حسن العبد الله… أبدع شاعراً وباغتنا رسّاماً!
اعتدال صادق شومان
في التقاء البعد المضاعف في منطقة السحر الكامنة في نسغ الكلمة واللون وما بينهما من صلات ووشائج، تتبّع صاحب «الدردارة» نبض الكلمات وما يماثلها مساحة أو أقل، ليعيد ابتكار مكنون أحلامه ودواخله بأبجدية اللون هذه المرّة، كتلاصق إبداعيّ بما يشبه تواطؤ مريب بين شطحة قلم ومهبّ ريشة!
عرفنا حسن العبد الله على مدى أربعين حولاً في إطلالاته الشعرية، سوّغها لمحات وتأملات بجمالية عالية بتجواله الدؤوب بين الملموس والمتخيّل. عشق انهمار اللون والصوت والرائحة على عادة الشعراء في عشقهم الطبيعة، فاستظلّ بظلّها، يحاورها وتحاوره، يأتمنها أسراره قبل أن تطفو على سفح قصيدة في أربعة دواوين 1978 ـ 2012 «أذكر أنّي أحببت»، «الدردارة»، «راعي الضباب»، و«في ظلّ الوردة»، وأيضاً حكايات الأطفال، ولأجمل الأمّهات أغنية.
بهذا المناخ الشاعريّ أغوى اللونُ حسن، وبهذا الصبو التحق بمن سبقه من الشعراء الذين امتلكوا ناصية الشعر والرسم معاً، يسكبون الروح على الورقة والقماشة، بما يشبه تعانقاً سرمدياً في عوالم إبداعية في أدوات الخلق، وسيلتاهم يراع وريشة، كأداتين للتعبير تملكان الأغراض الجمالية ذاتها، كلمة وصورة وقد قيل قديماً: «الرسم شعر صامت والشعر تصوير ناطق». وقيل أيضاً: «وبالريشة كانت بداية الكتابة».
في «ظلّ الوردة»، قدّم العبد الله تجربته الأولى مع اللون. فبعثر من يده قبضة زهور وظلّلها «غلافاً» لتشهد على إقامته الأولى بين الكلمة واللون.
امتلك خربشاتها صغيراً على عجل وبغير مكوث. ذاك الصبيّ الشقيّ المطاردُ ظلّه الهارب على ضفاف «دردارة»، قبل أن تسرقه «بنات الشعر» ليمتشق أولى قصائده في الثانية عشرة من عمره. و يتوارى الرسّام الصغير خلف شاعر الفراشات الملوّنة.
«هناك دائماً نور لنجم يرفع الظلمات عنا»، كمل ما يقول شاعرنا في قصيدته «نور»، وقد تبدّى ذاك النجم لـ«الشاطر حسن» على مقعد مدرسة حين فطن لموهبته الدفينة رائد الفنّ التشكيليّ آنذاك رشيد وهبي، فبادر إلى احتضان الموهبة الطرية لملكة الرسم، فسَمَّدَ له تقنياتها وأسرارها. وعلى وهم، تتوارى اللوحة مرّة أخرى خلف عناد «شيطان الشعر». فـ«للظروف أحكامها» على ما يدّعي حسن.
إلّا أن وقائع هذه السيرة المشحونة بالتأمّلات المرابطة بين دعة «الدردارة» وصخب مدينة، طالما رواها العبد الله عل مسمع شلّة الأصدقاء في أمسيات أحد مقاهي شارع الحمرا، حين تلقّفتها ذات مساء الفنانة التشكيلية خيرات الزين، فأودعت على باب داره العدّة الملوّنة مرفقةً بدعوة حازمة: «اُرسُم يا حسن: لقد أمضيتَ حياتك وأنت تنقّب في الأرض فماذا جنيت؟ لِمَ لا تحمل معولك وتتجّه إلى السماء؟».
وفعلاً، سرعان ما نطق حسن مفصحاً متأملاً جملةً وتفصيلاً إلى سمات ومعانٍ، وألوان اتّسقت بين الأزهار البيضاء والصفراء والحمراء، تضجّ في أنحاء الحقل. فاختار لها العبد الله الأخضر سيداً مختالاً على بواحير الطبيعة أهبة ريح، سطوع وسكون، وترنح ضوء وظلّ عند أفق بين غياب وشروق. سلام متصدّع، انزلاق نهر، وأشجار راقصة، و«دردارة» معمّرة.
باختصار، هي رحلة في رحاب فنان في نبض مدلولاتها وإيحاءتها تعكس لحظات شغف استثنائية فاضت بها روحه ولم تعتقه شاعراً ولا رسّاماً. أوليس هو القائل: أمشي بين صفَّي تين في «سهل مرجعيون
تحت جنون شمس الصيف
أو على التلّ أو من وراء التلّ
يأتي أسر الروعة
آذان الظهر في الضيع؟
امتشق حسن العبد الله ريشته بما سمحت به المساحة الضؤئية بين انبلاج وغسق، ليستولد على بعد أربع سنوات ديوانه الجديد «المقام الأخضر». وفي تكامل مشهديّ بين اللوحة والشعر، حمّل العبد الله «بناته» الـ37 لوحات أسماء بما يشيه إنتاج قصيدة على قافية اللون: أفق القرية، يوم غائم، ألفة عناق الغصون، جنّة الذاكرة، ضفاف برّ وماء، عناق بين ظلّ الضوء، غياب، فرح عارية…
إلى عالم من الأشكال والتكوينات والخطوط أخذنا العبد الله في معرضه الأول «المقام الأخضر» تجوالاً في متاهات نصّ ملوّن في اسثتثمار جميل لمكوّنات الطبيعة في مزاجها المتغيّر، توازياً في التفاصيل والجزئيات والمنحى العام للوحات علّقت على جدران «دار الندوة» وسط إحاطة فنية حاشدة.
في صفوة القول: غاب حسن العبد الله ردحاً من زمانه، وباغتنا في روعة حضوره.