوليين، وبخاصة بعد اهتزاز صورة أميركا وولايتها المدللة» إسرائيل» التي لم تعد قادرة على الاستمرار والحفاظ على وجودها إلاّ بدعم أميركي وأوروبي و»أعرابي» مباشر، وهذا الواقع الجديد يحمل الكثير من التحديات التي تفرض نفسها أمام مصالح أحباء حكام «تل أبيب»، فكان لا بد من تغيير الواقع بشكل جذري، وبغض النظر عن حقيقة الحراك الشعبي في الدول التي اجتاحها إعصار التغيير تحت عنوان «الربيع العربي» وعدم الاستهانة أو التخفيف من الزخم الشعبي المطالب بالتغيير إلاّ أن النتائج تؤكد أن أصحاب المشروع التفتيتي كانوا يتابعون التطورات لحظة بلحظة، وقد ركبوا الموجة التي امتدت بإشراف خارجي مباشر، واستطاعوا توجيه الدفة بما يخدم مصالحهم ويعزز سيطرتهم عبر البوابة «الإخوانية» التي افتضح أمرها بفضل الصمود السوري، وما أعاد خلط الأوراق من جديد، فعاد الحراك إلى الشارع المصري الذي رفض مصادرة ثورته، واستطاع الإفادة من الصمود السوري والبناء عليه، فخسرت واشنطن الرهان عندما تخلت عن أبرز حلفائها في سبيل إكساب كذبة «الربيع العربي» الصدقية المطلوبة والانتقال بها إلى سورية، أي أنها ضحت بحسني مبارك ونظام كامب ديفيد لتتمكن من الانقضاض على الخصم الألدّ سورية وتنتقم من نظامها المقاوم الذي تعامل مع الواقع الجديد برباطة جأش وثقة عالية بالنفس تستند إلى استراتيجية محكمة تحذف من قاموسها ردود الأفعال المتهورة، وترسم الطريق الواضح لبلوغ الانتصار ببراعة دفعت أطراف العدوان إلى مزيد من التعري وإسقاط الأقنعة من جراء الإخفاقات المتتالية في هذه الحرب المفتوحة، وبخاصة بعد إصدار العديد من المراسيم والقوانين الكفيلة بتلبية كل ما قيل عنه مطالب شعبية محقة، ومع مرور الوقت وانقضاء الأسابيع والأشهر التي حددوها على نحو مسبق لانهيار الدولة السورية، تبين أن الدولة أقوى بكثير مما اعتمدوه في حساباتهم، فزاد حقدهم، وأعماهم حب الانتقام والعجز عن الاعتراف بالعجز عن رؤية الأخطاء الكارثية التي يرتكبونها، وبدلاً من مراجعة الحسابات كان التهور والاندفاع عنوان تكتيكاتهم السياسية والدبلوماسية والعسكرية، وفي الضفة المقابلة كانت استراتيجية الصمود السوري المبنية على سحب الذرائع والإصرار على عرض الحقيقة والاستناد إلى إرادة الشعب السوري، وتفعيل قنوات الاتصال مع جميع مكوناته بما في ذلك ما تم تسويقه على أنه بيئة حاضنة للجماعات المسلحة التي تبين أن قسماً كبيراً منها قد تحول إلى بيئة حاضنة تحت وطأة الترهيب والخوف، ولا شك في أن الجرائم اليومية التي كانت ترتكبها العصابات المسلحة وتروّجها على مواقع التواصل الاجتماعي لشل إرادة المجتمع السوري ومصادرة قراره ساهمت في تحول تلك البيئة من بيئة حاضنة بالإكراه إلى بيئة نابذة بالضرورة، ولم تضيع القيادة السورية هذه الفرصة بل سارعت إلى استثمارها والبناء عليها فصدرت عدة مراسيم للعفو لتشجيع من أضلوا الطريق على العودة إلى حضن الوطن، وبالتوازي اتسعت المصالحات الوطنية التي ينظر إليها القسم الأعظم من الشعب السوري على أنها المعادل الموضوعي للمبادرات التي طرحت لإيجاد حل سياسي وتبين أنها مناورة لإطالة زمن سفك الدم السوري، وأمام العجز المركب العسكري والدبلوماسي اضطر الأصيل الصهيوني والوكيل المفوض التركي إلى التدخل العسكري المباشر، وبخاصة بعد الإنجازات الميدانية والنوعية وتطهير القصير، ثم الانتقال إلى توسيع النطاق الآمن حول دمشق ومنه إلى تطهير قارة ودير عطية والنبك والاتجاه نحو القلمون واستعادة السيطرة على يبرود وفليطة ورأس المعرة وتضييق الخناق على المسلحين في ما تبقى من بلدات القلمون ، وقطع غالبية شرايين الإمداد وطرق التواصل الفرعية والرئيسة مع الحدود اللبنانية سواء في منطقة القلمون أو عن طريق وادي خالد بعد تطهير الزارة وقلعة الحصن، وأمام هذا الانهيار الدراماتيكي في صفوف الجماعات الإرهابية المسلحة، وللانتقام من الجيش والشعب على التفافهما خول قيادة الوطن جاء التدخل العسكري التركي المباشر في شمال اللاذقية وتقديم الإسناد الناري وأشكال الدعم اللوجستي كافة للمسلحين ودفعهم إلى ارتكاب أفظع الجرائم في مدينة كسب وما حولها لتخفيف ألق الإنجازات العسكرية في القلمون وقلعة الحصن، ومحاولة تشتيت جهود الجيش الذي تعامل وفق خطة محكمة مع الجبهات الجديدة المفتوحة بالتزامن في كل من ريف اللاذقية وشمال شرق حلب والمناطق الفاصلة بين محافظتي حماة وإدلب، واستطاع امتصاص الموجات المتتالية لهجوم المسلحين وإقامة نقاط تثبيت وتمركز والانطلاق إلى مرحلة الهجوم المعاكس وتحقيق إنجازات نوعية على جميع الجبهات بعيداً عن تكتيكات الانتقام التي تتطلب الرد على كل استفزاز بمثيله، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: أيهما أكثر جدوى لو أن الجيش العربي السوري اعتمد ردود الأفعال الآنية على العدوان التركي وقبله «الإسرائيلي» وانجرَّ إلى مواجهة مفتوحة تترك المنطقة برمتها على كف عفريت، أم اعتماد إستراتيجية الانتصار التي تمنع العدو من فرض زمن الحرب ومكانها، وتعمل على سلبه كل أوراق القوة وبالتالي تفريغ عدوانه ومغامراته من القدرة على تحقيق الأهداف؟

كانت الاستراتيجية التي اتبعها الجيش العربي السوري أكثر مردوداً وهدفية وعلى مختلف الصعد والميادين، وهذا من أسباب الانتصار السوري، كما أن غريزة الانتقام والتهور في ردود الأفعال لدى أطراف التآمر والعدوان راكمت إخفاقات متتالية فوق الإخفاقات الميدانية اليومية التي تمنى بها العصابات الإرهابية المسلحة على امتداد الجغرافيا السورية، وهذا بدوره سيسرع في الحسم الميداني وسيسقط كل غشاوة أردوا تعميمها لطمس الحقيقة التي غدت واضحة وضوح الشمس، فما تواجهه سورية باعتراف كل من لديه ذرة من عقل هو الإرهاب الممنهج العابر لحدود الدول والقارات، وهي تواجه هذا الإرهاب نيابة عن العالم أجمع، وإذا كانت البراغماتية الأميركية تمنح إدارة أوباما القدرة على الانعطاف عندما تريد، إلاّ أن الانعطاف السريع المتوقع كفيل بإلقاء الكثير من حلفاء واشنطن وأزلامها من القاطرة وتركهم يواجهون مصيرهم في مواجهة شعوبهم التي لن تغفر لمن تاجر بدماء الأبرياء.

باحث سوري متخصص في الدراسات الجيوبوليتيكية

dr.hasanhasan2012 gmail.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى