كي لا يقتل أمَّه مرّتين…

يعقوب مراد

لم أكن أعلم بأنّ قاتلاً سيتأثّر بعبارتي الشهيرة: «يا أولاد عمّي.. سأقولها لكم بملء فمي، إن سامحتكم بدمي فلن أسامحكم بقتل وطني».. لم أكن أعلم أو أتوقّع، بأنه سيتأثر ويرمي سلاحه ويعترف بقتل أمه، ويندم على كل ما فَعَله بحق وطنه وأهله.

المفاجأة الأولى: استغاثة قاتل

كنتُ على وشكِ إغلاق جهاز الكمبيوتر، حينَ فوجِئتُ بشاب يكتب لي على موقع التواصل الاجتماعي «شات الفايسبوك»: «أستاذ دخيلك أنا قتلت أمّي وبحاجة إلى مساعدتك»؟

لجمتني العبارة! واندهشتُ، فعدتُ وقرأتها من جديد لأتأكّد وأصدّق ما تراه عيناي، وكتبتُ له مستفسراً: «ما هذا الكلام الذي تقوله؟! الوقت متأخّر جداً ولا أريد أكاذيب ولا مزحاً ثقيلاً».

عاد يكتب لي: «أرجوك يا أستاذ.. أعطني بعض الوقت واسمعني. الموضوع مهم جداً، وأنا أكاد أقتل نفسي لأنني منهارٌ تماماً وضائع ومحتار، ولا أعرف ماذا أفعل…!؟ إنني بحاجة لنصيحتك، لأنني فعلاً تسبّبتُ بقتلِ الكثيرين ومنهم أمي، وأيضاً تسبّبتُ بإصابة خطيبتي..»

طلبتُ منه أن يهدأ، ووعدته بأنّي سأسمعه للنهاية وسأعمل جهدي لمساعدته بشرط أن يكون صادقاً، وبعد أن عرفت بأنّه اختارني، لأنه يقرأ لي باستمرار، وأنه قرأ عبارتي: «يا أولاد عمي أسامحكم بدمي ولكني لن أسامحكم بقتل وطني».. فكّر أن يلجأ إليّ، وإن رفضتُ سماعه سينفذ ما فكّر به، ألا وهو الانتحار!

نصحته أن يُلغي فكرة الانتحار أولاً، ثم يروي لي كلّ شيء بالتفصيل المملّ، وبدأ يروي لي حكايته الغريبة..

المفاجأة الثانية: سلاح الشيطان

في قرية صغيرة جداً من قرى سهل الغاب، يعيش هذا القاتل مع أسرته، ولظروفٍ خارجة عن إرادته، لم يكمل دراسته بعد مرحلة الإعدادية فلجأ لمساعدة والده عن طريق العمل على «طرطيرة» صغيرة، لنقل الخضار والفواكه من مدينة محردة إلى بعض القرى القريبة مثل «حلفايا» و«اللطامنة» و«شيزر» و«خربة» وغيرها…

حين أصبحَ في الثامنة عشرة من عمره، أجبره والده على عقد قرانه على ابنة عمّه، وكانت حياته تسير بهدوء وروتين شديدين، ولم يكن ينقصه إلا المال، ومنذ ثلاثة أشهر تقريباً وبالتحديد صباح السابع من أيلول، أوصل نقلة خضار لضيعة «حلفايا» والتقى رجلاً حدثه عن إمكانية أن يكون رجلاً وطنياً يُقدّم خدمة لوطنِه ويكسب مالاً كثيراً، لو ساعدهم بنقل بعض الأسلحة لبقية الثوار في القرى المجاورة، وذلك عن طريق نقلها مع الخضار والفواكه، ولقاء مبلغ ألف ليرة مقابل كلّ مرّة …

في البداية رفض العرض، لكن وتحت إلحاح الحاجة المادية لإتمام زواجه بأسرع وقت، وأيضاً، تضامناً مع «الثورة المباركة»، وافق وبدأ بنقل أسلحة إلى قرى مجاورة، وكانت الصعوبة في البداية فقط، ثم بات الموضوع لديه، في منتهى السهولة.

هذا ما شعر به، ولا سيما بعد أن كثُرَ المال بيديه. أيضاً، بعد أن صدّق وهم كون اسمه سيجعله من الأبطال الذين صنعوا الحرية في سورية.

من هنا، أصبح وقبل مرور شهر أيلول وتشرين الأول، يعرف كلّ الرجال الذين يتسلّمون منه الأسلحة، ويعرف بأنهم يتقاضون مبلغ 1500 ليرة سورية لقاء كلّ عملية، ومبلغ ألفي ليرة سورية مقابل كلّ عبوة ناسفة يزرعونها في الأماكن التي يتمّ اختيارها، وبدأ يحسبها بشكل مادي، فهذه فرصة جيدة حتى يجمع المال اللازم للزواج!!

وتطورت مهمته، فبدأ بالخروج مع المسلحين ومشاركتهم نصب كمائن الموت للسيارات الخاصة أو لباصات النقل.

في البداية كان المطلوب أن يزرعوا الخوف والرعب، ولم يكن الهدف القتل! ولكن، مع تضييق الجيش العربي السوري عليهم بمساعدة بعض الأهالي الذين بدأوا في تشكيل مجموعات لحماية الحارات والأماكن الخاصة، وصلتهم أوامر بقتل الجيش، أو أيّ هدف يكلّفون بالتخلص منه.

المفاجأة الثالثة: إغراء المال

اعترفَ لي هذا القاتل بكلّ هذا، مضيفاً، بأنّ أمّه كانت تسأله عن مصدر المال الذي يضعه بين يديها، وبأنه كان يكذب عليها، ويخبرها بأنّه يعمل كثيراً من أجل الاستعداد لتجهيز ابنة عمه، وبأنّه يريد إتمام الزواج قبل نهاية العام .

أما عن والده، فقد فرح كثيراً لنشاطه وعمله المزعوم، وكان يقول له دائماً، قل: «يا رضى الله ورضى الوالدين وحياتك ستكون بألف خير».

في صباح أحد الأيام الخريفية الجميلة، حيث أشجار الزيتون والمواسم والقطن في الأراضي مثل ندف الثلج، خرج الشاب من منزله وتمنى له والده التوفيق والنجاح في مشواره… بعد ساعة تقريباً، التقى المجموعة وتمّ تشكيل مجموعتين، تتألف كلّ واحدة من سبعة أشخاص.. المجموعة الأولى تكون على الطريق القريبة من قرية مجدل، ومهمتها إطلاق الرصاص على السيارات المارة في كلتا الجهتين، والمجموعة الثانية التي يقودها هو، مهمتها زرع سبع عبوات ناسفة تحت جسر محرده…

في الوقت المحدّد لتنفيذ العملية. انقسمت المجموعتان، وذهب مع مجموعته وزرعوا سبع عبوات ناسفة تحت جسر محرده، وبينما كان عائداً تعرّض لإصابة خفيفة فنقله بعض أفراد الجيش السوري، ممن ظنوه أحد المواطنين العاديين الذين يتمّ إنقاذهم.. نقلوه إلى المشفى في محرده… شعر لأول مرة بالخجل والعار، ولأنه كان ضمن من يقتلون المدنيين والجيش السوري الذي كان من أسعفهُ وبكلِّ أخلاق ومحبة.

مرة أخرى شعر بالخزي، وعندما كان الطبيب المحرداوي المناوب يضمّد جروحه ويُخبره أنْ ينتبه لنفسه لأنّ هُناك مَن يغرّر بالشباب. لكن، ما أشعره بالخزي أكثر، قول الطبيب: «تصوّر بأنّ هناك من يفجّر ويقتل لقاء مبلغ ألف أو ألفي ليرة سورية، وهذا أقلّ بكثير من ثمن غماز سيارتي، فهل أصبح الإنسان أرخص من لمبة سيارة»؟!

لم ينقذه من ارتباكِه وشعوره بتفاهته، سوى صوت صراخ في قسم الإسعاف بأنّ هناك إصابات وجرحى… طلب منه الطبيب الخروج وفسح المجال لسواه من المصابين إصابات خطيرة.. خرج الطبيب مسرعاً فلحقه خِلسة وغادر المشفى.

وفي طريقِه سَمِع بأنّ بولمان «الأهلية» لرحلة محرده تعرّض لإطلاق نار وأنّهم ما زالوا محتجزين في قرية المجدل لا يستطيعون المرور.. اتصل عن طريق هاتف عمومي بالأمن، وأخبرهم بأنّ هناك سبعة عبوات ناسفة تحت جسر محرده، ثم أكمل طريقه لضيعته مُصمّماً بأنّه سيتوقف نهائياً عن المشاركة بمثل هذه الأعمال القذرة..

المفاجأة الرابعة: قتلتُ أمي

أسرع إلى قريته، فكانت المفاجأة التي صعقته، إصابة خطيبته التي كانت ترقد في مستوصف الضيعة.. هرع إليها، فراحت تُخبره وهي تبكي بأنّها كانت مع والدته في مدينة حماة، وبأنهم اشتروا بعض الذهب وحاجيات العرس، وفي طريق عودتِهم تعرّضوا لإطلاق نار كثيف، فحضنتها أمّه لتحميها فكان نصيبها رصاصتين بالرأس وبالقلب. أمّه التي ماتت وهي تحاول حماية خطيبته والتي كانت تتمتم وهي تلفظ أنفاسها: اللعنة عليهم… اللعنة عليهم…

سمع كلّ ذلك، فارتمى يبكي في حضن أبيه الذي كان يشتم الإرهابيين الذين زرعوا الرعب والموت باسم الحرية، وعرف وتأكّد بأنّه السبب بقتل أمه، ومن شدّةِ ندَمِه وغضبِه، بدأ يضرب رأسه بالجدار حتى سال دمه فتم إسعافه…

المفاجأة الخامسة: التفكير بالانتحار

في اليوم الثاني تمّ دفن أمّه، التي ترك موتها في قلبه ناراً لا يعرف سببها سواه، وكانت ثمّة أفكار تعصف في رأسه وقلبه تكاد تقتله.. باسم الحرية ولأجل المال نقل الأسلحة بيديه، وزرع عبوات ناسفة هنا وهناك، وشارك بسفك الدماء والرعب والموت، وتمنّى للمجموعة الثانية التوفيق بمهمتها التي كانت سبباً بقتل أمه وتشويه خطيبته..

فعل ذلك، فاستحقّ غضب السماء ولعنة والده الذي كان يفتح يديه دائماً للسماء ويتمنّى القصاص من الإرهابيين والقتلة.

لم يعد يحتمل شعوره بالخزي أمام ما اقترف جهلاً وجشعاً، ولم يتمكن من مسامحة نفسه.. لذا، جهّزَ مسدّسه وقرّر الانتحار.. ذهب ليتجوّل ويودّع محردة. هذه المدينة المسالمة والطيبة جداً، والتي احتضنته ووفرت له عملاً.. محردة، التي شاهد بأمّ عينيه كيف أحتضن أهلها، الذين هربوا اليها من حماة وقت الشدة، وكيف فتحوا لهم بيوتهم والدير الكنسي الذي كان لهم مكاناً آمناً… أيضاً، كيف أمّن أهلها لهم الأكل والشرب والملبس بغضّ النظر عن انتمائهم الديني أو الفكري، ومن منطلق إنساني.

محردة، المدينة التي تتكئ على نهر العاصي وهي تغني الأوف والميجانا والفرح، والتي هي المركز التجاري لكلّ المنطقة ..

تجوّل في هذه المدينة، وعاتب ولام نفسه كثيراً، لأنه انساق مع القتلة وشاركهم في حرق سياراتها أو «موتوسيكل» أحد أبنائها، ولأنه ساهم في بثِّ الرعب بين سكانها الطيبين..

بين سكان مدينة «غادة شعاع» البطلة العالمية، والأطباء والمهندسين والأدباء مثل محفوض أيوب ومفيد نبذو الذي سامح الذين حاولوا قتله مقابل ألا يقتلوا الوطن…

وقف حزيناً يلعن نفسه، وقرّر أن يضع حدأ لما فعله وأن يُخبرني لأعرف القتلة وأكشف حقيقة ما حدث، وما يحدث .

المفاجأة السادسة: صحوة ضمير

استغرق حديثنا حوالى خمس ساعات، ولكنّه أعطى نتيجة إيجابية حين اقتنع بأنّ انتحاره لن يحلّ المشكلة أبداً، وسيبقى القتلة يمارسون هوايتهم الإجرامية، وسيبقى هناك غيره ومثله ما زالوا يقبضون ويقتلون ويزرعون الرعب…

نصحته، وبما أنّه قرّرَ الموت، أن يموت بشرف، وأن يكون لموته معنى وقيمة. وعن طريق اتصاله بالأجهزة الأمنية وتسليم نفسه، والاعتراف لهم بكلّ ما يعرفه عن المجرمين الذين يغرّرون بالشباب.

نصحته أن يفعل ذلك، كي لا يكون سبباً بقتل أمِّه مرتين.. أمه التي حملتهُ وسورية التي احتوته.

المفاجأة السابعة: العين الساهرة

انتهى الحديث بيننا.. فوجئت في اليوم الثاني، بأنّ هذا القاتل قد سلّم نفسَه، وبأنّ مجموعات عسكرية وأمنية، توجّهت وبناءً على اعترافاته إلى كلّ من حلفايا والخربة، حيث اصطدمت في اشتباكات عنيفة مع المطلوبين تمكّن على أثرها الجيش والأمن من السيطرة على الموقف وقتل ستة من المجرمين وقبض على مجموعة كبيرة من المطلوبين وصودرت كميات كبيرة من الأسلحة.

المفاجأة الثامنة: كلمة أخيرة

يوم الجمعة صباحاً تلقّيتُ رسالة بالبريد الالكتروني، عرّف عن نفسِه بأنّه الضابط الذي أشرف على التحقيق مع الشاب الذي سلّم نفسه بناء على نصيحتي، وأنه يشكرني جداً ويريد أن ينقل لي رسالة شفهية من الشاب المذكور يقول لي فيها / بأنّه الآن يتمنّى أن يسامحه الله أولاً، وأهله ثانياً، وبلده ثالثاً… وأن أكتب حكايته لتكون عبرة للآخرين وأمنيته الأخيرة أن تكون أمه الكبيرة سورية بألف خير…

كاتب سوري مقيم في السويد

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى