سؤال ما بعد داعش يتعلّق بمصير التنوّع في المنطقة

ناريمان منصور

أصبحت الجريمة مثل هاجسٍ يحوّله أعداؤنا إلى صفة لازمة لمجتمعاتنا. تعدّى الأمر كون ما يحصل هو جريمة موصوفة. لقد تفتّحت مدركاتنا منذ الصغر على أنّ بلادنا هي محطّ أنظارٍ يملؤها الرّعب اتجاهنا، فقامت بصناعة الرّعب بيننا وفي نفوسنا.

«داعش». هذا المكوّن الذي لا هويّة له ولا انتماء سوى ما يدّعيه من شعارات و»تشريعات» لطّخوها بصفة إسلاميّة محمّدية. حاولوا جاهدين أن يكون هذا التنظيم هو الصفة اللازمة للإسلام المحمّدي بتطبيق بعض الآيات القرآنية كمصدر لتشريعاتهم.

بدأ الرّعب ومعه تفاقم الخطر. تحوّلت حياة الناس إلى استحقاق وجود. كيف نستمر؟ كيف نحافظ على وجودنا؟ من نكون؟

لا شكّ أنّ أسئلة كهذه هي محوريّة في تحديد الهويّة والانتماء، في تحديد الصيغة التي هي عليها مجتمعاتنا قبل أن تصبح تحت صيغة سياسات حاولت جاهدة تقديم مشروع وطنيّ، منها ما فشل في تحقيق هذا المشروع ومنها ما يزال يحاول دائباً إلى تحقيقه، الأمر الذي أدّى، بقصد أو من دون قصد، إلى إلغاء الصفة التي تُميّز كل مكوّن عن آخر باعتبار أنّه له مرجعيّته الإثنيّة والدينيّة في التاريخ قبل نشوء تلك السياسات بزمن بعيد، فكانت النتيجة دمجها وامتثالها للصيغة السياسيّة مخبّئة حقيقتها تارة، أو متقوقعة على ذاتها تمارس تفاصيلها بشكلٍ سرّي مشوب بالخوف تارةً أخرى.

أعتبر هذه توطئة لما أريد الحديث عنه، فتنظيم «داعش» استهدف من ضمن ما استهدفه «مكوّنات» بعينها، نستطيع أن نُشير إليها بمنتهى الوضوح. فهو ارتكب جرائم لا توصف بحق الآشوريّين والإيزيديّين والمسيحيّين والعرب الذين لا يدينون بإيديولوجيّته ولا يوالون لتطلّعاته، بل هو يعتبرهم خطراً يواجه وجوده الذي يسعى إليه في بلادنا. هم بالنسبة له حالة شاذّة وهو الحالة الصحيحة، إنّهم «أقليّات» كافرة، كأنّ توصيفهم بأقليّات تناسب مشروعه!

من هنا، كان من الواجب متابعة ما يتعلّق بهذه التفاصيل، متابعة إلى أين يؤول مصير أولئك الذين تعرّضوا للقتل والتهجير، إن نجوا، وأولئك الذين تعرّضوا «للسّبي»، حتى أنّنا عندما ننظر إلى مصطلح «سبي» يشوبنا انطباع بحالة رجعيّة تذهب بنا بعيداً في الزمن إلى الوراء. تخلّف! في الحقيقة هم تعرّضوا لسرقة حقيقتهم المتلازمة مع كينونتهم في الوجود على أرض واضحة المعالم جغرافيّاً، ضمن محوى اجتماعيّ هم فيه صيغة من صِيغ تأكيد الهُويّة رغم، وتجاوزاً، محاولة السياسات دمجهم مع غيرهم بُغية توحيد المجتمع بما يُلغي أو لا يُلغي من يكونون، وذلك وفق سياسة البلد الذي يوجدون فيه، أضف إلى كلّ هذا ما تمّ تدميره من تراث وحضارة قديمة يُعدّان من أهم مؤكّدات الشعوب.

هذا يتماشى تناسباً وتوازياً في سورية والعراق. كفّة موازين تتكافل مع بعضها. الدمار والقتل والسرقات بصيغة واحدة. الجغرافية واحدة! امتداد المساحات غير المنفصلة بعوامل جغرافيّة ذات وضوح صارخ يوحّد المجتمعات في البلوى!

«وتساءل طفـلٌ مرَّ بصمتي هل بغدادُ على بردى؟ أومأتُ بقلبي وعـلى دجلة أيضاً تقع الشام». مظفر النواب .

بالعودة إلى موضوع وجوب متابعة ما يحدث، أوصلتني متابعتي إلى الوقوع على تقارير تدارست موضوع ما بعد «داعش»، والأهم والأخطر هو مآل من هم تحت سلطة «داعش» ممّن سُرقوا من بيوتهم وقراهم ومدنهم، نساءً وأطفالاً. إنّ النتائج مرعبة، تصنع ما تصنعه من الألم. لم أكن لأتجاوز حالة القيد بالألم لساعات وأنا في ركنٍ في أحد زوايا مكان إقامتي في بيروت، أفكّر بذهول ومرارة ماذا حلّ ويحلّ بهؤلاء الناس.. أيّ واقع يعيشون. عمليّات غسل دماغ واغتصاب وتوظيف متعدّد الجوانب لا يمكن أن يجد من يمارسها أيّ رادع له. لا عقل! كيف سيعود الإنسان طبيعياً بعد ما يتعرّض له من كلّ تلك الممارسات؟ وهل يفيد الطب النفسيّ والجسديّ في تصحيح ما حدث؟ لكنّ هذا يقودنا إلى التفكير بمستقبل تلك المكوّنات «الأقليّات». ما هي حقوقهم ومن يعترف فيها؟ هل هم قادرون على تحقيق شيء منها؟ ما هي متطلّباتهم؟ حقوق دينيّة من ضمن حقوق اجتماعية؟

وضمن هذا المجال وجّهت مؤسسة مسارات، وهي منظمة غير حكوميّة متخصّصة بالدفاع عن التنوّع في العراق والعالم العربي، في إحدى نشاطاتها ملفّ الدفاع عن حقوق الأقليات الدينيّة بما يلي:

«ممثّلو الاقليّات الدينيّة يطالبون بضمان حرية الدين والمعتقد في لقاء عُقد ببغداد، وبحضور ممثّلين عن الأقليّات الدينيّة في العراق ومسؤولي أوقاف المسيحيّين والإيزيديّين والصابئة المندائيّين وخبراء حقوقيّين»، بخطوة تُعتبر هامّة على صعيد تدارس حالات المكوّنات وحقوقها.

ويتابع التقرير: «جرى نقاش موسّع حول حقوق الأقليّات الدينيّة في العراق، مثل المسيحيّين والإيزيديّين والمندائيّين والبهائيّين وأقليّات أخرى، حول أبرز التحدّيات التي تواجه حرية الدين والمعتقد في العراق».

ولكن، ماذا بعد النقاش، وأين الخطوات العمليّة وكيف ستُترجَم الأفكار على أرض الواقع؟ يتابع التقرير: «افتتح الريش أمة «ستار جبار حلو» رئيس الطائفة المندائيّة النقاش مطالباً بتعديل قانون البطاقة الوطنيّة الموحّدة بما يضمن حماية حقوق الأقليّات الدينيّة والتمييز على أساس الدين أو المعتقد، وإلغاء المادة 26 من قانون البطاقة الوطنيّة الموحّدة التي تؤدّي إلى أسلمة القاصرين من أفراد الأقليّات الدينيّة من دون اختيارهم».

لا شكّ أنّ اقتحام قانون البطاقة الوطنية الموحّدة مسألة غاية في الأهمية، فهذه البطاقة تُحدَّد وفق مرجعيّة الهُويّة الوطنيّة. لهذا، ممّا لا بُد منه التوافق على هذه الهوية بحيث تضمن حقوق جميع المكوّنات. الأمر الذي يُلزمنا وفق ما عرفناه واختبرناه من تجارب أن نتكاتف ونعمل جاهدين على إقرار الهويّة الوطنية، ليس لأنّها غير مُحدَّدة سابقاً، ولكن لأنّها خضعت لمعايير ظروف السياسات وتراكمات الأحداث الداخليّة والخارجية فتعرّضت نسبيّاً لخلل في توصيفها كهويّة جامعة.

وبالعودة إلى التقرير، نقرأ: «عرض ممثّل البطريرك لويس ساكو «الأب ألبير هشام» التحدّيات التي تواجه المسيحيّين في موضوع أسلمة القاصرين، مبيّناً أنّ عدم الاتفاق على ثوابت الإسلام يُتيح المجال لتفسيرها على نحو عام يهدّد الحريات الدينيّة للأقليّات العراقيّة. وتطرّق هشام إلى المادة 2 أولاً، التي تنصّ على أنّ الإسلام دين الدولة الرسميّ، وهو مصدرٌ أساس للتشريع ومدى تطبيقها على نحو يجعل هويّة الدولة غير واضحة، هل دولة دينيّة لا مكان فيها لحقوق الأقليّات الدينيّة أم دولة مدنيّة تتّسع لقبول جميع أفرادها بوصفهم مواطنين على قدم المساواة؟».

السؤال الذي يطرح نفسه هنا: عندما يكون دين الدولة الرسميّ هو الإسلام، وهو المصدر الأساس للتشريع، ما هو حال أبناء الدولة من غير المسلمين؟ وما هي التشريعات التي توافق دياناتهم؟ الأمر الذي يقودنا إلى استنتاج وجود تفاوتات من الممكن أن تقود بقوة إلى التمزّق الاجتماعي أمام مُعطى يحتاج الكثير من المراجعة هو: دين الدولة!

ونجد أيضاً في التقرير: «استفاض الخبير القانوني «صائب خدر» في شرح المعضلات القانونيّة المترتّبة على حرمان الإيزيديّين من هويّتهم الدينيّة لدى تحوّل أحد الوالدين إلى الإسلام، مورداً أنّ هناك حالات بالمئات تدفع العديد من الإيزيديّين للهجرة. فضلاً عن ذلك، تطرّقت الأميرة «أمية بايزيد إسماعيل» من الوقف الإيزيدي إلى تحدّيات تتعلّق بالأطفال المولدين نتيجة اغتصاب مقاتلي تنظيم «داعش» للنساء الإيزيديّات، والذين هم حسب قانون رعاية القاصرين العراقيّ يُعدّون مسلمين، بسبب مجهوليّة الأب».

ويتابع: «لمواجهة هذه الحالات التي تتضمّن تعارضاً بين التشريعات والحقوق التي تضمّنها الدستور، اقترح الخبراء القانونيّون في الجلسة إصلاح النظام القانوني لجعله أكثر انفتاحاً على ما تتضمّنه الصكوك والاتفاقيات الدولية الضامنة لحرية المعتقد. أمّا بخصوص عدم الاعتراف ببعض الأقليّات الدينيّة، فقد أشار السيد «ضياء يعقوب» ممثّل الطائفة البهائيّة إلى أنّ دستور العراق للعام 2005 لم يذكر البهائيّين ضمن الأقليّات الدينيّة المعترَف بها م2-2، بل إنّ البهائيّة محظورة قانوناً منذ العام 1970 مع صدور قانون تحريم النشاط البهائي، وإنّه لا بُدّ من إلغاء هذه التشريعات بسبب مخالفتها للدستور».

وأشار سعد سلوم، المنسّق العام لمؤسّسة مسارات، إلى أنّ «الهدف من هذه اللقاءات يتمثّل بالعمل على إنهاء جميع ما يحدث من أشكال التمييز على أُسُس دينيّة، وأن يتمّ التصدّي بصورة كافية لانتهاكات حرية المعتقد بصرف النظر عن الانتماء الديني لمن يقوم بالانتهاك والطرف الذي تُنتهك حقوقه الدينية، وأن يتمّ الوصول إلى وثيقة إعلان مبادئ لمناهضة التمييز على أساس دينيّ أو لأيّ أسباب أخرى، لمنع الانقسام على أساس دينيّ أو طائفيّ داخل المجتمع، والتغلّب على هذه الانقسامات، وتعزيز الشعور الفرديّ والجماعيّ بممارسة الحريات الدينيّة بأمان بالنسبة لجميع أتباع الأديان والمذاهب الدينيّة في العراق، والعمل على الاعتراف بالأقليّات الدينيّة غير المعترف بها، وإلغاء التشريعات التي تجعل وجود بعض الطوائف الدينيّة «غير شرعيّ» أو تحظر الشعائر والمعتقدات الدينية». هذا، ومن الجدير بالذكر أنّ مؤسسة مسارات هي منظمة غير ربحيّة تهدف إلى تعزيز التنوّع في العراق، وهي من مؤسّسي المجلس العراقيّ لحوار الأديان.

هنا، إذا ما قرأنا هذه المحاولات الجادّة لصنع تغيير في واقع يخلو من صيغة «المواطنة» وتوحيد عوامل التنوّع في المجتمع، أيّاً كان نمط هذا التنوّع، نجد ضمنيّاً مطالبة جادّة لفصل الدين عن الدولة، ولجعل الهويّة الدينيّة الطائفيّة، هذه الهويّة التي تمّت صياغتها بعمليّات تمييز وتهميش واعتداءات تسبّبت فيها الحروب التي تتعرّض لها البلاد أو القصور في إدارة الحقوق والواجبات، خياراً ذاتيّاً لا إكراه فيه يتوقّف عن كونه جوهر قيمة الإنسان في وجوده في عالمنا العربيّ. الأمر الذي يضعنا أمام تساؤلات كبيرة وخطيرة في آن: ألسنا بحاجة لفهم جدّي لماهية الهويّة الوطنيّة، ولفهم كيف تنشأ هذه الهويّة؟ ألسنا بحاجة لتفعيل برامج تعزيز المواطنة بعيداً من أيّ انتماء عرقيّ أو طائفيّ؟

في اليومين الماضيين وردت تقارير لمنظمة حقوق الإنسان تؤكّد بما لا يدعو للشكّ أنّ عرباً تعرّضوا لمعاملة عنصريّة من قِبل أكراد في شمال العراق. وهل يختلف هذا الوضع عن الوضع في سورية؟ تبقى التساؤلات قيد البحث عن إجابات وحلول!.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى