الشكر لليونيسكو والتحية للشعب الفلسطيني

هاني سليمان

في الثامن عشر من تشرين الأول 2016، تبنّت منظمة الأمم المتحدة للتربية والتعليم والعلوم والثقافة اليونيسكو ومقرّها باريس، قراراً ينفي وجود أيّ ارتباط ديني لليهود بالمسجد الأقصى وحائط البراق، واعتبرتهما تراثاً إسلامياً خالصاً.

حاولت حكومات الاحتلال وعلى مدى عقود، إلغاء هذا المعلم التاريخي بكلّ الوسائل، بالهدم وتخريب المعالم، ومنع الصلاة في باحاته وأروقته في محاولة لمحوه من الذاكرة الفلسطينية. وبالرغم من انّ الدين اليهودي سابق على الدين الإسلامي، فلم تستطع الحركة الصهونية علمياً وواقعياً إثبات أية علاقة للدين اليهودي بالمسجد الأقصى، وبقيت كلّ مزاعمها بهذا الخصوص مستندة الى خرافات واختلاقات.

وفي المقابل فإنّ الدين الإسلامي حافل بالشواهد، التي تؤكد انتماء هذا المعلم إليه. ذلك مؤكد بالآية الكريمة، «سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ». سورة الاسراء .

لقد سبقت هذا القرار، تقارير فنية وتاريخية رفعتها «لجنة التراث العالمي» التابعة لمنظمة الأونيسكو البالغ عدد أعضائها 56 دولة، وهذه التقارير تؤكد الارتباط الوثيق للمسلمين بالمسجد الأقصى.

الجدير بالذكر أنّ قادة العدو يطلقون عليه في أدبياتهم اسم المسجد الأقصى، فكيف يكون لهذا المسجد صلة بالدين اليهودي، أو يكون لليهود صلة بهذا المسجد؟

الغرب والخطيئة الكبرى

انّ أياً من الدول الأوروبية الغربية لم يصوّت لصالح هذا القرار، فيما امتنعت فرنسا عن التصويت. لعلها تعلّمت من درس المكسيك، الذي أقيل مندوبها في المنظمة بقرار من حكومته، بضغط من اللوبي الصهيوني، بسبب تصويته لصالح القرار في عملية التصويت الأولى.

من يطلع على لائحة المصوّتين ضدّ قرار «اليونيسكو» من الدول الأوروبية، سواء بالامتناع عن التصويت، أو بالتصويت الضدّ، يدرك بشكل واضح حجم العلاقة وحجم التأثير الصهيوني في القارة الأوروبية منذ كانت شابة، وهي اليوم عجوز هرمة.

لا زالت دول أوروبا الغربية وخاصة بريطانيا وعد بلفور على مستوى العلاقات الدولية، أسيرة القرار الأميركي بالموضوع الفلسطيني، فهي لم تنأ بنفسها عن التصويت على الأقلّ، لا بل أنشأت مع «إسرائيل» وأميركا «غرفة عمليات» للتأثير على عدد من الدول الأعضاء للتصويت ضدّ القرار.

هناك شيء ما يعتمل داخل المجتمع الأوروبي

انّ انكشاف أزمة النظام الرأسمالي الغربي العالمي إضافة الى مشاكل بنيوية أخرى على مستوى النظام والمجتمع/ مع عدم وجود بديل محتمل في الأفق/ دفع بقوى سياسية واجتماعية للتعبير عن هذا الواقع، كلّ حسب رؤيته ومنابعه الفكرية والسياسية. وقد نشأ عن هذه القوى منظمات في المجتمع المدني عبّر بعضها عن استقلاليته عن القوى المهيمنة على الدولة، فظهرت تيارات قومية يمينية متطرفة، يدعو بعضها الى طرد الغرباء من دول أوروبا ضمن نزعة عنصرية لا ترى في الآخر إلا الشرّ والسوء، كما ظهرت تيارات ليبرالية مهتمة بحقوق الإنسان والتعاطف مع القضايا المحقة في العالم، إذ استحوذت عند هذه الأخيرة قضية حقوق الإنسان في فلسطين ومسألة حصار غزة بنصيب وافر من الاهتمام، لمسناه في محطات كثيرة حين كانت غزة تتعرّض للقصف والحصار، حيث تحرك الكُتاب وأساتذة الجامعات لمقاطعة الجامعات الصهيونية أكاديمياً، كما امتنعت بعض الأسواق عن استقبال المنتوجات «الاسرائيلية» طالما هناك سياسة عنصرية ضدّ الشعب الفلسطيني.

انّ هذا الموقف السلبي تجاه العدو «الإسرائيلي» الذي يندرج تحت عنوان «الامتناع عن التعامل» قد جرى تجاوزه مؤخراً الى عمل إيجابي، فاندفعت السفن الاوروبية باتجاه غزة لكسر الحصار المفروض عليها في «حملة صليبية» مباركة هذه المرة، بعد ان كانت «حملات الفرنجة» في القرن العاشر وما تلاه، حملات احتلال وتزوير هوية وبداية استعمار.

بين الثقافة والسياسة

خلال انعقاد قمة الدول الفرنكوفونية الناطقة بالفرنسية سنة 2000 في بيروت، كتب الصحافي الشهير محمد حسنين هيكل مقالاً نشرته جريدة «السفير» آنذاك بعنوان «الفرنكوفونية وأخواتها»، كاشفاً كيف يُصنع القرار «الثقافي» في دوائر السلطات العليا في فرنسا، وكيف انه لا يمكن اتخاذ أيّ قرار يتعلق «بالفرنكوفونية» كأداة تواصل لغوي وثقافي، إلا بعد موافقة دوائر المخابرات الفرنسية على مستوى العالم.

تبدو فرنسا في امتناعها عن التصويت، أسيرة القرار السياسي الغربي والأميركي تحديداً، حتى لو تعلّق الأمر بالإرث الثقافي أو التاريخي أو المعلم الحضاري للشعب الفلسطيني.

الصمود الاسطوري

ما كان لهذا القرار التاريخي الذي يعترف متأخراً بالهوية الوطنية للشعب الفلسطيني ان يبصر النور، لولا صمود هذا الشعب العظيم منذ ما يقارب مئة سنة، ولولا تمسكه الرائع بهذه الهوية التي يعتز بها كلّ عربي وكلّ مسلم وكلّ حرّ من أحرار العالم.

لكن للأسف، فبدل ان يكون يوم إقراره يوم تحية للشعب الفلسطيني على صموده العظيم، ولوضع العدو الصهيوني أمام مأزقه التاريخي، فقد مرّ هذا القرار وبعض الأمة منشغل بهمومه، غارق بحروبه الداخلية، يعطي أذناً صاغية للأصوات الداعية إلى حرف البوصلة عن اتجاهها الحقيقي.

وإذا كان للأنظمة العربية «عذرها» بسبب كياناتها المرتبطة بالغرب الاستعماري، أو تلك التي تنشئ «علاقات استراتيجية» مع العدو الصهيوني باسم العروبة، فما هو عذر القوى الشعبية العربية عروبية وإسلامية عن التقاط هذه المناسبة وفاء لفلسطين وتجديداً لدمها المتخثر، وإنعاشاً لقلبها العليل.

في السنة المقبلة ينطوي قرن كامل على وعد بلفور البريطاني بإعطاء فلسطين وطناً لليهود الصهاينة، والشعب الفلسطيني يقاتل بلا يأس أو كلل في خط الدفاع الأخير عن هويته العربية وعن تراث المسلمين والمسيحيين في فلسطين على حدّ سواء. فلتكن الذكرى المقبلة لوعد بلفور مناسبة لبداية صعود العهد العربي وانهيار المشروع الصهيوني في بلادنا.

رئيس لجنة المبادرة الوطنية لكسر الحصار عن غزة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى