أين نحن من صراع الكبار في آسيا الوسطى؟!
د. رفعت سيد أحمد
إنّ مشكلة إعلامنا العربي والمصري في القلب منه أنه مستغرق في مشاكل محلية صغيرة وأحياناً تافهة، العالم من حولنا يتقدّم، يتصارع، يتنافس، ونحن منشغلون بأمور الداخل، غارقون في قضايا تستنزف طاقاتنا وأحلامنا، صحيح هناك ضرورة للانشغال، سياسياً وإعلامياً، واقتصادياً، بمشاكل الداخل، لكن صحيح أيضاً أن نتابع ونهتمّ بما يجري في العالم، خاصة إذا كان سيؤثر فينا، وسينعكس على اقتصادنا وسياستنا وأمننا المصري والقومي، أقلها انصراف العالم عنا وتركنا نغرق في مشاكلنا ويهرب إلى آسيا الوسطى.
مناسبة هذا القول، هو ما قرأته وتابعته قبل أيام ووجدت من الأهمية أن أشرك قارئنا العزيز، فيه، وهو يتصل بالدول المسماة بـ قلب العالم ، دول آسيا الوسطى، وصراع الكبار حولها وبداخلها، وخاصة الصين وروسيا وبعض دول الغرب، وكيف أنّ هذا الصراع قد يصل إلى حدّ الحرب المسلحة بينهم، بعد استعار أوار الحرب الاقتصادية، ولقد قرأت عشرات الدراسات والمتابعات الصحافية، وأورد هنا أبرزها خاصة تلك التي تضمّنها موقع سياسة بوست عن صراع القوى في وعلى آسيا الوسطى فماذا تقول أحدث الدراسات؟
المعروف جغرافياً أنّ ثمة خمس دول هم مكون آسيا الوسطى، والفناء الخلفي للاتحاد السوفياتي القديم قبل تفكّكه وانهياره، وهي «كازاخستان وتركمانستان وطاجيكستان وأوزبكستان وقيرغيزستان»، وأحياناً تكون السادسة في بعض التصنيفات هي أفغانستان، إلا أنّ السائد هو الدول الخمس فقط، ليكتمل بذلك عقد آسيا الوسطى الجغرافي.
تعتبر المنطقة في حكم الأرض البكر حتى الآن، بواحدة من أقلّ مساحات العالم في الكثافة السكانية، وكما قارنها الصحافي الاقتصادي البريطاني، جيمس ماكيج، فإنّ تعداد دولها السكاني، بالكامل، يساوي تعداد سكان بريطانيا، أيّ حوالي 66 مليون نسمة، إلا أنّ سكان دول آسيا الوسطى يعيشون على أراضٍ مساحتها 17 ضعف مساحة بريطانيا تقريباً، أو بعبارة أخرى، فإنّ كلّ ميل مربع في آسيا الوسطى يحيا عليه خمسة أشخاص، فقط لا غير.
هذه المساحات الشاسعة، بالإضافة إلى عدم اهتمام الاتحاد السوفياتي بها حتى انهياره، جعلت المنطقة من أكثر مناطق العالم «غير المستغلة»، بموارد طبيعية هائلة لم يستخرج أو يستغلّ معظمها حتى الآن، فنجد أنّ كازاخستان مثلًا بها 3 من احتياط النفط العالمي بأكمله، و4 من احتياط الفحم العالمي، العُملة بالغة الأهمية للصين، أكبر مستهلك للفحم في العالم، وبها أكبر احتياطي في العالم من الزنك، وهي في المراكز العشر الأولى، عالمياً، من حيث احتياطات الحديد والمنجنيز والرصاص والذهب، وفي كازخستان أيضاً 15 من احتياطي العالم من اليورانيوم، أيّ أنّ جزءاً لا يستهان به من المستقبل النووي، السلمي والحربي، للعالم هناك، ومع تعداد سكاني يبلغ 16 مليون كازاخستاني فقط، لا بدّ وأنّ كلّ مواطن يتحرك بحصة هائلة من قيمة تلك الموارد، إلا أنّ هذا لا يحدث.
في تركمانستان، سنجد 4.5 من احتياطي العالم من الغاز الطبيعي، وكذلك أوزباكستان التي لديها 0.8 من الاحتياطي العالمي، وهو نفس المخزون المتواجد لدى ليبيا تقريباً، ومعظم هذا الغاز يذهب للتصدير، بأسعار محرّرة وزهيدة كما سنوضح في ما بعد.
لا تتميّز آسيا الوسطى بذلك فقط، وإنما تمتلك موقعاً ذا أهمية جيوسياسية ماسية، فتمتدّ من الشاطئ الشرقي لبحر قزوين بالكامل، وصولاً إلى قطع كبير من الحدود الغربية الصينية، ومن شمال أفغانستان إلى العمق الحيوي الجنوبي لروسيا الاتحادية، بينما نجد تماساً أيضاً بين الحدود الجنوبية الغربية لتركمانستان، والشمالية الشرقية لإيران، مكوّنة ممراً بالغ الأهمية لطهران، ومن ثم تعمل كموصل فائق الكفاءة بين شرق آسيا وغربها وصولاً إلى أوروبا، ومن الشمال للجنوب وصولاً إلى المحيط الهندي وشبه القارة الهندية عموماً.
هذه الأهمية نجدها بصورة أوضح في نظرية «المحور الجغرافي للتاريخ»، أو ما نعرفه بنظرية «القلب» الجغرافية، لصاحبها سير هالفورد جون ماكيندر، الخبير الجيوـ إستراتيجي الشهير، والتي قدّمها إلى جمعية الجغرافيا الملكية اللندنية، في عام 1904 في مقال له، موسعاً فيه المنظور الجغرافي للعالم، لتصبح آسيا الوسطى في منتصف الأرض تقريباً.
وفي موقع سياسة بوست تقول إحدى دراساته المهمة أنه في 7 أيلول/ سبتمبر من عام 2013، وفي أثناء زيارته التاريخية لكازاخستان، وقف الرئيس الصيني شي جينبينغ في قلب العاصمة «أستان»، وتحديداً في خطابه لطلبة وأساتذة جامعة «نازار باييف»، معلناً ما تعارف عليه العالم بإرث الصين لآسيا، أو إنشاء طريق الحرير الجديد، الحزام الذي سيطوّق آسيا بالكامل، ويربطها بأوروبا وأفريقيا بكفاءة وسرعة.
ما عرفه الرئيس الصيني على أنه «خروج لآسيا كلها من عنق الزجاجة»، أتى بميزانية ضخمة، غير مسبوقة، بلغت 40 مليار دولار، مبلغ سيضخ لصنع شبكة نقل هائلة، تربط ما بين الصين وآسيا الوسطى، وصولاً إلى أوروبا والشرق الأوسط، شبكة مكونة من خطوط نقل برية، وسكك حديدية بالغة الطول، تقطع القارة من الداخل للخارج.
من الـ40 مليار دولار، خصصت بكين 16.3 مليار دولار كاملة، لتنمية البنية التحتية في آسيا الوسطى، مبلغ قال «شي» حينها إنّ بكين ستقوم بضخه في دول المنطقة، لتأسيس بنية تحتية تعتبر من أهمّ ما تفتقر له آسيا الوسطى، والتي كان يعتبرها الاتحاد السوفياتي مزرعةً ومنجماً كبيرين، بدون أيّ محاولة لتنميتها، أو رفع مستوى بنيتها التحتية، منخفض الكفاءة بالمعايير العالمية.
هذا المبلغ يتفوّق على ما تضخه روسيا في نفس المناطق بأميال عديدة، ويمكننا العودة إلى تصريح جمال الدين نورالييف، نائب وزير مالية طاجيكستان، عندما أخبر «الفايننشال تايمز» أنّ الصين ستستثمر حوالي ستة مليارات دولار في عام 2017، وهو ما يأتي كجزء من خطة بكين الزمنية، المتصاعدة والمهندسة ببطء، لإحكام قبضتها على المنطقة، وتعزيز هيمنتها الإقليمية، والرقم يشرح الكثير من الفوارق بالفعل، فستة مليارات دولار تمثل أكثر من 70 من الناتج الطاجاكستاني المحلي بالكامل، في عام 2013، وهو رقم يعادل 40 مرة ضعف جميع الاستثمارات الأجنبية في الدولة.
ولمقارنة أكثر أثراً، ولفهم أكبر لحجم التحرك الصيني، مقابل تحرك روسي فقير ومحدود الموارد، فإنه وفي نفس الوقت الذي وعدت فيه بكين طاجيكستان برفع استثماراتها، إلى ستة مليارات دولار، فإنّ موسكو كانت تعدها بسبعة ملايين دولار، رقم يساوي 0.0008 من حجم الأموال الصينية تقريباً.
وتقول الدراسات أيضاً إنّ الأمور تبدو سائرة في اتجاه هيمنة صينية اقتصادية، ببطء وثقة، على منطقة بدأ فيها الصينيون بمليار دولار واحد، في عام 2000 كاستثمارات مباشرة وغير مباشرة، مليار ظلّ يتصاعد حتى وصل في 2010 إلى 20 ملياراً، ثم وصل في العام الماضي إلى 50 مليار دولار، هو حجم التبادل التجاري والاستثمارات بين بكين والدول الخمس، وهي أيضاً صورة مجسّمة للقبضة الصينية في آسيا الوسطى، قبضة تتقزّم بجانبها قبضة روسيا.
لا تبدي موسكو ارتياحاً للتدخل الصيني بالطبع، واستشرفت الصعود الصيني منذ عام 2011، ولذلك سعى بوتين إلى تكوين الاتحاد الأوراسي «EEU»، المكوّن من بيلاروسيا وروسيا وكازاخستان، والذي عارضته واشنطن، معتبرة إياه «محاولة روسية للهيمنة على منتصف آسيا، ودول العهد السوفياتي القديم»، إلا أنّ الاتحاد لم يكمل مشواره بتصاعد سريع، وأثر فيه بطء النمو الاقتصادي الروسي، والأزمة هناك مما أدّى إلى دمجه في مشروع حزام طريق الحرير الاقتصادي، المعروف اختصاراً بـ «SREB».
لم تكتفِ موسكو بهذه المحاولة، وإنما زادت من معدلات تدريباتها العسكرية، الموسعة والمشتركة، مع دول آسيا الوسطى، كالتدريب المشترك بين موسكو وطاجاكستان، على حدود أفغانستان مباشرة، في آذار/ مارس الماضي، تحت ذريعة صدّ سيناريو محتمل لغزو «تنظيم الدولة الإسلامية» لآسيا الوسطى، أو ألعاب الحرب التي أقيمت في بداية آب/ أغسطس الماضي، بتنسيق واستضافة مشتركة بين موسكو وكازاخستان، فيما بدا كلّ ذلك التقارب العسكري، الروسي في معظمه، على أنه رسالة مبطنة لبكين بأنّ قبضة موسكو العسكرية تحكم آسيا الوسطى، وأنها لن تسمح للمنطقة بالخروج من بين ذراعيها.
على كلّ ووفقاً لموقع سياسة بوست ، لا تبدو المهمة الصينية بهذه السهولة، ولا يمكننا إغفال الدور الأميركي والأوروبي في المنطقة، حيث تبلغ استثمارات شركات النفط الأميركية، في آسيا الوسطى، أكثر من 30 مليار دولار، ومع وجود نصيب لألمانيا وفرنسا وبريطانيا أيضاً، ووجود خط غاز هندي دال على اهتمام نيودلهي ببوابتها الشمالية، في خضمّ كلّ ذلك تعرف بكين أنّ مهمتها ليست بهذه السهولة، في منطقة تعتبر أحد مفاتيح مستقبل العالم الأساسية.
والسؤال الآن بعد استعراض هذه المعلومات عن صراع الكبار على آسيا الوسطى وانصرافهم التدريجي بعيداً عنا.. السؤال: أين نحن من هذا الصراع الكبير المقبل وأين وزارة خارجيتنا ومراكز بحوثنا وإعلامنا المشغول بتوافه الأمور! أين؟
E-mail: yafafr hotmail.com